وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (قرآن كريم)
الى صديق الغربة هاشم القريشي (أبو علي) الذي تربطه بالنخلة علاقة عشق أبدية
على ذلك الكرسي المنزوي وبعد أن أخذ قسطا من الراحة، وجد أبو داود نفسه في معنويات عالية جدا وعلى إستعداد كامل للصبر والتحمل فترة أطول، بل حتى بات لا يفكر كثيرا في عودة مُضيفه جواد الذي تركه على حين غفلة لأسباب طارئة، تتعلق بشؤون البيت، وسوف لن يغيب طويلا كما وعده. وبعد تأكده من خلو الطريق من المارة، راح مادا بناظريه بعيداً وعبر نافذة البيت الوسطى المطلة على البستان، متجولا عن بُعد ما بان منها وما خفي إن استطاع. شدَّ إنتباهه ومن بين صفوف متراصة من النخيل ومثلها من أشجار البرتقال وما يدخل في صنفها شيئا ما أو حركة لم يتمكن في بداية الأمر من تمييزها أو إستجلائها على وجه الدقة. لذا وبدافع لا يخلو من الفضول ومن قبلها الرغبة في معرفة ما يجري راح محدقا ولبعض الوقت حتى تكشفت أمامه الصورة على نحو مرضٍ، انه أحدهم، ملامحه من بعيد أو بالأحرى ملابسه لا تشير الى ذات الشخص الذي مرق قبل قليل بالقرب من النافذة.
تابعَ أبو داود ما كان يقوم به ذلك الرجل وشيء من القلق بات ينتابه: كاد أن يهوى وهو لما يصل بعد منتصف ساق النخلة التي يروم بلوغ قمتها وأعتقد سيتمكن منها في نهاية الأمر، ولكن عليه تجاوز تلك اللحظة الحرجة التي يمر بها الآن، ولابد قبل هذا وذاك من السيطرة على آلة التسلق البدائية التي يستعين بها والموروثة أباً عن جد، حيث تحيط وتمسك بوسطه وبجذع النخلة كذلك كي يعيد توازنه. انها عملية ليست بالسهلة، فساق النخلة التي اختارها نحيفا جدا وخلا جذعها من أية نتوءات بارزة، يستطيع بواسطتها من التثبت والصعود الى غرتها بتأنٍ وسلام، كل ذلك ضاعف من صعوبة تسلقها.
هكذا بدت الصورة من بعيد وكما رآها أبو داود، عازما على إستمراره في متابعتها ورصدها، واضعا نفسه على أهبة الإستعداد لأي طارئ، فإذا ما تطور الأمر وحدث ما لا يحمد عقباه ووصل المتسلق الى نقطة حرجة، سيكون أبو داود عند ذاك رهن اشارته وتصرفه وأول المعينين له، حتى لو إستدعى الأمر الخروج من الشباك بإعتباره أقصر الطرق للوصول الى البستاني، وسوف لن يعير اهتماما إن تجاوز وضرب عرض الحائط كل الوصايا والتعليمات المتعلقة بشروط الضيافة، والتي ما انفكت تصدر من جواد ووالدته وكلما أقدم أبو داود على زيارتهم.
ما كادت تمر دقائق معدودات على حالة القلق التي انتابت أبو داود وشغلته الا وكان المتسلق قد اجتاز أصعب العقد التي واجهته أثناء تسلقه. وفي تعليقه على ما استطاع تحقيقه ذلك الرجل وحتى اللحظة قال أبو داود: على ما اعتقد فإنه سوف لن يتراجع الا بعد أن يكون قد وصل الى قمتها وشم عطرها والإطمئنان أيضاً على ما تحمله من ثمار طيبة، دون أن يفوته كذلك تحسس مذاقها. هي لا تشبه أي ثمرة بل هي مَنْ تفرد خالقها وقلة أخرى من أخواتها في مباركتها، موصيا بها، مودعا إياها تحت رحمة ورعاية تلك الأيادي الطيبة التي تليق بها، داعيا كذلك الى حمايتها من كل ما يصيبها من عين حسود.
لم يكتفٍ أبو داود بالقدر الآنف من الدهشة وإبداء الإستعداد لكل مكروه وطارئ، بل لا زال في جعبته الكثير من الكلام، لِمَ لا وقد أعجبته تلك الصورة أو لنسميها تلك اللوحة أيما إعجاب، لذا راح يضيف وبلغة ستبدو لمن كان يصغي اليه ساعتها كما الذي خرجَ تواً من مشاهدة شريط سينمائي مشوق وبأحداث متسارعة لم تخلُ من عنف، وسيتوقف كذلك ولوقت ليس بالقصير عند بعض اللقطات المهمة، والتي كان قد استقاها مما رأته عيناه وملقيا الضوء عليها: الملامح الأساسية للشخص المتسلق بدت تتضح صورتها شيئاً فشيئا حتى أكاد أجزم بأنها إكتملت. إنه كهل ربما قارب الستين من العمر، أي أصغر من عمر النخلة التي يتسلقها بمقدار الضعف على أقل تقدير، هذا ما تنبئ به بُطء حركته، ولا أظنكم ستستبعدوا أو تستغربوا إحتمالا كهذا، فأفضل متسلقي النخيل هم من كبار السن، وأعتقد ان رأيا كهذا لهو أمر مفروغ منه ومُدعماً بالكثير من الأدلة والبراهين، هل تريدون التثبت من ذلك، طيب وسآتيكم بمثال بسيط وسريع، فإذا نظرتم الى الرجل وحين ملامسته للثمرة وعثوقها النضيدة وكيف يتعامل معها، لرأيتم كم هو مشفق عليها وكم هو أنيق في صلته بها. إنها أمكم وعمتكم النخلة، هذا ما تعلمه وما أراد إيصاله لنا، نحن الذين ما فتئنا نجحد في بركات ثمار تلك الشجرة المباركة.
طريق عودة المتسلق لا تقل صعوبة عن صعوده، خاصة وإن النخلة التي اختارها للتسلق تبدو الأطول والأنحف كذلك في بستانه أو على الأقل بالقياس الى ما جاورها من النخيل. هناك أمر آخر، علينا أن لا نغفل عنه والذي سيضاعف بكل تأكيد من صعوبة نزوله، فالرجل بات الآن يحمل معه بعض من عثوق تلك الثمرة، حيث قام بتعبئتها في تلك السلة المصنوعة من سعف النخيل، والتي كانت بمعيته لحظة مروره من أمامي وما إنفكت برفقته حتى اللحظة. انها ثقيلة الوزن بكل تأكيد بسبب ما احتوته حتى كادت أن تسقط من بين يديه لولا فطنته وحسن تصرفه.
في هذه اللحظات وبينما كان أبو داود منغمسا في لعبة الوصف وصل مسامعه صوت نباح أحد الكلاب، غير ان ذلك لم يدفعه الى التوقف بل تجده مستمرءا لها (لعبة الوصف) إن لم تزده حماسا: إنَّ الرجل المتسلق وعلى ما تراه عيني ومن المكان الذي أقف عنده بدا كما الذي غطّى رقبته بشالٍ رحب الحركة، هفهافاً، فضفاض. أما رداءه فهو عبارة عن جلباب بسيط، بانت شقوقه رغم عديد عمليات الرتق التي أجريت له. وإذا شئنا التحدث عن بشرته فأظنها بيضاء اللون في الأصل إن لم أكن مخطئاً، هذا ما أنبأت به إنكشاف ساقيه وما بان منها غضون وتجلد، غير ان سطوع الشمس ولفحتها وبقاء الرجل فترة طويلة تحت تأثيرها ووهجها، كل تلك العوامل وعلى ما أزعم جعلت من لون بشرته يميل الى السمرة. إنظروا الى قمة رأسه فها هو يعتمر قلنسوة ذات قياس مناسب تماما لحجم رأسه، مخططة بلونين، الأبيض والأصفر الفاتح، هذا ما أخمنه فهي شائعة الإستخدام لدى العامة من الناس القاطنة في تلك المناطق، طيب إن لم يكن هذا لونها ولم تتفقوا معي فلنقل هي حائلة إذن، لذلك ستجدونها متماهية مع محيطها.
المهم أرجو أن لا تتوقفوا طويلا عند هذه التفاصيل الصغيرة التي جئنا على ذكرها توا فقد تبدو ليست بتلك الأهمية، فما يعنينا في هذه اللحظات هي حركة الرجل المتسلق وقلقنا عليه، فتراه مرة يميل ويجنح نحو اليسار ومرة أخرى نحو اليمين، وهذا دليل أو مؤشر يثبت بأنه يواجه صعوبة حقيقية في التحكم والسيطرة على حركته. إن قلبي معه وكل تمنياتي وتمنياتكم أيضا له بالتوفيق والنجاح، ولكن لا تنسوا فأنا بإنتظار تلك الثمرة التي سيأتيني بها بعد قليل، إذن رددوا معي ليباركه الرب ويحميه من كل مكروه.
للأسف فالأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، والقلوب لم تطمئن بعد. فبعد أن بانت على الرجل بعض المؤشرات التي تدعو للقلق، كالقيام ببعض الحركات الإرتجالية والتي لا تخلو من مغامرات غير محسوبة، وكذلك في إستغراقه وقتا أطول مما تستحقه بعض الخطوات التي يستلزم القيام بها، فضلا عن تصبب العرق من جبينه وصدغيه وصولا الى الرقبة، كل ذلك سيلقى من لدن أبو داود تأثيرا سلبيا، سيجد لها إنعكاسا في اللغة التي سيستخدمها في وصفه للواقعة، وفي طريقة تناوله لما يحدث للرجل وهو مٌعلق: بسبب ما يلاقيه من صعوبات لم تكن متوقعة، إضطر الرجل المتسلق التوقف لمرات عديدة عن مواصلة مشواره. ولكي يستعيد سيطرته وبعد استراحة قصيرة شرع بترتيب شاله الهفهاف الذي بدا معرقلا لحركته بعد أن مسح قطرات العرق المتصببة وبشكل خاص من على وجهه، ثم قام بعد ذلك بإعادة النظر بغطاء رأسه من جديد، مبتدأً بإعادته الى مكانه الصحيح أولاً ثم الضغط عليه بقوة من أجل تثبيته، مخافة تعرضه مرة اخرى الى أي مكروه، فَجُروح وتخدشات الأسبوع الماضي التي كان قد تعرض لها أثناء تسلقه أيضاً لإحدى النخلات الفارعات الطول، لا زالت طرية وأمر إندمالها سيأخذ بعض الوقت.
مَنْ يعرف بلغة النخيل سيقول عنها بتعذّر تكيّفها وإستقبالها لكائن مَنْ كان، ففي ذلك ما يعتبره البستانيون أحدى الوسائل الممكنة والتي تتوفر عليها وتستعين بها من أجل الدفاع عن نفسها، على الرغم مما هو معروف عنها وما تتميز به من تواضع وبساطة ومغفرة. أما إذا لم يُحسن أحدكم التعامل معها فستبقى عصية الطوع، أبية الإنحناء. وبتلك الصفات الآنفة، ستشبه والى حد بعيد الكثير من الأشجار السخية المعطاءة والحذرة في آن، وربما يكمن في ذلك سر قوتها وصمودها وبقاءها شامخة، رغم تبدل العصور والأزمنة وما حِيكَ ويحاك وما يبيت لها من متربصيها.
لعبة الوصف هذه راقت لأبي داود، فراح مستكملا ما تراه عيناه في البستاني، ليسرح ويمرح وليصل الى ما يشاء ويحلو له من الإنطباعات المفصلة والدقيقة، خاصة حين اختار التوقَّف طويلاً عند اللحظة التي تُظهر الرجل المتسلق وهو في حالة حرجة جدا حيث بدا كما المعلق بين السماء والأرض، ليقول عنها: من المؤكد انه قد وصل الى منتصف المسافة الواقعة بين بداية جذع النخلة والملاصقة للأرض وقريبا جدا من إحدى الفسائل، وبين غرتها. وقبل أن يواصل البستاني طريق العودة، وبسبب ما يلاقيه من صعوبات فقد قرر الإستراحة مرة أخرى، مستثمرا الوقت لأمر في غاية الأهمية، فتراه قد أخرج من جيب جلبابه الأيمن علبة مستطيلة الشكل، فضية اللون، ذات معدن لماع، يبلغ حجمها ما يغطي كف يده اليمنى أو أقل. قام بعد ذلك بفتحها، مستلا منها بضعة أوراق من ورق البافرة المحلي الصنع والخاص بلف التبغ ( لعل الأمر الوحيد الذي لم يتأكد أبو داود من إحصاءه بدقة هو عدد أوراق البافرة التي أستلها من العلبة) ، وليس أي نوع من التبغ كما تظنون بل هو ذلك الصنف المهرب من شمال الوطن تحديدا، بإعتباره من أجود انواع التبوغ والذي يفوق في مواصفاته ذلك المستورد من خارج حدود البلاد.
وبحركة أصابع رشيقة، سريعة، تنم عن خبرة طويلة، لم تأخذ من وقته سوى ثوان معدودات، استطاع أن يهيأ من عدته البسيطة تلك والتي يحملها معه أينما حل وارتحل، سيكارة أنيقة صلبة، ذات قوام نحيف كنحافة الشجرة التي يتسلقها، تقارب في طولها أصبع يده الأوسط. تلى ذلك أن تذكر بأنه كان قد اشترى قبل يومين بلسماً جميل الشكل لم يدشنه بعد واللحظة ها هي قد حانت، ليضع سيكارته فيه ولتبدو الصورة على نحو من الأناقة التي تليق به.(كيف استطاع أبو داود ومن بعيد تمييز لون العلبة وحجمها ونوع الورق المستخدم في لف السيكارة وما تبعها من حركة، هذا لعمري أمر محير، ولكن لِمَ الغرابة فالأمر حتى الآن لم يخرج بعيدا عن تلك المخيلة التي يتمتع بها أبو داود).
بعدها قام الرجل المتسلق والمحلق في فضاء الله ومن جيب جلبابه ألأيسر بإخراج إحدى القداحات الأثيرة والقريبة الى قلبه، والتي يعود تأريخ صناعتها الى أكثر من عقدين من الزمن، حيث بقي متمسكا بها رغم كل العروض السخية التي قدمت له من أجل مقايضتها بالأجمل والأحدث منها..وبقدحة سريعة، خاطفة بان وهجها من بعيد وكاد صوت قدحتها أن يصل مسامعي، ساحبا منها ما راق له من الدخان، شاعرا بنشوتها وليست كأي نشوة إذ تصاعدت معها رغبة شديدة على التواصل، متطلعا ومن إرتفاع يصل تقريبا الى منتصف ساق النخلة التي يعتليها، الى ما بان من البيوت التي باتت تحت مرمى ناظريه، والى ذلك النهر الصغير وبضعة من صبيان الحي يعومون وهم في كامل عنفوانهم وفي أقصى درجات المرح واللهو، ليعود بعدها من جديد الى محاولاته في التسلق، مبتدءاً بتثبيت قدمه اليمنى على ساق الشجرة الباسقة، غير انه للأسف وكما يتضح قد فشل حتى اللحظة، ربما سيحاول إيجاد موطئا لقدمه اليسرى كبديل عن ذلك، وهذا ما أتأمله وأتمناه، فليس من المعقول أن يستسلم وتَفُل عزيمته ويتراجع، خاصة وأن قد قطع كل هذه المسافة وتجاوز معها كل الصعاب التي إعترت طريقه، في ذهابه وإيابه ولم يبق لإستمال مهمته الا القليل.
ثم عاد أبو داود ليقول: أجزم بأن بلوغ القمة ليس بالأمر الهين وطريقها ليس معبداً بالورود وبغيرها من أسباب الراحة، فالرجل وكما يظهر أمامي في ورطة حقيقية، وقد يسقط من عليٍ بعد أن بدت تظهر عليه بعض من مؤشرات ضعف السيطرة بل ها هو الآن يترنح. لا تلوموه فله كل الحق، فجذع النخلة وعلى امتداد طولها وكما ذكرنا سابقا يبدو مسطحاً بشكله العام، وهذا واضح من حركة ساقيه وتنقلهما، ويعد ذلك دليلا قاطعا يؤكد عدم إستقرارهما على نقطة أو ركيزة بعينها. أي بمعنى آخر وإذا ما أراد العودة الآمنة وإستكمال مشواره ومن حيث إنطلق، سيتوجب عليه والحالة هذه بذل مجهود مضاعف كي يجد ضالته ويعثر على النتوءات البارزة بالرغم من ندرتها، ثم بعد ذلك عليه أن يقوم بتثبيت قدمه عليها والتشبث بها بقوة، لتساعده على مواصلة طريقه، وأعتقد انه سيفعلها وينجح. ألم أقل لكم ان الصعود الى القمة ليس بالأمر السهل؟ فمهما بذلت من جهد وطاقة وعلى الرغم من أهميتهما الا انهما سوف لن يكونا كافيان لبلوغ ما تبتغيه إن لم يُشفعا بطرق تفكير منطقية وصحيحة.
هنا يستحضرني سؤال، فالرجل وقبل شروعه بالتسلق، ِلمَ لم يقم بهز جذع النخلة ويجنب نفسه شر المغامرة وتوابعها، فمن غير المستبعد إذ ذاك أن ينجح في إسقاط ثمرها أو إن شاء وفي موسم آخر تلقيحها، غير انه انتبه سريعا الى ما صدر منه ومعاتبا اياها في ذات الوقت: ما بك يا أبو داود فالفكرة قد لا تتوقف عند رغبة الرجل البستاني في الحصول على الثمرة فحسب، فقد تكون أبعد وأعمق من ذلك بكثير وهو غير ملزم بالكشف عما يخطط له وما ينتوي القيام به، ناهيك عن أن موسم التلقيح وتوقيته لا يتزامنان بل لا يلتقيان وموسم الحصاد وقطف الثمار، وهز جذع النخلة قد لا يظمن تلقيحها، وساعة ذاك سوف لا تأتي النتائج كما يرادُ لها.
وحتى لا يمر هذا الأمر بعجالة فأصحاب هذه المهنة النبيلة يقولون والعهدة عليهم، بأنَّ عملية التلقيح الذاتي قد تنجح مع هبوب الرياح وبالتظافر مع عوامل أخرى، أمّا أنا المعلم في مدرسة الإبتدائية، فلست على علم كافٍ بذلك ولا أستطيع القطع برأي كهذا، فعلاقتي بحرفة الزراعة وما يتصل بها يكاد أن ينعدم، غير ان ما يمكن القول هنا بأن الرجل البستاني وأكاد أجزم قد تعذَّرَ عليه هز جذع النخلة كما في المرات السابقة، وله العذر، فقد بلغ أو تجاوز الستين من العمر، ففعل من هذا النوع يتطلب قوة إضافية كما أسلفنا الذكر. وبسبب من تعذر إنجاز مهمته، كان من الأجدى والأجدر به تكليف أحد أولاده وممن يعتمد عليهم للقيام بالمهمة ويكفيه شر المغامرة وما يمكن أن يترتب عليها.
في هذه الحالة والقول لا زال لأبي داود، سيبرز تساؤلاً مهما، لا ينبغي لنا إهماله أو تجاهله، فالرجل ربما لا زال عازباً!. وإذا ما كان الأمر قد إقتصرعلى ذلك لبدا طبيعياً ويمكن تفهمه وإستيعابه بل ويُعذر، فهناك الكثير من الناس ومن كلا الجنسين ممن فاتهم العمر أو لم يفتهم، اختاروا أن يبقوا عزابا، مفضلين الوحدة على التوائم مع الآخر، وستلتحق بهذه الشريحة فيما بعد وبما لا يدع مجالا للشك جمهرة من المطلقين والمطلقات، ممن زهقت أرواحهم بهذه العلاقة والوثاق الذي أريد له أن يكون أبديا ومحفوظا باللوح المكتوب.
لذا ولما فات ذكره، لا أجد مجالا لإلقاء الملامة على الرجل إذ ربما حسبها على نحو صحيح، وسنضع هذا الرأي في خانة الإفتراض وعلى أساسه سنصل الى سيناريو آخر وعلى النحو التالي: إذا ما كان قد تورط وإقتنع بفكرة الزواج ومنذ بواكير حياته ومضى فيها وأرتضى بإحداهن قرينة له، عند ذاك كان سيتحول حكماً وبفعل المعاشرة الطويلة وما سيتخللها من أحداث ومشاكل وتداخلات، الى رجل مكبل اليدين والرجلين والصدغين وما يعتليهما، هذا إن بقي من رجولته شيئ يذكر، إذن في هذه الحالة مَنْ سيقوم بتسلق النخلة وَمَنْ سيرعاها؟. وكي لا يتهم أبو داود بالإنحياز لطرف دون الآخر أو يعتقد أحدهما بأنه على حق والمقابل جانبه الصواب، فقد ختم تصوراته عن الرجل المتسلق وعن فكرة الزواج عموما بالقول: إن الحديث موجه لكلا الجنسين، للذكر والأنثى على حد سواء. أما لماذا غاص أبو داود في هذا الموضوع عميقا فعلى ما أظن بأنه قد أراد الإتكاء على بعض الذرائع والحج التي تبرر عزوفه عن الزواج.
جزء مقتطع من عمل سردي طويل وقد يُلحق بآخر.