23 ديسمبر، 2024 6:49 ص

الوهمُ الزَّمني رَتَبَ لي وحدتي على الطاولة

الوهمُ الزَّمني رَتَبَ لي وحدتي على الطاولة

كلما أتهالك على شيء أحاول أن أسنده ولكوني أعتقد أن هذا الشيء أصيب بعاهة مستديمة فلم تعد لديه القدرة على أن يبدو مرهفا ويانعا وغير قابل للالتواء ،أحصيت السنين التي اختفت عني وتلك التي معي وحين أدرت أصابعي وتلمست جبهتي كانت الأشياء التي أحببتها قد بدأت تتقزز منيَ بدءا من تكراري إزالة الغبار عن صورتي إلى وسيلتي الوحيدة لرؤيا العالم ومحاولتي عبر تلك الفتحة الضيقة ترحيل ألآمي إلى حفرة مخبؤة في ظلام الأبدية ، مرات أقول حان الوقت وأعود فأردد ونفسي حان الوقت على أي شيء ..؟ وأظل أستفهم عقارب الساعة والصندوق الذي ضبطَّ على الورق أمكنة عناويني وأشياء أخرى من سدادات القناني إلى علب الكبريت الفارغة،كل مرة أقرأُ ماكتب على تلك الأشياء ، أتذكر تلك العلبة من أي مدينة وتلك

السدادة من أي شارع أو محال لبيع المرطبات أو من أي فتحة بين قضبان سكك الحديد ،

من ذلك كله أردت ربط الزمن ذلك الغول المخيف أردت ربطه بالأشياء التي تداس تحت الأقدام ،بالأشياء التي ترمى في سلال النفايات ،وفعلت كذلك بما احتفظت به من تذاكر القطارات والطائرات ولكن بنرجسية وبتحسب وبشيء من الأمل في أن الزمن ربما يعود لصالحي فأعود من جديد لكلهانة وماركريت ودافنا وأدرنة وأعود ثانية للشرطية البلغارية في الحدود والتي في كل موسم تشك بصورتي وتكتفي بإنذاري بصراخها وأنا لاأعرف السبب ولاأدري لم هي بالذات تلك المرأة البدينة التي تحمل حقيبة الغرامات على صدرها وعلى أكتافها النجيمات الثلاث

وفي عينيها تمتزجان القوة والرقة فكانت مخيفة لكنها أمنة ،وكانت قانونيةً لكن عدالتها كبيرة وشاسعة ، المهم تكتفي بالصراخ وأكتفي بعد أن تعودت أو بالأحرى نصحني البعض من المسافرين أن لاأحدق عند صراخها بوجهها بل أكتفي بالنظر من نافذة القطار صوب الحقول بل النظر وبهدوء وبسكينة وما أن تنهي مهمتها وقبل أن يغادر القطار أغادر مقعدي صوب صنبور الماء أرطب شفاهي وبنفس اللحظة أبحث عن

المزيد من سدادات القناني ومن علب الكبريت الفارغة لأطمئن على وراثتي من الماضي وخزيني من المساحات والمسافات القصيرة والتي تطبعها ذاكرتي لي عند الأمكنة التحتية من مخيلتي وأتذكر بأنني أنتجت أشياء فيما بعد طيّبت بالي وجعلتني رغم كأبتي أبتسم وأصدق كل ما أقصه على نفسي ، لكني مع مرور الوقت ومع أفول شبحي لم أعد أميز غطاء أي قنينة بل أحاول أحيانا تذكر أي سائل كان فيها لذلك بدأت وسيلتي الأخرى رغم مرور سنين طويلة أن أستغرق بشم باطن السدادات وأعلم أن ذلك لن يكون ذا جدوى ، كذلك الحال مع علب السكائر الفارغة فأحاول أن أخمن مانوع ذلك السيكار وأي علامة تجارية يحمل وأين عثرت على هذه العلبة المذهبة وتلك التي لازالت مليئة بالسكائر لمنتصفها ،وهكذا راح أنفي يتبع الدخان دخان الطائرات ودخان القطارات ودخان السيارات والمراكب ، وراح أنفي لاشعوريا ككلب يشم رائحة شواء ، أشم كل الأشياء التي تنبعث بدخانها من الماضي ومعها صراخ الشرطية البلغارية والمئات من الكيلومترات التي ذهبت ومثلها التي سوف تأتي ، وفي كل مرة أحاول أن أستدعي من الغيب شفيعا لي أحاول أن أرمز لغيابي عن المكان الذي تركته وفي كل مرة

أعبث بما جمعت وأحاول أن أجد مدفنا ملائما للأشياء التي أعتقدت أنها لم تعد من خاصتي

وطوال أعوام لاحقة ظللت أختلس النظر للمدخنين وأعجب لأختفاء الدخان في فم المدخن زمنا ثم خروجه بل حاولت تعلم التدخين لكني أختنقت في نفسيَ الأول وبدأ الوهم الزمني يرتل وحدتي على الطاولة التي بقيت وحيدة تحت الأشجار في حين بقيتُ صامتا لا أتفوه بكلمة طوال السنوات السبع المنصرمة ، وكانت الريح ترمي أمامي المزيد من سدادات القناني والمزيد من علب السكائر الفارغة وكان العديد من رجالات الحدود هذه المرة ينظرون لصورتي في جواز السفر ويبتسمون، في حين بقيتُ كعادتي والشرطية البلغارية أنظر عبر زجاج القطار الى الحقول

والغيمُ غطى بسواده

مابقي من مسافة

للوصول إلى الوهم الزّمني

الذي رتبَ وحدتي على الطاولة ،

ومنحني وسيلتي الوحيدة

كي لا أرى في منامي المرأة البدينة قاطعة التذاكر

وأن لايشم رائحتَها أنفي

مثلما يشم الكلبُ رائحةَ الشَّواء ،

[email protected]