لايخفى على كل عاقل وكيّس وسوي أن “الدين المعاملة”.. وكذلك “الدين النصيحة”.. ولاأظن هاتين العبارتين غريبتين على مسامع أحد منا، إذ هما جاءا على لسان من وضع نهج الإنسانية الحقة، المستند على الخلق الرفيع والأدب العالي، وانتهجه لمن أراد العيش آمنا بين معيته. فبهذين النهجين تسمو المجتمعات بأفرادها الى حيث الرقي والى مكانة لائقة بخليفة الله في الأرض. ومنهما -النهجين- نستشف أن كل مايحيط المرء من عوامل خارجية تؤثر على مسارات حياته، بإمكانه تغيير اتجاهها الى حد ما نحو الصواب والاعتدال والاستقامة، وكل هذا بفعل المعاملة -معاملة الغير- والنصيحة، والأخيرة هذه لاتأتي أكلها على نحو مانحب دوما، فالناصح أحيانا لايخلص في النصح والإرشاد، كما قال ابو الأسود الدؤلي:
فما كل ذي لب بمؤتيك نصحه
وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
وباب المعاملة يفتح أمامنا أبوابا عدة في تعاملاتنا اليومية، تلك هي أبواب التشجيع والمناصرة والمؤازرة والتأييد -على الحق طبعا- وما لاشك فيه فإن كلا من هذه الأبواب لها تأثير مباشر على عزيمة أي منا فيما لو أٌقدم على عمل، لاسيما إذا كان المناصر والمؤازر والمؤيد هو أخوه في الدين، وإن لم يكن كذلك فهو على أٌقل تقدير نظيره في الخلق، هذا اذا استبعدنا تماما أنه عدو مبين.
أما النصيحة فهي حتما لاتقل شأنا في التأثير عن المعاملات بين بني آدم بأشكالها وأشكالهم، وكما قال إمامنا سيد البلغاء عليه السلام:
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
فالنصح أغلى مايباع ويوهب
إذ أن فيها منجاة من السهو والخطأ، كما أن فيها تنبيها على الخطل وتحذيرا من التمادي فيه، وفي كل الأحوال فإن سماع الآخر إن كان تحذيرا او تنبيها، او تشجيعا ومناصرة ومؤازة وتأييدا، لايضر السمع ولايخدش الخاطر، بل هو يضعنا موضع القوة في الاختيار، ويدفعنا الى الإقدام في ما نبتغيه ذلك أنه ينير الطريق أمام أنظارنا، ويأخذ بأيدينا بعد منحنا الثقة المطلوبة للوثوب فيه.
أسوق ماتقدم من حديث وأنا أستذكر تصريحات المتحدثين -المدنيين والعسكريين على حد سواء- في عراق الحرية والتعددية والديمقراطية، وقد جاء استذكاري لهم بعد سماعي تصريحا للمتحدث باسم البنتاغون العقيد “ستيف وارن”.. الذي صرح قبل أيام في مايخص وضع العراق الراهن على أراضيه المسلوبة، حيث قال:
– “إن القوات العراقية ستتمكن من دحر داعش في الرمادي، إلا أن ذلك يتطلب وقتا”.
لاشك أن قوله هذا يبعث في نفوس العراقيين المحبين لبلدهم والحريصين على حاضره ومستقبله كثيرا من الطمأنينة والأمل بقادم الأيام، وإن طالت على حد قوله. وأظن مستقبل العراق بات يقلق كل العراقيين الذين يتحلون بالشعور الحقيقي للمواطنة، لاسيما بعد نكسة العاشر من حزيران من العام الماضي. و “وارن” في إشارته هذه إنما يجسد شيئا من المعاملة الصحيحة بين بني آدم، وإن كانوا ينتمون الى مجتمعات متفرقة وديانات ومذاهب عديدة.
وبقطف عبارة ثانية من تصريح “ستيف وارن” يتضح جليا أنه يؤطر رأيه الصائب بإطار التطمينات ووضع البلسم على جراحات قد ظن بعضنا أنها لن تندمل، بل هو ينكأ جراحا ليعيد التئامها على شكل صحيح وصحي، إذ يقول محذرا منذرا: “إن تنظيم داعش يباشر ببناء تحصينات وخنادق حول مدينة الرمادي قبل بدء ساعة المواجهة مع القوات الأمنية العراقية”، وهو هنا يبطن تصريحه بدروس تعبوية وتعليمات ميدانية دقيقة يوقظ بها الحس التكتيكي العسكري، كأنه يريد توجيهها بكلمات مشفرة الى مسامع القادة العسكريين والأمنيين وضباط الصنف الاستخباراتي. كما قال وارن أن “القوات الأمنية العراقية ستتمكن في النهاية من دحر داعش من الرمادي حتى تعود المياه من جديد الى نهر الفرات”. فكأنه يدغدغ بصدق وشفافية تخلو من الزيف والخداع مشاعر العراقيين، باثا الأمل في نفوسهم ببشرى عودة المياه الى مجاريها.
هو نداء الى المتحدثين باسم الكتل والأحزاب والقوات العسكرية والوزارات الأمنية.. ياحبذا لو وضعتم نصب أعينكم -فيما يخرج من أفواهكم- عبارات؛ “الدين المعاملة” و “الدين النصيحة”. ولا أظن “ستيف وارن” أحنّ منكم على عراقكم.