19 ديسمبر، 2024 1:14 ص

الوصية والأرث…بين النص والتفسير …؟/16

الوصية والأرث…بين النص والتفسير …؟/16

الكتاب والقرآن – تأليف الاستاذ الدكتور محمد شحرور
تواجه مسألة الوصية والأرث في عالم الاسلام أشكاليات عديدة : منها كيفية تفسير النص القرآني فقهياً وترادفياً وفهم الفقهاء الخاطىء له، كما جاءت في كتب الوصايا والمواريث وكيفة أخضاعه للتقاليد والأعراف خارج النص القرآني .هذه الاشكاليات بحاجة الى دراسة حيادية معمقة لرفع الظلم عن كثير من الناس الذين أكتووا بنارها مظلومين . فالفقهاء اصحاب نظرية الترادف اللغوي القرآني – الذين مات زمانهم واصبح من التاريخ – قد أساؤا لتفسير النص لجهلهم به في ذلك الزمن المتقدم فجاؤونا بنظريات لم ترد في القرآن ابدا. لا بل قل ان غالبية الفقهاء الذين اعتمدنا عليهم في كل المذاهب الحالية المخترعة والميتة زمنياً ما كانوا بمستوى الفهم الصحيح لمهنتهم الدينية التي اوهموا الناس بها فكانت شرا مستطيرا على مستقبل الأمة ككل دون تحديد.

الوصية :

شكل من أشكال توزيع المال،وهي مفضلة على الأرث لقدرتها على تحقيق العدالة الخاصة المتعلقة بالأشخاص بعينهم، لذا فالتماثل معدوم في الوصية .أما الأرث فهو حصة الشخص الوارث ،يحدده موقفه من الموروث سواءً من الأب او الزوج ،فالتماثل فيه موجود.

تعتبر مسألة الوصية والأرث، كما وردت في الكتاب الحكيم من جهة ، وكما طبقت عبر القرون الماضية بحسب فهم الفقهاء لها من جهة ثانية ،وكما هي في كتب الفرائض والمواريث المعمول بها من جهة ثالثة،وبما تعلق بها من أعراف في هذا البلد أو ذاك خارج الآيات القرآنية والكتب من جهة رابعة مثالا لما نقصده من أشكاليات فرضت على المجتمعات الاسلامية دون وجه حق في التطبيق. فهل مثل هؤلاء الفقهاء يستحقون الولاء والتقليد؟

سنحاول في هذه المقالة قدر أستطاعتنا معرفة الاشكاليات التي نتجت عن تطبيق آيات الوصية والمواريث،ونحدد الأشكاليات التي نواجهها نحن مع تفسير الآيات بقصد فهمها وتطبيقها بعيداً عن منطلقات سادت ، معرفية كانت كالاقتصار على العمليات الحسابية ، ام اجتماعية كانت كذكورية المجتمع والروح العشائرية والقبلية المتخلفة التي حكمت توزيع الثروة الأرثية في القرون الماضية ولا زالت.

لم يترك الفقهاء ووعاظ السلاطين من المتحكمين في الشرعية الدينية وتدعمهم السلطة السياسية عبر الزمن في عالم الأسلام لهم من تفسير لآيات القرآن الكريم ودستور المدينة المغيب لصالح التنظير السياسي في الدولة الاسلامية من شيء مفيد ، حتى أضاعوا علينا كل ما جاء في القرآن الكريم من حقوق الحرية

2

والمساواة الاجتماعية بين الذكر والأنثى وحولوا الاسلام الى اسلام العادات والتقاليد البالية . لتبرير نقل الشرعية السياسية في حكم الناس من الشورى الحقيقية لمستحقيها الى شورى الدولة المتسلطة على الناس بقانون القوة لا بقوة القانون.كما حدث عند البحث عن شرعية الخلافة عند الأمويين تارة، وعند الزبيريين والعباسيين تارة ثانية ، وعند الطالبين تارة ثالثة ،وكأن النص المقدس في خلافة المسلمين في الأرض ورئاستها جاء نفعاً للمتخاصمين.

لو نظرنا في التنزيل الحكيم سنجد للوصية عشر آيات ، وللأرث ثلاث آيات، بينما الآيات القرآنية الكريمة تعطي في أربعة مواضع الأولوية للوصية في توزيع التركة فتقول أحداها:( من بعد وصية توصون بها ،النساء12).

لقد جاءت الوصية في آية صريحة في سورة البقرة لقوله تعالى: (كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرأً الوصية للوالدين والأقربين حقاً على المتقين ،البقرة 180). وهذا ما هو مطبق في القوانين الأوربية والأمريكية حالياً،بعد ان اصبحت الدولة الاوربية والأمريكية دستورية المنشأ والقانون.

ومع تقديم الوصية على الأرث نجد ان الفقه الاسلامي المطبق اليوم يعطي الأولوية للأرث وليس للوصية وأحكامها،لأصرار الفقهاء على تطبيق ما جاء بحديث منقطع عن أهل المغازي يقول:( لا وصية لوارث) وهو حديث موضوع لا اصل له في ما نقل عن الرسول الكريم (ص)وما أكثر الأحاديث الموضوعة التي أربكت الحياة السياسية والاجتماعية في عالم الاسلام المتخلف.وما حصل ، لأن الفقهاء أصبحوا وعاظ سلاطين للحكام ،فاماتوا الحق والدين . أما آن الآوان اليوم لانهاء ارائهم في التطبيق ؟ واستبداله بالقانون ؟.

كنا نأمل هذا بعد التغيير،لكن مع الاسف ان قادة التغيير اصبحوا اكثر من الفقهاء ظلما للنص والناس والقانون حين اعتمدوا المشيخة العشائرية المتخلفة بديلا للقانون.

كما ان هناك خلطاً بين الحظ والنصيب فيما ترك الوالدان والاقربون كما في قوله تعالى:( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه او كثر نصيبا مفروضاً،النساء آية 7) وهذه الآية الكريمة جاءت في الوصية لا في الارث ،لأن النصيب هو حصة الانسان في الوصية،أما الحظ فهو ما يصيب من مجموع الأرث للجميع.كما في آية النساء لقوله تعالى: (بعد وصية يوصي بها ،النساء 12). والآية الكريمة حددت ان الوصية مقدمة على الارث. فلماذا الاصرار على الخطأ في التطبيق؟ .

ومع كل هذا التحديد والوضوح في الايات القرآنية الحدية في تفضيل الوصية على الارث فأن الفقه الاسلامي المطبق اليوم يعطي للارث صفة التفضيل. ويصر على النسخ لآيات الوصية وبخاصة قوله تعالى:( الوصية للوالدين والاقربين).علما ان الناسخ والمنسوخ فهم على غير حقيقته وأهدافه الذي جاء من أجلها،فهو لا وجود له في القرآن بموجب تفسير الفقهاء فهم لا يميزون بين العدالة في آيات الارث والعدالة الخاصة في آيات الوصية، من حيث ان العام لا يغطي الخاص. والنسخ لا يأتي في الآيات القصار وأنما ياتي في الرسالات ،فرسالة عيسى (ع) نسخت رسالة موسى (ع)،ورسالة محمد (ص) نسخت كل الرسالات

3

التي سبقتها.والا لتعددت الرسالات واصبح من المتعذر حصرها بالاسلام كما في قوله تعالى 🙁 ومن لم يبتغِ غيرالاسلامَ دينا فلن يقبل منه ،آل عمران85). وسنأتي على الناسخ والمنسوخ بمقالة لاحقة.

وهناك قضية اخرى مهمة وهي ان الفقهاء أعطوا حصصاً من الارث لاشخاص غير واردين البتة في آيات الارث كالاعمام وغيرهم ،وهذا من اثار المنطلقات الاجتماعية والسياسية التي اشرنا اليها والتي يصر الفقه الموروث على تجاهلها،وعدم رؤيتها أصلاً.هنا ظلم فاحش للمواريث الذين يحرمون من الارث بانتقاله للاعمام والاخوة والاخوات دون بنات المتوفي في حالة عدم وجود الذكور معهن .لكن الآيديولوجية الجعفرية لا تجيز هذا الحكم الشرعي الذي به يدعون،وانما التركة تعود بالكامل للورثة أناثاً كانوا ام ذكورا.مما دعى الكثيرون من المذهب الحنفي الانتقال الى المذهب الجعفري لضمان انتقال ثرواتهم بعد الوفاة الى بناتهم وليس لغيرهم كما في جمهورية مصر العربية والسودان اليوم.

وهذا هو الصحيح اذ ليس من المعقول نقل تركة المتوفى للأخرين من الأقربين وترك الأصل.

ان الوصية هي الاساس الاول لانتقال الملكية ،وهي المقدمة في النص القرآني لانها تأخذ في الأعتبار الشروط والظروف الموضوعية الخاصة بالموصي، وتحقق العدالة التامة على مستوى الافراد،لان الله تعالى احترم ارادة الموصي في توزيع تركته من بعده. كما ان بامكان الموصي ان ينفذ وصيته وهوعلى قيد الحياة ،وهذ هو الذي جعل البعض يهرب من قاعدة لا وصية لوارث فهل من مخلص لدراسة الحالة الشرعية ومنح الاستقرار للنفس الانسانية في هذا الجانب المادي من الحياة.فالتماثل في الوصية غير موجود.

اما الارث فالتماثل فيه موجود،والناس في الأرث متماثلون ،وحصة الوارث في قانون الأرث العام يحددها موقعه من الموروث(الاب او الام او الولد اوالبنت).وبما ان المجتمع الانساني يقوم على التنوع في الشروط المعاشية والاسرية والاجتماعية والالتزامات،فقد تم تفضيل الوصية على الأرث في التنزيل الحكيم (الآية 180 البقرة). ولا ندري لماذا تصر الحكومات على تطبيق خطأ تاريخي جاء به ممن لم يحسنوا تفسير الآيات القرآنية وفق منطق الترادف اللغوي الخاطئة التي لا تتفق وتطبيق النص القرآني بصحيح.

انه قانون عام أوصى به الله تعالى لكل أهل الارض،لذا فهو قانون احتياطي يعمل به في حال عدم وجود الوصية.ان القوانين الاوربية والامريكية المتقدمة تاخذ بنص الوصية ولا أثر لقانون الارث عندهم وهذا هو الصحيح.نحن بحاجة ماسة الى تشريع قانون يعتمد على النص القرآني محكم ينصف الورثة في استحقاقاتهم من الموروث دون مشاركة الاخرين معهم وفي كل المذاهب الاجتهادية دون تفريق . ومساواة الرجل بالمرأة كما جاء في النص الكريم،وألغاء اراء الفقهاء التي جاءت تأييدا لذكورية الرجل على المرأة الباطلة في التطبيق شرعا وقانوناً.

4

من هنا ومع تقدم التطورات الحضارية فالامريقضي بازاحة اراء الفرق الاجتهادية والغائها والتي اصبحت من التاريخ ،وتمثل عائقا في التطور الحضاري للمسلمين ،وهي الاساس في كل مشاكلنا الحالية واستبدالها بالقانون المدني حصرا بعد ان ضيعت حقوق الناس من جراء تطبيقها الخاطىء في مجتمعاتنا العربية والاسلامية. علما ان دولة الرسول(ص) كانت دولة مدنية دستورية لا دينية صرفة ،لكنهم يصرون على جهلهم ما دامت الحكومات المنتفعة منهم بجانبهم في التأييد..

نحن ننادي اليوم وبكل قوة بالغاء الوقف الشيعي والوقف السني واستبدالهما بمؤسسة القضاء القانوني المدني أو وزارة الأوقاف لتخليص الدولة من وعاظ السلاطين والاستحواذ على ثروات المواطنين، واخضاع العتبات المقدسة بمواردها الضخمة لخزينة الدولة ، كما تفعل المملكة العربية السعودية في موارد مكة والمدينة، والتي نقلتها الى مدن حضارية تلبي كل حاجات الزائرين.وبقيت مدننا المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية ،خرائب بأستثناء المراقد المقدسة وهذا غير صحيح. فلماذا لا ننقلها الى مدن حضارية متطورة كما عمل الفاتيكان اليوم الذي يساهم في اعمار المناطق التابعة له ، وكل الموارد الضخمة تذهب لجيوب المرجعيات ورجال الدين ليبنوا فيها امبراطوريات المال كما نراهم اليوم في انكلترا وغيرها من مدن الأوربيين.حتى ينتفع منها وعاظ السلاطين ومن يساورهم من ذوي السلطان الأكبر .

مسألة شائكة بحاجة الى حل ،فأين العبادي منها ؟ لقد حاول الزعيم عبد الكريم قاسم صاحب الفكر المنفتح ان يضع حدا لها حين الغى قانون الاحوال الشخصية واستبدله بأخرساوى بين الذكر والانثى في الارث وكان في طريقه لالغاء كل القوانين الاخرى المعرقل لعملية التطوير الحضاري وهو الصحيح ،لكن من جاؤا من بعده من الجهلة والحاقدين من قتلة البعث المجرم ، الغوا القانون بدافع العادات والتقاليد العشائرية البالية.ويعتبر الغاء قانون العشائر المتخلف من قبل الزعيم قاسم من اهم الانجازات القانونية في دولة العراقيين،حتى شبهه احد القانونين بالقانون رقم 80 للنفط والغاز .

مع الاسف ان كل مرجعيات الأديان الاخرى في العالم وجدت حلولا عملية لمواطنيها اجتماعيا ودينيا وخلصتها من فِرق الأراء الدينية المتضاربة ، الا مرجعيات وفقهاء الدين الاسلامي الذين أوقعوا المسلمين بمتاهات لاهوتية ما ورائية ادخلته في انفاق مظلمة لن يخرج منها ابدا الا اذا اراد الله أمرا كان مفعولا بعد ان تركز الخطأ في رؤوس الناس فأصبح نزعه من المستحيل. حين اخترعوا له المذهبية والطائفية والفتاوى الباطلة والاحاديث النبوية المزورة، بعد ان جعلوا حياة المسلم مرهونة بمرجعيات الدين و،كأن المسلمين لا علاقة لهم ابدا بالقوانين،وكأن محمداُ (ص) لم يأتٍ بدستور وقانون، واختلافات العبادات وتدمير الشورى الذي جاء بها الاسلام.حتى جعلوا الاسلام وكأنه جاء ليحيا بالناس لا ان تحيا الناس به، وهنا مكمن الجريمة الكبرى ضد المسلمين.

من هذا التوجه الخاطىء من مؤسسة الدين في الوقت الحاضر أصبح المسلم يقبل الخيانة بكل أنواعها ، والتزوير وحكم الباطل ، وأستمراء المال العام حراماً بكل اشكاله، والانخراط في الأرهاب وقتل الأمنين

5

بحجة الدفاع عن الشرعية، كما تراه اخي القارىء اليوم في الرئاسات العليا والوزراء والنواب وغالبية المسئولين الاخرين ، وتجُرءهم عل أختراق القوانين دون تردد من دين…؟ .

وأخيرا والقول لنا وليس للمؤلف ، نقول :

مالم نتخلص من نظريات الفقهاء الجامدة في تفسير النص المقدس التي عفا عليها الزمن واصبحت تاريخ ، ونفصل مؤسسة الدين عن مؤسسة السياسية في تقرير مصير المواطنين ،ونبعد رجال الدين وهرطقتهم عن المواطنين،ونصحح تأويل النص الديني بما يتلائم ونظرية التطوير ، فأن الاجيال القادمة ستطالبنا بالقوة بتغيير النص القرآني التي ترى فيه عجزا عن تحقيق مبادىء الحرية والا ختيار والحقوق يين بني الانسان أجمعين التي هي اساس الحياة الانسانية في الاسلام ،وهذا من حقها؟ وخاصة في النص “اطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم”. لأن اصول التشريع الاسلامي قائم على البينات المادية،واجماع أكثرية الناس لاعلى فتاوى رجال الدين الذين لا يعترف بهم القرآن ولا يخولهم حق الفتوى على الناس ولا يميزهم بتقديس،انظر الاية 174 من سورة البقرة .

اننا اليوم بحاجة ماسة وفورية الى دستور واضح النص في التحقيق ،وقانون ملزم في التطبيق ،وشورى عادلة لا تقدم أولي الأمر على المواطنين،كما فسروها خطئا اصحاب السياسة ومرجعيات الدين،وتغليب روح المؤخاة الذي جاء به الرسول (ص) لنجتمع على خير الجميع،ونرفض كل تجبر او طغيان علينا من سلطتي السياسة والدين ورؤوساء عشائر التخلف والتخريف. وبهذا التوجه سنشق الكفن لنخرج الى الحياة بعد ان أودعونا سنين طوال في دكك المواتى مسجين دون حراك من حرية روح او دين.

ان العمود الفقري للعقيدة الاسلامية هو قانون التغير والتطور حيث تكمن عقيدة التوحيد،كفى هرطقة مؤسسة الدين التي اوصلت الشعب العراقي الى اسفل سافلين وحولت حياته الى اوهام التخريف لتكبلنا اكثر مما نحن فيه من المكبلين ،وبذرت كل اموالنا في العادات والتقاليد الميتة التي لانفع منها ابداً،لا بل استمرارية التخلف والتجهيل،مستغلة العقل الساذج والحاكم الفاسد لتوطين نظريتها التي تكسب منها الملايين وتبني المؤسسات خارج الوطن لها ولأعوانها من المتخلفين ،تاركة الشعب يموت دون شفقة او يقين .

وكأنها ما جاءت الا للتخريب وقتل المرأة العراقية بقتل حقوقها ورميها في مزبلة التاريخ .نعم هذا هو هدف مؤسسات الدين المنغلقة عقولها الا ما يشبع رغباتها في المال والجنس والتقديس ولا غير.وكأن الاسلام جاء لها لا للجميع وهو الدين الذي لا يعترف بهم ولا يخولهم حق حكم الناس والتقديس.

ان حرية التعبير عن الرأي ،وحرية الاختيار ،هما اساس الحياة الانسانية في الاسلام … فهل سنقبل ساعتها التغيير…؟ نعم… الا حينما يحكم الوطن من الرجال لا امعات التاريخ.

[email protected]