23 ديسمبر، 2024 9:22 ص

اليسار اليوناني … والفرصة التاريخية المضاعة … (الأخير)

اليسار اليوناني … والفرصة التاريخية المضاعة … (الأخير)

برغم البحوث الكثيرة والمقابلات الصحفية مع خبراء اقتصاديين وماليين التي اتفق أكثرها مع الرأي الدي يطالب حكومة سيريزا باعلان عدم مقدرتها على دفع الديون التي بذمتها بعبارة أخرى اعلان افلاسها في مثل الظرف الذي يواجه  اليونان وهو أمر معترف به ومشروع في الأوساط المالية والتجارية ، لكن سيريزا وعلى عكس كل التوقعات اختار الالتزام بالدفع فارتكب الأثم الأعظم.  اليسار اليوناني لم يحذو حتى حذو الارجنتين عام 1982 عندما رفضت حكومتها دفع ديونها للدائنين وأصرت وثبتت على مطلبها فانتصرت حيث اعتبرت مفلسة ، ولم تكن للحكومة الارجنتينية أي صلة باليسار وحاز قرارها الصائب ذاك على دعم وتأييد وتشجيع الشيوعيين الارجنتينيين. وهناك أمثلة أخرى في دول أمريكا اللاتينية ومع ذلك لم يستفد سيريزا من أي تلك التجارب ، فعن أي يسار نتحدث اليوم بعد أن خذلنا من قبل من كنا حتى الخامس من الشهر الحالي نعتبر سيريزا انتصارا لنا وحافزا لتوحيد اليسار الشيوعي في منطقتنا والعالم؟.

البروفيسور مايكل كوسودوفسكي استاذ الاقتصاد في جامعة أوتاوا الكندية ومدير مركز بحوث العولمة في مدينة مونتريال يرى ان الشعب اليوناني يستطيع اقامة الدعوى القضائية لدى المحكمة العليا الخاصة اليونانية ضد حكومة اليسار الحالية التي خالفت قرار الشعب الذي صوت بـ “لا” لشروط الاتحاد الأوربي. فتنفيذ حكومة سيريزا لقرار الاقلية التي صوتت بـ “نعم” وقبوله الشروط المجحفة التي فرضتها الثلاثية نيابة عن الدائنين وهم بنوك الوول ستريت يعتبر مخالفة للديمقراطية حتى لو لم يوجد نصا دستوريا يعتبره مخالفة للدستور اليوناني .

لكن ماهي الشروط والاجراءات التي طالب بتطبيقها الاتحاد الأوربي كشرط مسبق لمنح اليونان قروضا جديدة تبلغ 86 بليون يورو والتي وافقت عليها حكومة سيريزا وباشرت بتنفيذها ..؟؟

بعد انتخاب سيريزا وتشكيل الحكومة اليونانية صدر عنه ما سماه ” بيان سالونيكا” ضمنه برنامجه الذي سيعمل على تنفيذه. تضمن البيان تعهدات بوقف اجراءات التقشف أو تخفيف وطأتها وتحسين اجور العمال والمتقاعدين وحقوقهم ووقف خصخصة أملاك الدولة والعمل على الغاء جزء من الديون واعادة هيكلة نظام مدفوعاتها. لكن حكومة سيبراس برغم دفع بعض اقساط الديون الأوربية في الأسابيع الأولى من استلامه السلطة لم تحصل على وعود بالاستجابة لمطالبه من قبل الاتحاد الأوربي وبالعكس ألزمته بالاستمرار بدفع أقساط الدين التي كان قد حل موعد سدادها كشرط مسبق للنظر في أمر حصوله على قروض جديدة في المستقبل. أمام اصرار الاتحاد الأوربي على سياسته تراجع سيريزا خطوتين الى الوراء بينما لم يتقدم للأمام خطوة واحدة. ويبدو ذلك واضحا في استجابته لشروط الاتحاد الأوربي التي من بينها الآتي :

1-   اعترافه بأن الدين البالغ 350 بليون يورو هو التزام تعترف به حكومته علما بأن تلك المبالغ التي تسلمتها الحكومات السابقة قد ذهبت الى حسابات اجنبية في البنوك الغربية وتم استخدامها في المضاربة بالاسهم والسندات ولم تستثمر في تمويل الاقتصاد الانتاجي الذي يدعم التنمية الاقتصادية ويزيد من فرص العمل ليكون قادرا على الايفاء بالديون الاجنبية. اعتراف سيبراس هذا أعطى الانطباع للثلاثية على الفور انه على استعداد ليكون رهينة لمزيد من الابتزاز.

2-   ابداء سيبراس عن رغبته في البقاء في الاتحاد الأوربي وفي نظام اليورو وبذلك يكون قد تخلى عن سيادة اليونان والقبول باملاءات الثلاثية المهينة. وما أن أصبح تحت سلطة الثلاثية فان خياره الوحيد كان التفاوض ثم اعادة التفاوض وتقديم التنازلات لبنوك الاتحاد الأوربي التي تعمل باتجاه واحد هو الاملاءات فقط . وبذلك يكون سيريزا قد خالف وعوده الانتخابية وما أن عبر عن استعداده بتنفيذ املاءات الثلاثية راحت الأخيرة توسع من طلباتها. وقد أدركت هذه أن ثورية سيريزا هي مجرد دخان بدون نار وانه ما أن تبدأ التفاوض معه حول قروض جديدة فستنهار قيادته وهذا ما حصل.

3-   عندما بدأ سيريزا مشاوراته  داخل ائتلافه لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات أجرى تنازلات مشينة للحزب اليوناني اليميني المستقل المؤيد للناتو واسرائيل والمعادي للاجانب بمنحه حقيبة وزارة الدفاع وبذلك ضمنت الولايات المتحدة بقاء اليونان في الناتو وتأييد سياساتها ونشاطاتها العسكرية في الشرق الأوسط وأوكرانيا والسياسات المعادية للفلسطينيين.

4-   ابداء التنازلات من جانب سيريزا لضغوط الاتحاد الأوربي قد حصلت من دون مقاومة او اصرار على مواقفه المعلنة دفاعا عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين وحقهم في حد أدنى للاجور وتقاعد يضمن لهم دخلا مجزيا وحياة كريمة. ويعكس سلوكه المهادن هذا ضعفا واضحا في وعيه الطبقي وعدم ثبات قناعاته بالمبادئ اليسارية المعلنة في بيانات قادته. فقلة تجربة قادته وربما انعدامها في الصراع الطبقي ضد الاستغلال الرأسمالي وضد السلطة البرجوازية اليونانية أوقعته بسهولة ضحية للابتزاز الذي مارسته الثلاثية ضده. فوزير المالية المستقيل فاروفاكس عمل لفترة طويلة مستشارا لرئيس حكومة باسوك الاشتراكية الديمقراطية ومؤهلاته العلمية في المجال الاكاديمي لا ترشحه لقيادة صراع حقيقي مع القوى البرجوازية والامبريالية. وربما لهذا السبب لم تكن له ولرئيسه سيبراس الرغبة بقطع الصلة أو معارضة املاءات الثلاثية المهينة للشعب اليوناني.

 

5-   وبناء على ما تقدم وكنتيجة له استجابت حكومة سيريزا بكل سهولة لاملاءات ذات آثار شديدة الوطأة على اكثرية اليونانيين مثل : 1- عدم زيادة مدفوعات التقاعد  2- عدم اعادة النظر بقرارات الخصخصة السابقة التي تمت في زمن الحكومات السابقة. 3-  عدم تنفيذ قرار زيادة الحد الأدنى للأجور. 4- عدم التراجع عن اجراءات التقشف السابقة. 5- عدم زيادة التخصيصات المالية لصالح خدمات التعليم والصحة والاسكان وتنمية المناطق المحلية.

واضافة الى كل ذلك طالبت الثلاثية حكومة سيريزا بخفض مبالغ التقاعد لمليون ونصف المليون متقاعد من العمال. وبذلك يكون 5% فقط من المتقاعدين من يستلم تقاعدا مجزيا. وقد تعرض المتقاعدين اليونانيين لأسوء تخفيضات شهدها القرن المنصرم ، حيث خفضت مبالغ التقاعد للمتقاعدين ثماني مرات خلال 4 سنوات. وخلال عام 2010 وحده انخفض مبلغ التقاعد بنسبة 50% وبذلك يكون متوسط الراتب التقاعدي في الشهر 700 يورو  ما يضعهم دون خط الفقر.

وفي الوقت الذي بدأ سيريزا بخصخصة أملاك الدولة بناء على طلب الثلاثية عرض وزير دفاعه الذي ينتمي لأقصى اليمين على الناتو اقامة قاعدة عسكرية جديدة على جزيرة كارباثوس. بقاء اليونان في الناتو يعني التزام حكومة اليسار اليوناني سيريزا بالسياسة العسكرية الأمريكية والاتحاد الأوربي في الشرق الأوسط.

وقد وافق سيريزا دون تردد على البدء ببيع ممتلكات الدولة للرأساليين الأجانب وهو فعل لم تقدم عليه الحكومات اليمينية البرجوازية السابقة بالعلنية والسرعة التي تباع فيها اليوم في ظل حكومة سيبراس. فالجزر اليونانية والموانئ وشركات الهاتف والكهرباء معلنة للبيع على الانترنيت ، وقد بيعت جزيرة ايجيوس توماس التي مساحتها 300 أكر الى البليونير الأمريكي وورين بوفيت بـ 15 مليون يورو ، كما بيعت جزيرة ستروجيلو بـحوالي 4 ملايين يورو.

فوز سيريزا في الانتخابات البرلمانية وبياناته التي صدرت بعدها بأيام وضع منطقة اليورو في مأزق حرج للغاية وخاصة بعدما توجه سيبراس  الى الاتحاد الأوربي قالا : ” اسمعوا ، اننا لا نكافح من أجل اليونان فحسب ، بل ومن أجل كل أوربا وما نسعى له هو انقاذ أوربا من التقشف ومن أجل أن يكون دور بنوكها المركزية خلق النقود من أجل الانفاق على تنمية الاقتصاد. نريد بنكا مركزيا لا يمنح الأموال للمصرفيين بل يدفع للحكومة لاعادة بناء اليونان ونحن نريد ان نبقى في منطقة اليورو للقيام بكل ذلك”. لكن عصا سحرية على ما يبدو غيرت كل شيئ وعادت سياط الثلاثية تلاحق العمال والمتقاعدين وفقراء اليونانيين من ابناء الطبقة الوسطى المعدمين.  ولم يصدق اليونانيون ما رأته عيونهم وهم يشاهدون سيبراس عائدا من بروكسل متأبطا برنامج التقشف الجديد متوجها به الى مجلس البرلمان الذي وافق عليه بأكثرية مريحة بعد أقل من ثلاثة أسابيع على رفض نفس البرلمان لذات البرنامج بأكثرية ساحقة.

برنامج التقشف الجديد الذي وافق عليه البرلمان اليوناني يوم 227 الجاري يتكون من 13 صفحة تتضمن التزامات بنقل الثروة العامة الوطنية لليونانيين الى رجال مال وشركات أجنبية اي مبادلة الاقتصاد الحقيقي اليوناني مقابل ورق نقدي تمت طباعته بالاطنان في مطابع البنك المركزي الأوربي ومكتب الاحتياطي الفيدرالي الامريكي. هناك خلافات داخلية قد ظهرت ضد قيادة سيريزا بعد موافقة سيبراس على برنامج التقشف الجديد حيث استقال اربعة وزراء من حكومته. الجماهير اليونانية قد خرجت الى الشوارع من جديد معبرة عن احتجاجها ، وما علينا غير الانتظار لنرى المنحدر الذي قادت اليسارية الزائفة اليونان اليه. لوكان سيريزا قد رفض شروط الثلاثية جملة وتفصيلا لما كانت اليونان قد خسرت  أي شيئ وتكون في المقابل قد احتفظت بسيادتها أما الآن فقد سلمت سيادة اليونان على طبق من ذهب الى وحوش الوول ستريت. لا يمكن لليونان من الناحية الاقتصادية الواقعية دفع تلك الديون وليس من الانسانية اجبار بلدا مكبلا بديون غير قادر على دفعها أبدا.