من المقرر ان يزور امام الازهر الشيخ احمد الطيب العراق خلال الشهر الجاري، وفق ما تم الاعلان عنه قبل بضعة شهور، وما اكدته قبل اسابيع قلائل مصادر مختلفة من بغداد والقاهرة، وتأتي الزيارة التأريخية المنتظرة بناء على ثلاث دعوات حملها رئيس الوقف السني في العراق سعد كمبش الى امام الازهر، خلال لقائه به في القاهرة في الحادي عشر من شهر اذار-مارس الماضي، والدعوات الرسمية الثلاث جاءت من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، والوقف السني. اضافة الى دعوة اخرى لزيارة اقليم كردستان، حملها وفد من وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في الحكومة المحلية للاقليم، بعد فترة وجيزة من زيارة رئيس الوقف السني.
ومع ان دعوات سابقة قد وجهت لامام الازهر من قبل جهات وشخصيات سياسية ودينية عراقية في اوقات سابقة، الا ان شيئا لم يتحقق لاسباب مختلفة، لعل ابرزها واهمها طبيعة الظروف السياسية والامنية التي شهدها العراق بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003.
ورغم ان الازهر الشريف، يعد المركز الديني الابرز في العالم الاسلامي بهويته السنية، مثلما تعد النجف الاشرف، المركز الديني الابرز في العالم الاسلامي بهويته الشيعية، الا ان طبيعة ارتباطه بالمؤسسة السياسية الرسمية في مصر، وكذلك انسجامه مع مجمل رؤى ومواقف المنظومة السنية في الاطار العام الشامل، لاسيما في المملكة العربية السعودية، لايتيح له رسم سياساته ومواقفه وصياغة توجهاته بمعزل عنها، لذلك فأن بقاء الازهر بعيدا عن العراق مايقارب العقدين من الزمن، حكمته واملته حسابات سياسية معينة، لم تخرج عن سياق الموقف العربي العام من النظام السياسي الجديد في العراق، ومدى قربه من الجمهورية الاسلامية الايرانية بهويتها الشيعية.
لم يتبنى الازهر مواقف واضحة حيال موجات الارهاب التكفيري الذي تعرض لها العراق منذ عام 2003، مرة من خلال تنظيم القاعدة، ومرة من خلال تنظيم داعش، وعناوين ومسميات اخرى، كانت تدور في فلك هذين التنظيمين، رغم انهما استهدفا الكثير من الشخصيات السياسية السنية العراقية وغير العراقية، وقد كان السفير المصري في العراق ايهاب الشريف ضحية الارهاب، حينما تم اختطافه وقتله من قبل عناصر القاعدة في شهر تموز-يوليو من عام 2005.
وفي اواخر عام 2014، ثار جدل فقهي واسع على خلفية اصدار الازهر بيانا رسميا يرفض فيه تكفير تنظيم داعش الارهابي، ارتباطا بما طرح من مواقف في كلمة لمفتي نيجيريا الشيخ ابراهيم صالح الحسيني خلال له بمؤتمر الازهر لمواجهة العنف والتطرف، بتكفير داعش، الامر الذي اعتبره الازهر غير صحيح، قائلا في بيان له في حينه “لو حكمنا بكفرهم لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير، وهو ما لا يمكن لمنهج الأزهر الوسطي المعتدل أن يقبله بحال”، علما ان ما اقترفه تنظيم داعش من جرائم في العراق وسوريا والعديد من الدول، يستلزم ليس تكفيره فحسب وانما محاربته، وقد تعرض الازهر بسبب ذلك الموقف لانتقادات حادة من شخصيات علمائية واوساط دينية مختلفة.
ربما تكون مشيخة الازهر، قد ارادت تجنيب نفسها والمجتمع الذي هي فيه دموية واجرام داعش، الذي كان في ذلك الحين يعيش ذروة انتشاره وسطوته وتوسعه، ناهيك عن التأثيرات والضغوطات عليها من مراكز ومؤسسات ومحافل دينية اخرى بقيت متعاطفة ومؤيدة للجماعات والتنظيمات الارهابية التكفيرية رغم كل ما اقترفته من مجازر وجرائم.
وارتباطا بجملة متغيرات وتحولات، كان من الطبيعي جدا ان يطرأ تبدل في مواقف الازهر وتوجهاته العامة، حيال العراق بالتحديد، ومن بين تلك المتغيرات والتحولات، هزيمة داعش في العراق، وتراجع نفوذه في مساحات وميادين اخرى، وانفتاح الحكومة العراقية على المحيط الاقليمي والفضاء الدولي بدرجة اكبر من ذي قبل، قابله انفتاح اقليمي ودولي واضح وملموس على العراق، وكانت مصر في ظل نظامها السياسي الحالي، من بين ابرز الاطراف التي تبنت تعزيز منهج الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي مع العراق، ومن ثم جاءت الزيارة التأريخية لزعيم الفاتيكان البابا فرانسيس في الخامس من شهر اذار-مارس الماضي، التي التقى خلالها المرجع الديني الكبير اية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف الاشرف، وتجول في كل من بغداد وذي قار واربيل والموصل، لتعطي حافزا كبيرا واضافيا للازهر لتعزيز التواصل والتقارب مع المؤسسات والمراكز والشخصيات الدينية العراقية، مستفيدة من حماس بغداد ورغبتها في استثمار اجواء زيارة بابا الفاتيكان بما يعطي دفعة معنوية كبيرة للبلاد.
سيأتي شيخ الازهر الى العراق، وان تأخرت الزيارة او تعطلت لبعض الوقت، لاسباب قد ترتبط بظروف سياسية انية، وسيلتقي الامام السيستاني في النجف الاشرف، وزعامات دينية سنية وشيعية اخرى، وكذلك قيادات سياسية، ونخب وفاعليات مجتمعية في المدن التي سيشملها برنامج زيارته، والمحطات التي يتوقف عندها. ولعل التحضيرات لذلك بدأت منذ وقت مبكر، بزيارة وفد من مشيخة الازهر اواخر شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي لمدينة النجف، الذي اطلق رسائل ايجابية مهمة، تمهيدا لزيارة الشيخ الطيب التأريخية غير المسبوقة.
وفي ظل الكثير من الاحتقان والتشنج الطائفي داخل منظومة العالم الاسلامي، الذي شهد تصاعدا واضحا في وتيرته خلال العقود القلائل الماضية بفعل عوامل خارجية وداخلية مختلفة، فأن الحراك الذي تتبناه المراكز الدينية العليا عبر زعاماتها الكبيرة، يمكن ان يساهم في تخفيف حدة الصراع الطائفي، واحتواء الفتن، وقطع الطريق على الاجندات والمشاريع التخريبية، ومحاصرة الافكار والمشاريع والجهات التكفيرية المتطرفة.
لقاءات وحوارات المرجعيات الدينية الشيعية والسنية في هذه المرحلة تنطوي على اهمية كبرى، لاتقل عن اهمية الحوارات والرسائل المتبادلة بين المرجع الامام محسن الحكيم وامام الازهر الشيخ محمود شلتوت قبل مايقارب الستة عقود من الزمن حول قضايا وهموم ومشاكل الامة الاسلامية، وابرزها القضية الفلسطينية.
ورغم تأخر الازهر في اتخاذ خطوات عملية ايجابية في اطار التقارب بين المكونين السني والشيعي، وتعزيز الثقة، وتكريس منهج الاعتدال والانفتاح والوسطية، الا ان الشيخ الطيب، اطلق اشارات ايجابية بعد توليه امامة الازهر في التاسع عشر من اذار-مارس عام 2010، حينما قال “لا يوجد خلاف بين السنى والشيعى يخرجه من الإسلام إنّما هى عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات، كما حدث بين المذاهب الفقهية الأربعة، كل الفروق بيننا وبينهم هى مسألة الإمامة”. وعبر في ذلك الحين عن رفضه تكفير بعض القنوات الفضائية للشيعة-ربما في اشارة الى عدد من القنوات السعودية المتطرفة-، مشيرا إلى أنه لا يوجد مبرر واحد لتكفيرهم لا من القرآن ولا من السنة، ومؤكدا “نحن نصلى وراء الشيعة فلا يوجد عند الشيعة قرآن آخَر كما تطلق الشائعات، وإلا ما ترك المستشرقون هذا الأمر، فهذا بالنسبة لهم صيد ثمين، ولِى بحث فى هذا المجال وجميع مفسرى أهل السنة من الطبرى وحتى الآن لم يقل منهم أحد إن الشيعة لديهم قرآن آخر، وأن واجب الأزهر فى المقام الأول وحدة الأمة الإسلامية، وكذلك تجميع المسلمين على رؤية واحدة مع اختلاف الاجتهاد”.
لاشك ان مثل هذه المتبنيات النظرية، يمكن ان تؤسس لمنهج عملي نحو تصحيح الكثير من المسارات الخاطئة، رغم الكمّ الهائل من التحديات والمصاعب والمعوقات. وطبيعي ان زيارة امام الازهر للعراق، وبالدرجة الاساس للنجف الاشرف، تعد خطوة مهمة جدا بهذا الاتجاه، لاسيما اذا لم تقتصر على المظاهر الاعلامية الاستعراضية، وتكون لها مخرجات واقعية، وترسم خارطة طريق للخطوات الاخرى اللاحقة والمكملة لها، وهنا يكمن الدور الفاعل لمختلف الزعامات والمؤسسات والمراكز الدينية في العراق ومصر، وبقية الحواضر الاسلامية المهمة، كالسعودية وايران وغيرهما.
————————-
*كاتب وصحافي عراقي