عاش اليهودي كورجي داود ناحوم في مدينتنا منذ أن جاءت عائلته الى المكان عندما وضع الوالي مدحت باشا أسسها وبناها حاضرة مدنية في منخفض قرب ضفة النهر في منطقة تسمى ( الموحية ) حتى يسهل إغراقها عندما تثور عشائرها .
امتهن كورجي كما أبيه داود مهنة بيع الفحم في الخان الذي توارثوه عن أجدادهم، وربما هو الوحيد الذي رفض السفر الى فلسطين وبقي جليس بوابة الخان حتى وفاته وكأنه يسجل وفاءً مستميتا للمكان الذي يسترزق منه ويعيش بألفة ومحبة مع أهله . حيث يرفض صاحب المقهى ( جمعة ) الواقع في رأس قيصرية البزازين أن ( يشطف ) ( أستكان ) الشاي الذي يشرب به كورجي وغيره من المندائيين الذين يحتسون الشاي عنده في استراحتهم بمحلات الصياغة القريبة من المقهى وعكس ما هو دارج في غسل الاناء بعد استعماله من قبل شخص ينتمي الى غير ملة المسلمين ، وهذا الأمر متوارث شعبياً بفتوى أو بدونها.
كنت شابا يافعا عندما كنت أمر في طريقي الى دخول قاعة السينما لمشاهدة الافلام الهندية والكابوي وتلك التي تكون بطلتها ممثلة الاغراء الاول في حياتي ( هند رستم ) في سينما الاندلس الشتوي القريبة من خان كورجي ، وأشاهد هذا اليهودي بنظرة الهادئة المتجهمة ربما بسبب شيخوخته حيث يجلس في بوابة الخان وقربه كانت هناك جدارية من الجص الأبيض رُسمَ عليها صورة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم ، وقد شوهتها شفرات وضربات مطارق من بعض الذين لا يحبون الزعيم بعد حركة 8 شباط والتي تم فيها اغتياله بمبنى الإذاعة .
نسيت كورجي وأيامه وأنا اعيش حياتي الجديدة معلما لمادة الجغرافية في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة قرية من قرى الأهوار تسمى ( أم شعثه ) ، وفي واحدة من نقاشات الاستراحة بين الدروس حيث كنت اعقب على رواية نشرتها مجلة الموقف الادبي السوري للروائية الإسرائيلية ليائيل دايان بعنوان ( غبار ) وهي ابنة وزير الدفاع الاسرائيلي موشي دايان الذي اشتهر بعصابة القرصان السوداء التي يضعها على أحدى عينيه المصابة بطلق ناري من معارك قديمة ، وهذه الرواية اريتنا وقتها الجيل الجديد من الادب اليهودي ، فعرجنا على اليهود وبعض عوائلهم التي كانت تعيش في الناصرية ليفاجئني شغاتي أن القرية كان لها صديقا يهوديا يزورها كل صيف بزورقه ليبيع عليهم الشخاط والتتن وقماش البازه ويدعى ( كورجي داود ) يأتي من الناصرية والغريب أنه يبيعهم حتى في الآجل ولا يستلم الثمن إلا في عودته الأخرى في الصيف القادم ، لكن سعرها يكون اكثر من سعر البضاعة التي يدفعون ثمنها وقت الشراء.
يقول شغاتي :كان كورجي يضع مبلغا بسيطا وكان يبيع الشخاط فرطا وليس في علب حتى يبدو كثيرا ، وأغلب الوان اقمشته البازة التي يجلبها الوانها خضراء وسوداء لأنه يقول لنا :عيدكم في حزنكم ايها المعدان ، ولهذا أنا اجلب لكم الالوان التي تليق بسمات وجوهكم ، وكأنه يعلم بصدى الجملة التي تسكن ارواحنا والتي تقول : كل يومٍ عاشوراء ، وكل أرضٍ كربلاء.
قلت : يا الهي هذا كورجي بائع الفحم الذي كان يغلق خانه طوال ايام الصيف حيث لا يُباع الفحم ، وكنا نظن انه يسافر الى اسطنبول حيث يقال أن عائلة اجداده الاثرياء تسكن في تركيا ،لكنه لا يذهب الى قصور يلدز بل الى صرائف المعدان.
قال شغاتي :نعم ومثل زهرون المندائي ينام في بيتي .
قلت : وهل تشطف اواني الطعام بعد الأكل .
قال :هو ضيفي ولم افعل هذا في يوم ما لا معه ولا مع زهرون المندائي.
لحظتها ترحمت على ارواح جميع الذي ماتوا وابقوا صور الذكريات تحت اجفاننا ومنهم الحاج جمعة صاحب المقهى ، أول من أمتنع عن شطف قدح الشاي الذي يشرب فيه اليهودي كورجي داود ناحوم .