خاض مقال سابق في تصنيفات اليسار واليمين في العراق، بين تيارات محافِظة، أغلبها يمتلك النفوذ، واتجاهات مدنية وجماعات شعبية، شعبوية، تعتقد بالتغيير، في أسلوب إدارة الدولة، وممارسة السلطة.
اللافِت في المسألة العراقية، اختفاء الأيديولوجيا، والنظريات العقائدية الملهمِة للأطراف الفاعلة، ولم يعد يسيرا تبويب محاور الصراع في خانة اليسار أو اليمين، على الرغم من حدّة الاشتباك والتضاد النوعي بين “سلطة” و”معارضة”.
يبدو جليّا، أنّ العراك السياسي والفكري توجبه العوامل المادية المرتبطة بمستويات المعيشة، والخدمات والبنية التحتية، والتي تحل محل المعجّلات العقائدية التي تدفع الأفراد الى الانتفاضة.
لنعود الى تصنيفات انحسرت الان وكانت قد سادت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فنضع الكتل السياسية
والأحزاب الفاعلة، واغلبها محافِظة، أو تقودها نخبويات عشائرية أو رأسمالية، في خانة اليمين، ونجعل من الحركات الميدانية في الشارع التي تقود التظاهرات في اليسار، كما يمكن تسمية الحركات والافراد الداعمين الى نظام ليبرالي ديمقراطي حقيقي منفتح على العالم لاسيما الغربي منه، باليساريين، فيما خصومهم هم أولئك اليمينيون.
اللافت أيضا ان الحالة العراقية بعد 2003، تنحسر عنها، الأحزاب المنظّمة، التي يتنادى افرادها بصورة دورية، ويتلقون الأوامر المركزية، ويُحاسَب افرادها على سلوكياتهم، ويعدّون التقارير عن انجازاتهم، وهو أمر عملت به الأحزاب التقليدية العراقية بطريقة التنظيم الحزبي منذ عقود طويلة، فيما التكتلات السياسية الجديدة، هي تكدّسات بشرية مؤقتة تحرّكها المناصب والانتخابات.
واحدة من التفسيرات لهذه الظاهرة، هو التأثر بالعولمة التي انجبت جيلا جديدا يؤمن بالمتبدلات المتسارعة في الأفكار والماديات، وأصبح تدجينه في عقيدة معينة، وتعطيل العقل عنده، امرا صعب المنال، وقد جعله الانفتاح على تواصل شديد واختلاط عظيم مع ثقافات وحضارات العالم المختلفة، الامر الذي يفسّر هذا التبدل الشديد في الشارع لصالح الشباب المتحرر الليبرالي، المتجاوز للسلوكيات المؤدلجة.
الأحزاب التاريخية، والأيديولوجيات النمطية حتى اليسارية منها، لم تعد تشكّل حتى قيمة رمزية أمام الجيل الجديد، وتكاد تتبعثر المنظومات الفكرية التي تستطيع جذب الشباب الى حقولها المغناطيسية، واذا كان هذا الامر حدث في أوربا من قبل، حيث الأحزاب، زمر انتخابية على درجة عالية من الوعي بالمشاريع والأهداف، لفرض منهج معين على إدارة البلاد عبر الفوز بالانتخابات، فان ذلك حريّ ان يُلتفت اليه في العراق، وان تدرك القوى النافذة ان التغيير يجب ان يستمد الدراية من تجارب الدول الناجحة ديمقراطيا، والتي انقلبت فيها رموز السلطة والجاه، الى متغيرات وليست ثوابتا مقدّسة.
على اليمين واليسار في العراق إذا صح هذا الوصف، تجاوز العصبية الفكرية واستيعاب عصر العولمة ونهاية عصر الأيديولوجيات، وأن يسارع الى اللحاق بجيل التطور السريع في التكنولوجيا ووسائل التواصل، وتقنيات الاقناع الجديدة، ولن يحدث ذلك الا باستبدال الذهنية السياسية التقليدية التي تدير برامجها بأسلوب الدكتاتوريات الراسخة وأفكار القرن التاسع وحتى القرن العشرين.
قد يبدو مُستغربا في نظام ديمقراطي، حدوث القطيعة بين ساحات التظاهر والقوى السياسية، ففي الديمقراطيات المعروفة لا يحدث ذلك، وسبب ذلك هو الاستقطاب الحاد، الذي يؤشّر على ولادة جمهور متطرف، متزمت، من معارضين وموالين، بينما راحت الصرامة الاعتقادية والسلوكية التي يمثلها أولئك الذين يصفون أنفسهم بـ”الثوريين المخلّصين”، يتبنى رؤية أحادية في وضْع سبل النجاة، تقوم على قاعدة فشل الطبقة السياسية برمّتها في الحكم، من دون الخوض في أسباب الإخفاق.
رغم ذلك، فان قواعد اللعبة الديمقراطية، يجب أن تتوالى، على رغم الاستعلاء والتشامخ في الاستقطاب الفكري والسياسي بين الطرفين.