لن احاول في هذا المقال ان اتقمص شخصية ميكافيللي (١٤٦٩- ١٥٢٧) حينما بدأ بتدوين أفكاره في كتابه الشهير “الامير” والذي يعتبر من المحاولات الاولى لتجاوز الفكر الديني السائد آنذاك .. مبشرا بميلاد منهج جديد في الفكر السياسي اصبح بالتدريج هو الغالب في القرون التي تلت ولاسيما بعد الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩.
يبدو ان البشرية كان مكتوبا عليها ان ترضخ دوما تحت سلطة احد الطغاة … فقد انتقلت أوروبا من طغيان الفكر الديني الى طغيان الملوك والأباطرة ثم استثمر الجميع من ملوك و سياسيين جمهوريين على مر العصور الفكر الميكافيلي للاستئثار بالسلطة بشتى السبل …حتى قيل ان السياسيين مثل حفاظات الأطفال يجب استبدالهم بين حين وآخر قبل ان تفوح رائحتهم .
لقد عانينا نحن العرب والعراقيون على وجه الخصوص من شتى انواع الطغاة عبر تاريخنا الطويل ولم ننعم بشيء بسيط من نسائم الديمقراطية سوى في ومضات عابرة تكاد لا تسجل حضورا متميزا في حياة الكثيرين ممن هم على قيد الحياة منا الان . والأنكى من ذلك لقد عادت بنا عجلة الحياة الى الخلف لنشهد عودة طغيان الفكر الديني والمذهبي بشكل مفزع وصعد الأراذل والحثالات لتسيد المشهد السياسي مستخدمين بخار الدين والمذهب لتسيير قاطرتهم المجنونة كما يحدث الان في الموصل من قبل داعش او جرائم التطهير المذهبي التي تمارسها المليشيات الطائفية في المقدادية مثلا.
لكي نتصور عملية إعداد و خلق طاغية معمم دعني عزيزي القاريء آخذك في رحلة افتراضية قصيرة فتخيل معي مراهقا او شابا في مقتبل العمر وهو يجتهد في دروسه كي ينال اعلى الدرجات بغية الالتحاق بإحدى الكليات المرموقة.. ومن لا يحالفه الحظ لإنهاء الدراسة الثانوية فقد يتدرج بإحدى المهن فيصبح نجارا او مصلح سيارات او سباكا يكسب من مهنته ما يجعله يعيش بكرامة تساهم في استقرار مكانته في المجتمع . هذا هو السلوك الطبيعي للأفراد في المجتمع كل حسب قابلياته الفكرية ومهارته او حاجة أهله لفرد من العائلة يدخل سوق العمل مبكرا ليسهم في إعالة تلك الاسرة.
اما سقط المتاع ممن لا يصلح للدراسة الأكاديمية او الانخراط في الحياة المهنية فقد يلجأ ذووه الى زجه بإحدى مدارس الإعداد الديني التي تثقفه ولسنوات عديدة ضمن منهج ضيق يعتمد التكرار والخطابة الببغاوية بزاوية نظر حادة غير منفرجة تجعله احادي التفكير في نظرته للحياة . وما ان يتخرج إماماً يصعد المنبر لاول مرة في صلاة جمعة ويرى جمعا غفيرا من الرجال يشرأبون باعناقهم للتبرك بطلعته البهية ويهزون رأسهم موافقين على كل ما ينطق… حينذاك سيرى نفسه بعدسة مكبرة وتبدأ عملية صناعة طاغية صغير يكبر مع الأيام معتقدا ان الحق معه دوما وان الباطل لا يمكن ان ياتيه… كيف لا وهو الناطق بأسم الرب بل وكيل أعماله كذلك .
لا بد لي من التنويه الى ان هناك استثناءات لهذه القاعدة ولكنها قليلة للأسف الشديد .
اما على صعيد المجتمع و بعيدا عن رجال الدين ومصائبهم فأستطيع عزيزي القاريء ان أوجز لك عملية صنع الطغاة بالنقاط الموجزة التالية:
١. اذا كنت تخشى ان تعارض جَهْرًا بعض أفكار احد معارفك في حلقتك الاجتماعية التي تنتمي اليها او تتلكأ في البوح بأفكارك خشية اثارة غضبه او تبرمه فأعلم انك تشهد ولادة طاغية صغير سيكبر مع الزمن و يجعلك تندم على صداقته يوما لانه سيمضغ كرامتك ويبصقها كما تُبصق العلكة القديمة التي زالت حلاوتها .
٢. اذا كان اي نقاش في المنزل بين الزوج والزوجة ينتهي بالصراخ او السباب من احد الطرفين فاعلم ان واحدا على الأقل من الأطفال سينشأ كطاغية لانه لم يتعلم فن الحوار الهاديء .
٣. اذا كنت تخشى ان تسأل في الصف معلمك سؤالا ما خشية ان يستهزأ بك ويمسح بك وبكرامتك الارض فاعلم انك انت او أحد زملائك في الصف ستحدثه نفسه ان يسلك سبل الطغاة كي لا يجرأ احد على الاستهزاء به .
٤. اذا أساء شرطي إليك بدون وجه حق أو طالبك موظف عمومي برشوة كي يقضي حاجتك وإذا علمت ان خزينة دولتك خاوية لان سياسييها وحكامها اللصوص قد نهبوا الجمل بما حمل فاعلم ان حلم الطغاة سيراودك كي تقضي على كل هؤلاء المفسدين دفعة واحدة ولكن أرجو ان تعلم كذلك ان صيرورة الطغاة ستبقى تدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها .
بعد كل ما تقدم ذكره هل تجرأ عزيزي القاريء ان تتخيل الطغاة وقد انقرضوا من العراق كما انقرضت الديناصورات ؟؟؟
اني اشك بذلك .
[email protected]