طالعتنا وسائل الاعلام يوم الاثنين المصادف للـ12 من شهر حزيران العام الحالي 2017 بتصريح غريب عن وزارة النفط يتناقض بطبيعته مع توجهات السيد الوزير الاخيرة والغريبة الرامية لخصخصة قطاع التوزيع. و بحسب ذلك التصريح الوزاري, فأن اي شركة خاسرة لن تبقى في وزارة النفط بحلول نهاية العام الحالي 2017. و بطبيعة الحال, فلربما سيسعى السيد الوزير لتسويق فكرة ان شركة التوزيع ليست بالشركة الرابحة, و بالتالي ينطبق عليها وصف الخسارة الذي يستوجب خصخصتها للتخلص من خسائرها. ان من اللافت للنظر ان شركة التوزيع تمثل مصدر القوة المالية الاقوى والابرز في وزارة النفط حيث تتحمل نفقات مالية و مصروفات هائلة تتجاوز نفقاتها و مصروفاتها لتتعداها الى الانفاق على الشركات الاخرى الى جانب الوزارة نفسها, فضلا عن الديون التي لها في ذمة الوزارات و الجهات الحكومية الاخرى. ولنا ان نذكر ان شركة التوزيع تمثل الشركة الوحيدة التي تقوم بنشاط تجاري حقيقي مبني على شراء المشتقات النفطية من شركات المصافي و خطوط الانابيب لتبيعه محققة الارباح جراء البيع بطريقة تجارية بحتة, و ليس كما هو الحال مع شركات الاستخراج و التصفية و التسويق التي لا تشتري و لكن تقوم بعمليات بيع دون شراء مسبق لتتحصل من خلالها على عوائدها. و على سبيل المثال, فان ديون وزارة الكهرباء المستحقة لصالح التوزيع تتجاوز 4.5 ترليون دينار الى جانب ديون اخرى لشركة التوزيع في ذمة شركة خطوط الانابيب تقدر بحوالي 2.5 ترليون دينار, فضلا عن ديون اخرى للشركة في ذمة جهات حكومية اخرى كوزارات الدفاع و الداخلية و غيرها تزيد عن 240 مليار دينار. و لا شك ان ديونا تبلغ 7 ترليونات دينار مستحقة لصالح شركة التوزيع لوحدها تعني ان هذه الديون لوحدها تمثل نسبة معتبرة (لكن موقوفة) من مجموع ميزانية البلاد, نسبة لا يمكن التغافل عنها و عن اهميتها الا اذا كان التغافل مقصودا من جانب السيد الوزير و فريق عمله المتحزب, الامر الذي يسلط الضوء من زاوية اخرى على خسارة الوزارات و الشركات الاخرى مقارنة بأرباح شركة التوزيع التي تحملت و لا تزال عدم استرداد ما لها في ذمة الاخرين الى الان. و برغم محاولات ادارة شركة التوزيع الحثيثة و المستمرة منذ سنوات, الا ان السيد الوزير لم يعر اهمية و لا اهتماما بموضوع استحصال هذه الديون و اعادتها الى شركة التوزيع, الامر الذي لا يفسر الا على انه تصرف مقصود حتما يراد منه اضعاف موقف شركة التوزيع المالي بغية اظهارها بمظهر الشركة الخاسرة او الشركة التي تقترب من الخسارة و بالتالي فلابد من التخلص منها و خصصتها قبل ان تصبح عبئا ماليا على الوزارة. لقد فات على السيد الوزير المحترم ان يقر بحقيقة ان استمرار شركة التوزيع بالعمل و قدرتها و مرونتها العالية على تمشية كل النفقات و المصروفات الداخلية الى جانب النفقات و المصروفات الخارجية التي يوجهها هو شخصيا و غيره من كبار المسؤولين النفطيين الى شركة التوزيع, فات عليه ان يقر بحقيقة ان استمرار عمل الشركة برغم هذه الديون و النفقات و المصروفات انما يمثل امرا مثيرا للاعجاب لاسيما خلال السنوات الثلاث الاخيرة بعد احتلال داعش لمناطق بيجي و الموصل حيث فقد العراق اكثر من 40% من طاقات التصفية لديه, الامر الذي اضطر شركة التوزيع للتعويض عبر ضغط النفقات الداخلية و اللجوء الى الاستيراد لسد النقص دون ان يشعر المواطن بأي شحة. و لنا ان نذكر انه منذ ابتلاع تنظيم داعش الارهابي للمناطق الساخنة شمالي و غرب العراق خلال السنوات الثلاثة الماضية, فأنه لم يتم تسجيل وجود اي طابور طويل للتزود بالوقود في محطات التعبئة حتى في ذروة الايام الاولى للتقدم الارهابي الذي ابتلع مساحات شاسعة من البلاد, و حيث لا تزال ذكريات الازمات حاضرة في اذهان العراقيين منذ ايام دكتاتورية صدام البائدة ابان الحروب و العقوبات و حتى ما بعد سقوطه حينما كان الناس يقضون اياما في الطوابير الطويلة امام المحطات من اجل الحصول على 50 لتر فقط من البنزين. لكن كل هذه الصور السيئة لم تحصل و الفضل يعود هنا الى حنكة و قوة و دراية ادارة الشركة العليا التي تمكنت من مواجهة الموقف بمرونة و كفاءة بالغتين و لا شك, و بشهادة الجميع لها بذلك. فأين انت و ما هو دورك في كل هذا سيادة الوزير؟ و هل ان رد الجميل يكون بخصخصة هذه الشركة المهمة و بيعها الى شركات قطاع خاص واجهة تعمل لصالح احزاب اسلامية مشبوهة يا ترى؟ هذه الشركة التي تتحمل ما تتحمل من اجل دعم المواطن و التخفيف عن كاهله؟
و قبل ان نسترسل اكثر في تفصيل الارقام و الاموال, فأن لنا ان نذكر ان شركة التوزيع تحملت الكثير و قدمت ما هو اكثر دعما للمجهود الحربي الرامي للقضاء على تنظيم داعش و تحرير العراق من سطوة الارهابيين. و من اللافت ان شركة التوزيع قدمت تبرعات من جانب موظفيها لدعم الحشد الشعبي, و التي تجاوزت 200 مليار دينار, و هو رقم ضخم يستبعد ان يكون هنالك من تبرع به من موظفي اي تشكيل حكومي آخر ضمن الدولة العراقية لدعم حشدنا الشعبي في معركته المقدسة, فضلا عن دور الشركة الكبير باشراف مباشر من ادارتها العليا على عمليات الاغاثة و نقل المساعدات و الدعم اللوجستي الى جانب ضخ المشتقات النفطية الى المناطق المحررة و مخيمات ايواء النازحين, هذه الجهود العملاقة التي لم تتمكن اي شركة او تشكيل حكومي آخر من تقديمها بالكفاءة و الضخامة التي حققتها شركة التوزيع. فهل ان رد الجميل يكون بخصخصتها يا ترى؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر, و خلال فترة اقل من سنة و نصف ما بين منتصف العام 2015 و حتى خريف العام 2016, كانت اقيام المبالغ المستقطعة من حوافز موظفي التوزيع بنسبة 1% التي صرفت الى اللجنة المركزية في الوزارة لدعم العمليات الحربية و الحشد الشعبي و النازحين, كانت قد بلغت اقل من 3 مليارات دينار, فضلا عن اقيام المنتوجات النفطية التي ضخت لتموين قطعات الحشد الشعبي التي تجاوزت 40 مليار دينار عدا عن العجلات التي قامت الشركة باهدائها لتعزيز المجهود الحربي و النفقات التي تحملتها الشركة لاجراء صيانة على العجلات المشاركة في المجهود الحربي التي بلغت بحدود 13 مليار دينار عراقي. و اضافة الى الديون غير المستحصلة في ذمة وزارة الكهرباء لصالح شركة التوزيع, فأن شركة التوزيع تحملت اعباءا مالية تتمثل في قبولها ضخ مشتقات نفطية لتشغيل محطات الكهرباء عن طريق الدفع بالاجل, و التي تمثل ديونا اخرى مستحقة الدفع في ذمة الكهرباء للتوزيع تبلغ قيمتها اكثر من 5 ترليون دينار عراقي الى جانب الـ4.5 ترليون السابقة من الديون غير المحسومة الى الان.
و بالحديث عن مصدر القوة المالية الابرز و الاقوى و الاكثر مرونة في وزارة النفط ممثلة في شركة التوزيع, فأن من اللافت ان هذه الشركة تحقق ارباح كبيرة من نشاطات التصدير و بيع المخلفات و الزيوت و فوائض الانتاج و التصفية فضلا عن اجور الخدمات التي تتحصل عليها, و التي تبلغ اجمالا ما يزيد عن 10 مليارات دينار شهريا, فضلا عن بضعة ملايين من الدولار سنويا عن نشاط بيع وقود الطائرات في العراق. و بحسب هذا الكلام, فأن الموازنات الختامية للعام المنتهي 2015 تشير بوضوح ارتفاع ارباح الشركة بنسبة 150% عن ارباح العام الذي سبقه برغم النفقات و المصروفات الهائلة, فضلا عن انخفاض المصروفات عموما بما يزيد عن 20% نتيجة لكفاءة الادارة العليا و حسن توجيهها للموارد المتاحة, فضلا عن زيادة في الاستثمارات المالية بنسبة اكثر من 150%, و ارتفاع المخزونات بنسبة 3%, و برغم زيادة نسبة ديون الكهرباء لصالح التوزيع بنسبة 25%, فقد تكونت زيادة في النقد المتحقق في الحسابات الجارية و احتياطي التوسعات بنسبة 40%. كما تمكنت ادارة الشركة من تخفيض نفقات الصرف على بعض الاوجه المتعددة بما يزيد عن 40%. و برغم ان اجمالي مديونية القطاع العام التي لاتزال موقوفة لصالح التوزيع دون ان يتمكن السيد الوزير من حسمها الى الان لا تزال بحدود 840 ترليون دينار, الى جانب مديونيات الشركات النفطية الاخرى و شرطة الطاقة التي تزيد عن 420 مليار دينار, فأن شركة التوزيع لا تزال قادرة على العمل بكل كفاءة لتحقق الارباح و تقدم الخدمات التي لا يسع احدا ان ينكرها لصالح المواطن في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد مع استمرار الحرب ضد تنظيم داعش و اجراءات التقشف الحكومية في مقابل انخفاض اسعار النفط الخام في العالم.
ان هذا العرض المكثف و الشامل لتفاصيل النشاط المالي لشركة التوزيع يسلط الضوء بوضوح بالغ على كفاءة ادارة هذه الشركة و جودة موقفها المالي برغم الضغوط والظروف الصعبة التي تمر بها, حيث لم تتلكأ في عملها خلال السنوات الاخيرة بشكل خاص برغم واقع الحرب الذي تعيشه البلاد, والذي تظهر حنكة و دراية قيادة الشركة العليا واضحة المعالم فيه بما لا يقبل الشك. لذلك, فأن مصدر قوة مالية قوية و مهمة الى جانب كونها ركيزة اساسية في خدمة المواطن انما لا يفكر وزير عاقل ببيعها للقطاع الخاص ما لم تكن النوايا مشبوهة و حسب. و بحسب التصريح الاخير للوزارة انها لن تبقي على شركات خاسرة بين تشكيلاتها بحلول نهاية العام الحالي, فأن هذا التصريح يؤشر للتناقض الغريب في موقف الوزير مع تصريحه, موقفه الرامي الى التفريط بهذه الشركة ذات الموقف المالي المتميز برغم كل الظروف الصعبة التي تواجهها, و هو ما يؤكد ان فكرة الخصخصة ليست سوى فكرة مشبوهة و مشروع كاذب يراد منه استيلاء المتأسلمين في الاحزاب مدعية الاسلام على هذه القوة المالية المهمة بغية تمويل نشاطهم الحزبي, حيث تدل مؤشرات معينة مثل وجود بعض المحسوبين على المجلس الاسلامي في مكتب السيد وزير النفط والمكتب الاستشاري التابع له, تشير الى ان هنالك لوبي ضاغط (من امثال حيدر الحلفي) يحاول تسويق فكرة الخصخصة بطريقة منمقة كي تذهب هذه الشركة و موجوداتها القيمة الى شركات واجهة تمول انشطة احد الاحزاب الاسلامية و من لف لفها من احزاب الاسلام السياسي الفاسدة التي تريد ابتلاع العراق بما فيه, بعد ان فشلت في مسلسل خداع الناس بشعاراتها الزائفة و الكاذبة. فأي دعم للقطاع الخاص و اي تنشيط لهذا القطاع تريده يا سيادة الوزير؟ اما كفانا تلاعبا بمقدرات هذا البلد الجريح حتى تشاركون اليوم انتم فيما لم يقم به احد من قبل بهدف بيع ممتلكات الشعب بمنطق (التفصيخ) سيادة الوزير المحترم؟ كما ان من المضحك ان تقوم سيادتكم بمحاولة خصخة شركة التوزيع التي تحملت لوحدها مبلغ 90 مليون دينار لغرض تأثيث داركم سيدي الوزير, فكيف لشركة خاسرة ان تتحمل ارقاما كهذه مثلا؟ و لهذه الـ90 مليون دينار قصة اخرى سنرويها في مقال آخر…