22 ديسمبر، 2024 8:47 م

اليك َوَمَنْ يَشبهكْ

اليك َوَمَنْ يَشبهكْ

الساعة تقترب من السادسة صباحا. عاد للتو من وردية عمله ولم يسمعه أحدا حين ولوجه الدار بإستثناء ولده اﻷكبر، جرَّب مختلف المهن واﻷعمال من أجل حل وتجاوز أزمته الإقتصادية، والتي باتت تشكل بالنسبة له ولعائلته مشكلة أزلية. له من اﻷبناء خمسة، ثلاثة منهم تخرجوا من جامعاتهم تباعا وقبل عدة سنوات، غير ان الحال بقي على ما هو عليه إن لم يزدد سوءا، فليس أمامهم من معيل سوى رب هذا البيت، وعندما يُسأل لِمَ لم يتحسن الوضع يا فلان فسيقول لك: الدولة باتت تحت رحمة وتسلط (اليسوة والميسوة) وأظنه مصيبا في رأيه هذا.
رغم إنحناءة ظهره الاّ انه يتمتع بمعنويات عالية أو قُلْ هي مفروضة عليه أو هذا ما يحاول ألتظاهر به، فللكرامة شروطها وأثمانها والعض على الجرح وتحمله من شيمة الرجال. ﻷنه كان مرهقا من أثر السهر والعمل، فقد وجد نفسه متجها ودون إرادته الى غرفة نومه كي يأخذ قسطا من الراحة، رغم انه لا زال في ملابس عمله. فاجأه ولده بأن أحدهم حمل له رزمة ثقيلة من اﻷوراق وربما بينها من الصحف، وحين سأله الوالد عمَّن أتى بها، سيردَّ عليه أنه أبو فلان، تذكره اﻷب من فوره فهي كناية متعارف عليها ويجري التعامل بها عند الضرورة، لذا قام على اثرها ومن غير أن ينبس ببنت شفة بتغيير ملابسه ليرتدي بنطاله اﻷثير وجاكيته اﻷزلي وقميص حائل اللون لكنه لا زال يحتفظ ببعض بياض أو هكذا يتراءى له.
وقف أمام المرآة، غسل يديه ووجهه، عدَّلَ من هندامه ومن دون أن ينسى المرور على شاربيه ليشذيها بعناية فائقة وبمقص لا يزيد حجمه عن راحة اليد، أنه رفيق أسفاره، في مسراته وأوجاعه، فقد ظلَّ ملازما له منذ سنين بعيدة. وعن ذلك يقول: في أصعب اللحظات لم أستغنٍ عنه، خاصة وقد اخترت له مكانا مريحا، بعيدا عن اﻷنظار، انه جيب صغير، واقع في إحدى زوايا الجاكيت الخفية، كانت قد خاطته لي سيدة البيت. ومما يُذكر عن هذا اﻷمر وفي كل مرة يجري اعتقاله وهي كثيرة، أو حين يساق الى دائرة أو جهة غير موثوق بها، أو سيتوقع منها ما لا يُسرُ القلب، فسيوعز لزوجته بتزويده بمقص شاربيه معه فقط وليس من شيء آخر. وتسهيلا للأمر ولتمييزه عن اﻵخرين فقد أطلق عليه محبوه وأصدقائه كنية ظلَّت لصيقة به ومن غير أن تسبب له حرجا أو يجد فيها ما لا يناسبه رغم كل التغيرات السياسية التي وقعت، أنه رشيد أبو شوارب.
وضع رزمة اﻷوراق أو إن شئت تسميتها بالصحف في حقيبة بالية، مقطعة اﻷوصال لم ينفع معها الرتق رغم كل المحاولات التي بُذلتْ . وﻷنها صغيرة الحجم فقد بانت من إحدى جوانبها بعض ما تحتويه. أبى ولده أن يتركه ليحملها وحده، غير انَّ اﻷب أصر على إبقاءه بعيدا عن تحمل المسؤولية، وذلك درءاً لأي طارئ أو حدوث أمرٍ لا تُحمد عقباه، ففي الحقيبة من المصائب والممنوعات و(البلاوي) ما لا طاقة لولده عليها. وإلتزاما بما تم الإتفاق عليه في وقت سابق مع مَن حمل له البريد وضرورة تنفيذ ما طُلِبَ منه، وقبل الشروع في الخروج من البيت، راح متلمسا شاربيه، وفي حركته هذه والتي كان قد اعتاد عليها منذ سنوات، ما يشير الى صعوبة المهمة، لكنها أيضا تؤشر الى إستعداده لها، والرجل يظهر معدنه عند المنعطفات العصية.
قطع أحد أزقة بغداد الشعبية العريقة ليصل في نهايته جامع الحيدرخانه، وقبيل إنعطافه ودخوله الشارع العام التقى رجلا أكبر منه سناً، تبدو عليه علامات اﻷناقة والبساطة بوضوح شديد، معتمرا قلنسوة تليق بوقاره وزهده، لكنه صَعُبَتْ عليه خطواته من أثر الكِبَرْ، لذا طلب ممن صادف وجوده هناك مساعدته على الوصول الى الجامع، فما كان من صاحبنا الاّ أن يضع الحقيبة جانبا ويستجيب لرغبة الرجل. بعد قطعه لبضعة خطوات، إستفزته رائحة القهوة العربية المنبعثة من محل آرتين اﻷرمني، رغم المسافة الفاصلة بينهما ورغم تيقنه من إغلاق المحل قبل سنوات.
صباحات بغداد لم تعد كما كانت أيام زمان.(قال ذلك في سرّه). ولكي يزجي الوقت فقد قرر التوجه الى مقهى أم كلثوم من دون أن يعير إهتماما لما يحمله من أثقال ولا لبعدها النسبي، فكان له ما أراد، غير انه وجد المقهى مغلقا. أوصال شارع الرشيد مقطعة وعربات الدفع والسابلة يعبثون به كما يشاءون وشاء لها القابضون على السلطة، أين شناشيلها؟ أين أبوابها المفتوحة للأحبة والغرباء؟ أين مقاهيها؟ أين حاناتها؟ أين… أين ….؟( عن ماذا تتحدث يا رشيد، دَعْ همّك لك). حزن على بغداده وما أصابها ولكن لم يسمعه أحد .
ارتكن جانبا، جعل من حقيبته مكان إستراحته ومتكأه. أخرج علبة دخانه،سحب منها إحدى سكائرها، أجال بنظره الشارع الطويل الذي عبثت به اﻷقدار وشلة من الجهلة واﻷميين وحديثي النعمة وكل مَنْ دخلها بغير حساب. تذكَّرَ إحدى التظاهرات الطلابية التي خرج فيها أسوة بزملائه يوم كان يافعا. راح مسترجعا بعض الصور واللقطات التي مرَّت به: هناسقط فلان جريحا. على الرصيف المقابل حشَّدَت السلطات بعض من مرتزقتها كي تُفسٍد على المتظاهرين ما كانوا قد خرجوا من أجله. على بعد خمسين مترا من هنا أوْقَفَ رجال اﻷمن ثلاثة من أنشط الطلبة والمتصدين للأجهزة القمعية وأدواتها القذرة. وﻷن الرجع أخذه بعيدا فقد أوشك أن يُشعلَ سيكارة أخرى، الاّ انه إستدرك، فالوقت لم يعد يسعفه لذا حمل أثقاله وليتجه بها نحو هدفه.
دخل شارع المتنبي من إحد فروعه التي ظلَّت راسخة في ذاكرته، فمنها تعلَّمِ كيفية الزوغان والتواري والإنفلات من قبضة عسس الليل والنهار، فاليوم يوم جمعة وسيعج الشارع ويرفل بالكثير من الزائرين، من ذوي الإختصاص والطلبة ومن المهتمين براحة الروح وما يسطرون. وسيؤم حضرة المتنبي ويأتونه من كل حدب وصوب، لِمَ لا وقد بات قبلة ومتنفسا ووجهة لكل من ضاقت به العبارة حتى إختنق، جراء الوضع القائم ومهازله، لذا اختاره مكانا ﻷداء مناسك الحب التي يحملها بين كفيه وعقله.سبقه الى ذلك حشد ليس بالقليل ممن إفترش اﻷرض بأمهات الكتب وأغناها. فهو المكان الذي لا يقل طهرا ونبلا، ولا يختلف كثيرا عن تلك الأماكن التي يولّي وجهها الزائرون في بعض المناسبات. هكذا قرأ المكان رشيد أبو شوارب وكان حقاً كذلك.
للمرة اﻷولى خلال مسيرة العشق التي قطعها،سيجد نفسه مكلفا في مثل هكذا مهمة، سيسائل نفسه: ما حيلتي وقد أخذ مني الخجل مأخذا، ولم تسعفني في ذلك أو تعينني حتى شاربيَّ التي أباهي بهما، ولا أخفيكم القول، ففي لحظة ما كدت أن أتراجع عن تنفيذ ما أوكلَ لي لولا ما لاقيته من تشجيع ودفع من صاحبي عازف الناي، حيث إستبقني الى هناك ويا لها من صدفة جميلة، فما بيني وبيه رابطة قديمة، تعود جذورها الى ما ينيف على العقدين من السنين، يوم استدعينا سوية الى إحدى دوائر اﻷمن بعد عودتنا من خارج البلاد، حيث ساق اﻷمر مَنْ بيده اﻷمر نحو تفسير واحد أحد، لا يقبل الرد أو الطعن: لقد كنتم في زيارة مريبة، مشبوهة، ونحن لكم بالمرصاد ولسنا بغافلين.
فتح حقيبته بمساعدة عازف الناي، أخرج منها رزمة من اﻷوراق أو سمّها ألصحف، قلَّبها، أطال النظر في عناوينها الرئيسية، تفاجأ بها، أخذته الدهشة والغبطة،شدَّ نظره عنوانا رئيسيا، كان قد خُطَّ باللون اﻷحمر العريض وقد تقطرت من بين ثناياه رائحة الورد، ملأ عُرض الصفحة اﻷولى من الجريدة. قال في سرّهٍ صاحب الذكر: اليوم يومك يا رشيد، والشوارب التي تحملها إن لم تلِق بك فبمن تليق، ثم راح حاملا بين يديه مجموعة من أعداد الجريدة لينشد وبأعلى صوته بعد أن إستمد شجاعته من عناوينها: لا للطائفية، لا للمحاصصة، لا للإحتلال، كل السلطة للشعب، لا للتبعية، لا للتدخلات اﻷجنبية، نعم لكامل السيادة، نعم للتآخي، اﻷرض لنا والسماء لنا ……. . ثم راح مضيفا وبحماس شديد: إقرأوا صوت العمال والفلاحين والطلبة والجنود البواسل، إقرأوا صوت الشعب، إقرأوا صوت الغد، إقروأ صوت العقل والبديل الديمقراطي، إقرأوا صوت الحقيقة كل الحقيقة. وعلى أثر تلك الصرخة وذلك اللحن الشجي، ترى الناس وقد تدافعت وبفرح غامر نحوه، من أجل الحصول على نسخة من ذلك المطبوع، وما هي الاّ دقائق حتى إستُنفِذَتْ كل النسخ التي كانت بمعيته.
بعد أن أنهى مهمته على أكمل وجه، وبعد أن حيّا عازف الناي، حزم رشيد أبو شوارب أمره وحقيبته ليعود الى بيته. قرر أن يمر بذات الزقاق الذي أوصله الى شارع المتنبي، ففيه من الفأل أحسنه وفيه من التأريخ أعطره. حين وصوله البيت سوف لن يقوى حتى على تغيير ملابسه بل سيكتفي بقدح من الماء وقبلة سيطبعها على جبين مَنْ يسميها بثابتة الجنان وسيدة البيت، بإنتظار يوم جديد وإنبلاج غد يعمه السلام والمحبة، وإن نسي أمراً فسوف لن ينسى المرور على شاربيه.

(ملاحظة مهمة: المقال أعلاه جرى إستلهامه بعد الإطلاع وعبر مواقع التواصل الإجتماعي على مقطع فديو لم يستغرق من الوقت طويلا، على رجل وهو ينتصف وقوفا شارع المتنبي، ويقوم بتوزيع إحدى الصحف المعارضة، ولعل هناك بل هناك بكل تأكيد من الرجال والنساء ممن يحدوهم اﻷمل وبهم من الشجاعة ما يكفي أو يزيد، للقيام بهكذا أنشطة، تُظهرُ وتفضح مدى المأزق والتراجع الذي بات يضرب بأطنابه أركان الدولة العراقية وكيف إنسحبت تداعيات كل ذلك على المجتمع العراقي برمته، ولابد من وقفة واحدة، صلبة، ثابتة، تضع اﻷصبع على الجرح، لا تهزها الغربان ولا تفل من عزيمتها تلك النفوس الوضيعة، ولنعمل سوية من أجل غد أفضل لبلادنا العظيمة).