لم يشهد العالم ردة فعل قوية وواضحة ضد الارهاب كتلك التي شهدها بعد تفجيرات باريس المروعة في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
ربما لم تكن ردود الفعل الغربية على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في مدينة نيويورك الاميركية عام 2001 بهذا المستوى، ناهيك عن الكثير من الاحداث الدامية التي تعرضت لهابلدان غربية عديدة ما بين أيلول/سبتمبر 2001 وتشرين أول/نوفمبر 2013.
اثنا عشر عاما والعراق يتعرض لشتى صنوف الارهاب التكفيري، ليخسر الالاف من ابنائه بين شهداء وجرحى، والكثير من موارده وامكانياته، وتنتهك حرماته ومقدساته الدينية، ولم يحرك العالم ساكنا، وفي افضل الاحوال كانت تصدر بيانات ادانة واستنكار من هنا وهناك لا تغني ولا تسمن، ولا تقدم ولا تؤخر، ولا ترعب ولا تردع.
وقد كان الكثير من العقلاء في العراق يرفعون أصواتهم ويحذرون من خطر ارتدادات الارهاب التكفيري الى الداعمين والممولين له، والساكتين عنه، والمهادنين له، ولكن لم يكن هناك من هو مستعد للاصغاء، واذا كان هناك من يصغي، فهو لا يفعل شيئا، اما حفاظا على مصالحه، او خوفا من وصول نيران الارهاب لاراضيه.
وامتد الارهاب الى سوريا ومصر واليمن ولبنان ودول اخرى في افريقيا، والى افغانستان وباكستان، وحتى في أوروبا، وبقيت المواقف والتوجهات على حالها، بل واكثر من ذلك، كان هناك من يعمل جاهدا على خلط الاوراق وتحريف الحقائق، بتوجيه الاتهامات لاطراف بعيدة كل البعد عن الارهاب بشتى اشكاله وصوره.
وقد لا يحتاج المرء لبذل الكثير من الجهد ليقف على القدر الكبير من التزييف والتحريف، حينما يتابع وسائل اعلام واسعة الانتشار ومؤثرة في ملايين الناس، مثل قناة (BBC) البريطانية، وقناة (CNN) الاميركية، وقناة الجزيرة القطرية، وقناة العربية السعودية، وما ينضوي تحت عباءة تلك العناوين الكبيرة من قنوات وصحف واذاعات ومواقع الكترونية ومراكز بحثية. الى ان جاءت تفجيرات باريس المروعة، لتكون بمثابة الزلزال المدمر، والصاعقة المحرقة لعموم العالم الغربي، ومن يدور في فلكه ويتبع له.
ولا شك ان الصدمة كانت قوية للغاية، والا ما تغيرت لهجة الخطاب السياسي والاعلامي والفكري الغربي الى حد كبير، وبات يتحدث بكل وضوح وصراحة عن مخاطر الفكر التكفيري الوهابي، وضرورة التصدي له على كافة الصعد والمستويات.
وهذا التحول المهم، كان بمثابة الحد الفاصل بين مرحلتين، مرحلة ما قبل احداث باريس ومرحلة ما بعدها.
كبار الزعماء الغربيين في باريس ولندن وواشنطن وروما وبرلين وبروكسل وغيرها، راحوا يشخصون ويؤشرون بكل وضوح الى ان الفكر التكفيري (الوهابي) هو الذي يقف وراء وجود تنظيم داعش الارهابي، وإن لم يتمكنوا من وضع حدٍّ لذلك الفكر المنحرف، لن يكون بالامكان القضاء على الارهاب واستئصاله من جذوره بالكامل، والمعنى واللجهة والاسلوب نفسه، اخذت وسائل الاعلام الغربية، وحتى العربية التابعة او القريبة من العواصم الداعمة للارهاب التفكيري او المتعاطفة معه، تتحدث وتتناول تداعيات الاحداث في باريس، وما احدثته من موجة قلق ورعب وفزع في عموم العالم الغربي، بل والعالم قاطبة.
واليوم، يدعو كل الغرب الى ملاحقة ومحاصرة رجال الدين المتشددين حاملي الفكر التكفيري المحرض على الارهاب، والجميع يدعو الى محاسبة الدول الداعمة والممولة – سياسيا واعلاميا ماليا – للفكر التكفيري، وواضح هنا ان المقصود بالدرجة الاساس، المملكة العربية السعودية، بل ان وسائل اعلام عديدة ذكرتها بالاسم، ما اثار حفيظة وغضب رجالات الحكم في الرياض، الذين لم يعتادوا على مثل تلك الحملات الاعلامية القوية والصريحة ضدهم.
واكثر من ذلك فإن المراكز الدينية البارزة في العالم الاسلامي، مثل الازهر الشريف تبنت المواقف ذاتها بعد ان استشعرت خطورة الامور وحساسيتها، وما يمكن ان تفرزه من آثار ونتائج سلبية على المسلمين بصورة عامة.
وربما كان العراقيون – بحكم ما تعرضوا له من استهداف تكفيري ممنهج طيلة اثني عشر عاما – أول من نبه الى مخاطر الفكر التكفيري على جميع دول العالم، والمرجعيات الدينية في النجف الاشرف اشارت الى ذلك في مناسبات مختلفة، وبعض الزعامات السياسية كذلك، فضلا عن نخب ثقافية وفكرية واعلامية عديدة.
والان، حينما تطلق زعامات سياسية عراقية، كما بالنسبة للدعوة التي اطلقها رئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي السيد عمار الحكيم، دعوات الى اصدار قرار اممي بمحاربة الفكر التكفيري(الوهابي)، فأن ذلك يمثل تأكيدا لقراءات ورؤى دقيقة، وتشخيص واقعي، لم يحظى باهتمام المجتمع الدولي في السابق، واليوم لم يعد هناك مناص من ايلاء القدر الاكبر من الاهتمام حتى يتوقف نزيف الدماء، في العراق وسوريا ووو، وحتى لاتمتد كوارث وويلات ذلك الفكر المنحرف الى اصقاع العالم الاخرى.
ولا شك ان مرحلة ما بعد احداث باريس التي أخذت تبلور توجها جادا لمواجهة الفكر التكفيري(الوهابي) ستشهد الكثير من التفاعلات، ولعل الغرب بدوله ومجتمعاته سيكون هدفا لذلك الفكر، بشتى ادواته الارهابية، مثلما حصل في الشرق الاوسط، ولا سيما العالم الاسلامي فيه.
وهنا فإن اعادة النظر بصورة حقيقية من قبل الغرب بمجمل ممارساته وسلوكياته ومواقفه، وتصحيح ما هو خاطئ وسلبي منها، يعد المدخل الاساس لتطويق واحتواء تنظيم داعش والقاعدة وكل عناوين ومسميات الفكر التكفيري الوهابي. وحينما يصحح الغرب ممارساته وسلوكياته ويعدل مواقفه وتوجهاته فإن منابع الفكر التكفيري، كالسعودية وغيرها ستجد نفسها مكشوفة وفاقدة الفعل والارادة والتأثير.