19 ديسمبر، 2024 9:34 م

الوصايةُ على العراق .. حكمُ الأرباب والجماعات

الوصايةُ على العراق .. حكمُ الأرباب والجماعات

الطامة الكبرى في اجتماع أهل السواد تكمن في إستعصاء العقل النظري النقدي للفرد العراقي وهو يسلم بموروث الاتباع والتقليد والارجاع تسليماً فطرياً بدون ان يمتلك الارادة الحرة والمقومات الفكرية الادراكية لتمحيص واقع الخراب وهو يعيش تحت وطأته بمخرجاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والذي أصبح مخروقاً منهوباً والفساد الحاكم فيه مبنياً للمجهول المعلوم والخطاب السياسي والديني والنخبوي على حد سواء بات واهناً كطنين الذباب لايهش ولاينش، يعمم ولا يشخص يبعض ولا يخصص فشاع التطرف واصبح الاجتماع على شفا حفرة من الهلاك، والصراع قاب قوسين او ادنى من فتنة لا تحمدُ عقباها ومع كل هذا الجور والظلم والفساد يبقى الفرد العراقي خائباً من طامة الخراب دام ظله الوراف على واقعه ومستقبله ومتمسكا بالارباب قُدست اسرارهم وثرواتهم واستثماراتهم فالغالبية العظمى من اهل العراق يتبعون الاحداث بنتائجها ولا يأخذون بالاسباب ولا يملكون مرتكزات القيادة الذاتية ولا التعبوية الموضوعية للقيام والتمرد لانهم قد توارثوا طوعاً وكرهاً متلازمة الخضوع والوصاية عليهم عبر اجيال من الهيمنة والاستبداد على الوعي العقائدي واستيعابه في طقوس التدين والاعراف والسلوك والتضليل والتأويل المنقطع النظير فاصبح الخروج من فناء الاعتقاد والتدين والبداوة الى فضاء الحرية والمعرفة والتحضر عقدة تختلط فيها طبيعة الموروث الديني والاجتماعي بالهويات الازدواجية التي تتشكل تباعا لاصحاب الوكالة المقدسة وسطوة المال السياسي والسلطة العشائرية التي ترعى القطيع تلو القطيع ومن يخرج من اطار الموروث المقدس مستحضراً متغيرات ومتطلبات الحداثة والعصرنة يكون خارج عن الملّة وطاعة اولي الامر الشرعية عبر التوكيل الفقهي النمطي التقليدي ومرتد عن نصرة العقيدة والمذهب وقد كان لهذا التضاد اثراً كبيراً بانعكاساته الواقعية على شخصية التابع الذي طالما تمرد على نفسه ومحيطه وعلى الدولة ولكنه يقف خاشعاً متصدعاً من خشية اولياء القداسة والعصمة فهو بنظرته ووعيه المحدود بحدود سذاجته وما يحمله من تركة الاضداد يسعى غافلاً مضللاً للمطالبة بما تصاغر من مقومات الحياة واغلق البصر عما تعاظم منها لدى الاسماء التي سمّوها وقدّسوها هم “الأرباب” .
وصنمية الأرباب بوصفها ظاهرة تاريخية متجذرة في التكوين السايكولوجي لبنية الاجتماع العراقي تعد جوهر الازمة في العمق التوارثي وما أجتره من صراع على السلطة بمختلف مسمياتها ومستلزماتها النفوذ والمال .. وبغض النظر عن الخلفية الفكرية والايديولوجية فقد اسهمت اشكالية الارباب في تعويق وتفتيت اي مسعى لقيام مرتكزات الدولة بتوصيفها الاعتباري ومعادلاتها القانونية وادواتها المؤسساتية فذلك يناقض تكوين الدويلات العميقة السرية والعلنية وتشكيل الجماعات والفرق والحركات لادامة العروش الربانية والوصاية الالهية.. وكل التداعيات التي افرزها الواقع السياسي اليوم هي نتائج حتمية لعصمة الارباب وهم باقون ويتوارثون النسب المقدس جيلا من بعد جيل واصبحوا ارقاما لاتعد ولا تحصى في موازين القوى المتصارعة على الموارد الاثرائية بما استطاعوا من الاستحواذ عليه سبيلا .. فواقع الخراب والفساد في ارض السواد هو صيرورة تاريخية ممتدة في عمق التراث العروبي الاسلاموي وديمومة الصراع بين الفرق والذي ظاهره عقائدي وباطنه سياسي واهل العراق قد افرطوا في تحويل هذا الصراع ليكون ازمة عقدية صعبة التفكيك ولم يتمكنوا من النفوذ من اقطاب التدين والتمذهب بسبب التخلف المعرفي والجهل المقدس والانغلاق الفكري والذي عمل عليه الارباب ليكون منهجا جامعا يتمكنوا من خلاله من الوصاية والسيطرة على عوام الناس والساذجين التابعين المقلدين بما أفاءوا عليهم من الحريات المطلقة بممارسة الطقوس والشعائر العقائدية بنوع من الفيض الايماني المفتعل والمنافق في اللباس والالفاظ والمسير والرايات وان تكون كل هذه المترادفات الهجينة دينا عقائديا سياسيا دون ان يخلق مجتمعا اخلاقيا في التعامل والسلوك المتمدن وعمل على ابعاد الوجود والتاثير الحضاري والاجتماعي وعلى تهميش القيم الانسانية والتعايش مع الاخر المختلف .. والخديعة الكبرى هي في الرؤية الاختزالية لما قدموه الى الغافل عن امور دنياه (المظلومية) والتي جعلته مجرد كائن ماضوي لا يملك اي مستقبل ولا يفقه في الواقع ولا يستطيع ان يتواصل فكريا ولا انسانيا مع التطور العالمي وتعددية الفكر فيه .. فكل المطلوب منه ان يبايع وان يأسر عقله بيد احد الارباب ليكون ملك يمينه ضمن حظيرة القطيع عبدا طائعا مستكينا .. وما أديم أرباب ارض السواد الا من الغافلين من العباد .
الواقع المنظور واليوم التالي في المشهد السياسي العراقي لن يجري الى مستقر له في ظل تنامي وشيوع تعددية الارباب وسطوة الجماعات والعصائبيات والحركات المسلحة ومن يبارك بها من المرجعيات بعد ان تهاوت اركان الطاغوت وما كان له من الاسماء التي اطلقوها عليه وبجّلوه فيها تبجيلا حتى بات ليس كمثله شئ من الارباب وحده لا شريك له فاحتدم الصراع على المغانم والسلطة من خلال عملية اختزال مفهوم الدولة بخلفية وحجاب الحاكمية الدينية وأختزال مفهوم الديمقراطية بالمبايعة والمباركة وهذه منهجية تأسيسة تكوينية الى نزاعات مستدامه يتم توظيف العقيدة والدين فيها بمنهجية الخرافة والتخلف والتعبوية الشعبوية المليونية باستهواء العامة بالزخرف من الخطاب من يوم الجمعات بماضوية ما جرى منذ قرون سحيقة وهي اليوم تُشرعن من لدن مرجعية القوم العليا كبير الارباب وعظيم العلم تاج الرأس وصمام الامان وما لها من الاسماء المثلى ومن يدعوها وهي قابعة في صومعتها بين الازقة الضيقة المحصنة واتباعها المقلدين والمناشدين ينادونها من وراء الحجرات ان اطلقي الحق وافتي على الفاسدين وقد بح صوتها وهم في ذلك لمن الجاهلين .. فمن أفتى بشرعية ملهاة العملية السياسية كان قاصدا ان تكون خاضعة تحت سلطة المؤسسة الربانية وتبعية وكلائها واولادها واصحابها المنتجبين او من يرتمي في الاحضان من الاحزاب والتحالفات والشخصيات عبر بوابات الامناء والاستثمارات والصفقات ومنافع لا نعلمها هم يعلموها .. وهناك ايضا ارباب الولاية الفقهية وما دونهم من الانداد والسفراء وهم يطأون المسامع بما تفرضه الولاية على اهل العراق وهم صاغرون .. وقد تشابهوا علينا بجنودهم وراياتهم وشعاراتهم وبما كانوا يعتقدون وأرسوا دعائم المحاور وما يسمى بالمقاومة والممانعة وهي تعمل حركيا وسياسيا من اجل تجنيد المضللين وفرض الوصاية الولائية العقائدية في شكلها التقديسي الكهنوتي لراية من ينوب عن اقامة دولة العدل المنتظرة منذ عهد الاولين .. والتغطية على ما يجري من اسقاطات داخلية من رفض الولاية وتمثيلها بشخص يمتلك الحق المطلق في نشر السلطة وتصديرها لولايات الامبراطورية الدينية الكبرى لتكون محور صراع اقليمي وعالمي تكون ارض السواد فيها ساحة لتكالب قوى الجماعات والحشود باجنداتهم ما خفي منها وما ظهر .. قد لا نمتلك حجة قائمة ولا دليل دامغ ولكن المؤشرات الميدانية تطرح تساؤلات منطقية في ان المنهجية الفقهية عند ارباب المرجعيات كافة تعمل في ظل منظومة متكاملة في العقيدة ومذهبية السلطة السياسية .. وما يتم نشره من المنابر بالتأويل والتظاهر على جمهور العامة فهو من باب الاحتياط والتقية من كشف المستور بما امتلأت به الخزائن من الاموال المشرعنة وما غنموا من الاخماس وهي في تعاظم لا مثيل له .. كل ذلك يجري باستقلالية دستورية تمنع اية جهة كانت من التمحيص والتدقيق او حتى التساؤل ” لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم ” .
لم ينتج العالم المتحضر المفهوم الفكري للدولة الحديثة واتخذ شكله العصري الا بعد ان تصدى وواجه وانتصر في الازاحة الفكرية والسلطوية في التوظيف السياسي للعقيدة ونظرية الحق الالهي في عصمة الكهنوت والارباب والملوك وفي مواجهة الاستبداد واحتكار السلطة واليوم نرى الواقع بعين خانعة في ان اكثر الدول ازدهارا وتقدما هي تلك الدول التي لا يحكمها اصحاب التدين والمعرفة الربانية والارجاع الى امة طوباوية لها من الارث ما لها وعليها من التخلف ما عليها .. بل التي تحكمها الارادة الحرة للانسان كغاية عليا تخضع لها كل الغايات والقيم والسلوكيات الحضارية عندما ارسوا المناهج والشرائع في الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة .. وكانت ولا زالت المجتمعات العربية والاسلامية والتي تتمسك باربابها وجماعاتها من دون ان تكون الدولة لها اليد العليا غير قادرة على انتاج فكرا سياسيا يخرق نظرية الحاكمية والسلطة العقائدية وذلك يعود لاسباب تتعلق بهيمنة علاقات الانتاج الدينية والقبلية وما تراتب عليها من انساق ارجاعية ماضوية ضمن جمود العقل والفكر .. وهذا يديم ديناميكية الازمة في الحكم على العراق وهي تتمثل في البيئة الموبوءة باجتماع الرمزية الدينية والسياسية والتي اصبحت حاضنة جاهلة ومتمردة ومنافقة ولا تصلح تماما في تكوين مقومات الدولة الحديثة وهذا ينتج ديمقراطية شكلانية وانتخابات زائفة تعيد تدوير السلطة ضمن توافقية المكونات بشرعية الاشهاد من المرجعيات .. ولكي تبدأ الخطوة الاولى في الانطلاق نحو مشروعية الدولة فلا منات ولا مناص من اجراء اكبر عملية اغلاق لبوابات الارث العقيم السقيم وعدم الخوض في سردياته الفوقانية المتعاقبة في الاحاديث والمرويات وشخصياته الطوباوية لتكون البديل الناجع الذي يؤسس الى رسم خارطة فكرية منهجية لما بعد عصر الخراب عصر التقليد والنمطية .. فمن يدعو الى الاصلاح ومحق الخراب فما عليه الا ان يقطع حبل التمسك بالجماعات ومن فوقهم من الأرباب .

أحدث المقالات

أحدث المقالات