22 ديسمبر، 2024 7:01 م

الوصايا المغدورة للشاعرة خربوشة

الوصايا المغدورة للشاعرة خربوشة

ما يْدومْ حال
تراجيديا عيسى بن عمر العبدي
يعلو صوت المغني الشعبي عاليا وعاليا حتى يلامس أقصى نقطة تبلغها المناحة، ثم تتبددُ جزيئاتها متناثرةً في السماء بعدما كانت صوتا واحدا، لتسافر مع الرياح تُخاطبُ دم الشاعرة حادّة الزيدية وروحها الهائمة، في كل مكان وزمان، لعله يفسر ما وقع ويملأ الصمت الحزين. يناديها بصفاتها التي ميّزتها عن غيرها: خربوشة، زروالة، لحمرا، لكْريدة.. نعوت وصفات ترسم للشاعرة والمغنية ملامحها الظاهرة بقامتها القصيرة والمكتنزة، خربوشة بخدّيها السمراوين وما ظهر عليهما من ثقوب صغيرة. زروالة بتلك الزُّرقة اللافتة في عينيها المفتوحتين على عالم لا يراه أحد سواها، سمراء بلون يميل إلى حُمرة التراب، ذات شعر مجعد متروك فوق رأس امرأة ڭوْطة استطاعت أن تفتح صفحة جديدة في كناش التاريخ الشعبي، شهيدةَ شعرها وقد نظمتهُ وغنتهُ بصوتها الخرافي الذي كان وحده كافيا وقادرا، مع ضربات البندير فقط، على هزّ وتقليب سهول وهضاب الشاوية ودكالة وعبدة واحمر وتادلة بمحاريث ساحرة.

الفصل الأول في سيرة عيسى بن عمر
هذا هو القرن التاسع عشر، من القرون الأكثر حضورا وامتدادا في تاريخنا الحاضر، قريب منّا نحسّه ونسمع صخبه وهسيسه، فأحداثه وأعطابه وبعض أحلامه وأسئلته المعلقة ما تزال حيّة ومستمرة في الذاكرة والثقافة والخيال. من معطياتها الفارقة وجود عدد كبير من رجال السلطة ممن كانوا “قُيّادا” مُستبدّين على ممالك صغرى، بما خلفوه من أفعال تحوّلت إلى حكايات لا يمكن فهمُها دون العودة إلى السياق العام للظاهرة القيادية بالمغرب. لكن القائد عيسى بن عمر على عبدة (1879-1914)، ستؤرخ لحكايته التراجيدية شاعرة وفنانة شعبية اسمها حادّة الزيدية أو حويدة أو خربوشة، لمّا استشعرت الظلم الذي طال قبيلتها فهجته وانتقم منها بقتلها لتولد الحكاية وتخلد القائد المستبد والشاعرة الشهيدة.

في ما تواتر من أخبار حول عيسى بن عمر، أنه كان واحدا من كبار “القيّاد” الجهويين بالمغرب، ولد سنة 1842من عائلة راكمت الثروة من التجارة والارتباط بالسلطة والقيّادة منذ سنة 1847. وقد تدرّج عيسى في القيادية نائبا لأخيه مدة خمس عشرة سنة وعمره إحدى وعشرين، ثم تولى القيادة في السابعة والثلاثين من عمره سنة 1879،وسيستمر فيها لمدة خمس وثلاثين سنة إلى أن تم عزله من طرف الحماية الفرنسية سنة 1914. امتد نفوذ قيادته، في أوج قوته، من منطقة الواليدية بدكالة وما وراء نهر تانسيفت إلى مجال مراكش غربا، وخلال هذه الفترة عاصر ستة ملوك ، هم: مولاي عبد الرحمان ومحمد الرابع ومولاي الحسن ثم أبناؤه عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف.
وتَطرحُ سيرة عيسى بن عمر قضايا جوهرية في الكتابة التاريخية، ذلك أن فترته لا يفصلنا عنها سوى قرن وبضع سنوات، وفيها من المفارقات في الآراء والأحداث والتقييمات ما يبدو متنافرا، كأنهم يتحدثون عن شخصيات عدة وليست واحدة؛ ففي العقود الثلاثة الأخيرة، شغل الباحثين في سياق البحث في التاريخ المغربي والجهوي، وحول الظاهرة القيادية ومرحلة ”السيبة” أو الانتفاضات الشعبية والاحتلال الفرنسي، وكان هناك أكثر من فريق ممن كتبوا في هذا الموضوع، من سعى وراء الروايات الشفوية وبعض القرائن والأحداث وكتبَ إيجابا أو سلبا عن الرجل لتبرير بعض أفعاله ضمن السياق التاريخي المطبوع بالفتنة والتدخل الأجنبي تمهيدا للحماية، ولجأ آخرون إلى إصدار أحكام وكتابة أي كلام بدون سند مرجعي للإعلاء من صورته دفاعا عنه أو للحط منه، فيما اتخذ فريق آخر من تقتيله في قبيلة أولاد زيد وقتله لحادة الزيدية مجالا للإبداع وتحوير الأحداث بقصد الإدهاش في مشهد مُفارق بين مغنية شابة وحاكم مستبد.
جميع المعطيات الموجودة هي نسبية، لكن الواقع وعدد من المعطيات والحقائق التابثة لا يمكنها تصديق القائلين بدون حجة أنه كان قائدا ورعا ووطنيا لامعا ورافضا للاستعمار وأن انتفاضة أولاد زيد كانت من تدبير فرنسا التي كانت تمدّهم بالسلاح. ويكفي، فقط، التذكير بمعطيات لا خلاف حولها:
أولا: مشاركته في قمع انتفاضات وتمرد القبائل؛
ثانيا: التقتيل الوحشي لقبيلة أولاد زيد غدرا بهم في مجلس للتفاوض حول حقوقهم، وإعدامه لشاعرة ومغنية احتجت على ما فعله في قبيلتها؛
ثالثا: لم يتحرك أو يساند انتفاضة الشاوية والدار البيضاء في غشت 1907ضد الفرنسيين الذين قتلوا أزيد من خمسة عشر ألف مغربي من العُزّل، كما لم يُساند باقي الانتفاضات في مجموع المغرب والتي استمرّت طويلا؛
رابعا: دعمه لفرنسا واحتلالها المغرب وتعاونه معها لضرب أي انتفاضة ضدها. وكل الدلائل تؤكد أنه كان على وفاق مع الاستعمار الفرنسي من أجل الحفاظ على منصبه قائدا، كما فعل غيره من كبار “القيّاد” في تلك المرحلة.
خامسا: امتثاله لأمر عزله من طرف الفرنسيين دون احتجاج أو مقاومة.

لم يكن القائد عيسى بن عمر مَلاكا أو وليّا صالحا ولكنه إنسان وابن عصره بكل تقلباته وأعطابه ومخاوفه الظاهرة والباطنة، ولم تكن أفعاله معزولة عن السياق العام الذي يجري بأفعال أشدّ وأقسى، ولعله كان يعي، من موقعه، بالنفق الذي يدخله المغرب أو كان قد دخل نصف المسافة فيه، وكانت الأحداث سريعة واتخاذ القرار بالنسبة إليه محكوم بوعيه المشدود إلى السلطة ورغباته، كما اتخذ من نموذج السلطان وعجزه مثالا، وهو أيضا الذي عاش، منذ شبابه، في قمع الانتفاضات ومحاربة الثوار فترسّخَ لديه شعور برفض الانتفاض وقبول الخنوع لأي حاكم أقوى يسانده ويدعم وجوده.
يروي فريدريك ويسجربر في يومياته “على عتبة المغرب الحديث” حكاية لقائه بعيسى بن عمر ، أول مرة سنة 1898 وهو ضمن الحركة العزيزية ضد تمرد القبائل، ثم في سنة 1912 من أجل تعاونه العسكري مع الفرنسيين ضد ثورة الهيبة بمراكش، يصفه في الفصل الثالث والعشرين كيف كان يحيا حياة سيد إقطاعي عظيم، وسط إخوانه وأبناء عمومته وخؤولته وأصهاره والكثير من العبيد والفرسان[ بالإضافة إلى أبنائه الذين تجاوزوا 47 ابنا وابنة، من ست زوجات: ابنة عمه وأم هانئ ابنة أحد قادة الرحامنة ثم فاطنة هدية المولى الحسن له، وهي أرملة أخيه مولاي محمد، وعيطونة ابنة قائد قبيلة احمر والبيضة ابنة زعيم ثوار أولاد زيد وشميسة ابنة شيخ زاوية بقبيلة ابزو،] وقد كان مولعا بالخيول الجيدة والسروج الفاخرة والأسلحة الراقية والصقور والطيور القانصة والسلاقي التي امتلك منها أزيد من مائتين. يذبح يوميا ثورا وعشرين خروفا والمئات من الدجاج.
يرسمُ له “ويسجربر” صورة خارجية دقيقة وقد التقاه في عبدة سنة 1912، وكان قد بلغ من العمر سبعين عاما بقامته المتوسطة وبدون سمنة،وسُمرة لونه البارزة على وجه ذي ملامح عربية، بلحية مُشذبة لونها أقرب إلى الرمادي، يلف على رأسه عمامة بيضاء من ثوب المُوسْلين الرفيع،ويرتدي سلهاما أبيض اللون شديد النظافة. خطواته باتت بطيئة أثر جرح قديم في ساقه وداء المفاصل الذي لا يخفيه وهو يخضع للتدليك.
ظل عيسى بن عمر سجين وعيه المغلق ولم تكن له قدرة التحوّل واتخاذ القرارات الجريئة في أكثر من لحظة منذ وفاة الحسن الأول. فقد بايع المولى عبد الحفيظ، سنة 1908، دون أن يفرط في ولائه للمولى عبد العزيز، ورغم ذلك كافأه السلطان الجديد فأسند إليه وزارة الخارجية، وهي وزارة البحر والشكايات. وحينما انتقل إلى فاس كان صديقا مخلصا للقنصل الفرنسي هناك، لكن الصدر الأعظم القوي، المقري، لحظتئذ رأى فيه منافسا وطموحا في المرحلة الجديدة، فاستحضر علاقاته القوية بالسلطان المخلوع وحقد عليه وعمل على عزله من منصب الوزارة والقيادة، وبقي بفاس في حالة نفسية صعبة متقربا من الفرنسيين، وفجأة يظهر السفير يوجين رينو في المشهد، وهو الديبلوماسي الداهية الذي قاد المفاوضات مع المولى عبد الحفيظ والمُفضية إلى توقيع معاهدة الحماية، فيتدخل لصالحه ويعيده إلى منصبه على قيادة عبدة مكتفيا ببلاد احمر وآسفي فقط.
في الحادي عشر من شهر أكتوبر، سيجتمع المقيم العام الجنرال ليوطي بالرباط مع كبار “القيّاد” بالمغرب آنذاك، وكان عمر بنعيسى المتحدث الرسمي باسمهم قد عبر باسمه واسم الجميع عن مساندة فرنسا في كل ما ستطلبه منهم وأقسم على ذلك. ورغم ذلك، عاد الفرنسيون ضمن ترتيباتهم الجديدة فعزلوه سنة 1914 ونفوه إلى مدينة سلا حيث بقي إلى حين وفاته في السادس من شتنبر 1924 عن عمر 82 سنة وبها دفن، قبل أن يتم نقله ودفنه مرة أخرى بعبدة. ومع بداية الألفية الثالثة، عاد اسمه إلى الظهور مرتبطا بحكاية حادة الزيدية في مقالات وكتب واستعادة جل “العيطات” القديمة في حلة جديدة وإبداعات أخرى، كما تم إنتاج مسلسل وفيلم سينمائي ومسرحية، مما أثار انتباه بعض اللصوص في سنة 2015 فتسللوا بالليل إلى قبره المفترض وعاثوا فيه فسادا بحثا عن كنز ما، كما لو أنهم اعتقدوه من سلالة الفراعنة الذين يدفنون معهم الذهب والجواهر، لكنهم لم يجدوا سوى العظام البالية.
صورة مُفارقة تجمع الضدين: الدهاء والرحمة والبطش، وبين صورة الرجل الذي ربما كان يتمنى أن يكون.. ورعا متعطشا لمجالسة العلماء والفقهاء والإكثار من الذكر، مقابل الرجل الزهواني، عاشق سهرات العيطات الحصباوية الرفيعة. وما شاع عنه من بذخ وتمييز بين أهل قبيلته والقبائل الأخرى، وما كان يُقْدمُ عليه من إثقالهم بالضرائب، حتى لو صادفت سنوات القحط والأمراض ..
عيسى يا ابن عمر، أتفهّمُ ما كنتَ فيه. الزمن الصعب يوّرثُ أبناءَه العلقم، كنتَ ذا دهاء بدون ذكاء أو رؤية فاقدا بصيرة النهر في المنعرجات. لقد غرّتكَ الأوهام الخاطفة وسهوتَ فأكلكَ من هم أدهى منك، وكنتَ بسلهامك الأبيض مثل الثور الأبيض في مآدبهم.
ليتني أتخيّلُ العشر سنوات التي قضيتها بسلا معزولا بذاكرة من رماد ، هل تذكرتَ حادّة التي دفنتها حية وأنتَ تعتقدُ أنك ستدفنُ صوتها وحكايتها؟. هل تذكرتَ أولائك الرجال الفرسان الذين قتلتهم غدرا ومن بقي منهم أودعتهم السجون رهائن ؟ ألم تكن بصيرتكَ صافية لتدرك أن أولائك الذين قتلتهم وسجنتهم، لو صادقتهم وآمنتَ بهم لكانوا فرسان الله في مواجهة الاستعمار مثلما فعل قادةٌ، أقل منك عددا وعُدّة، بسهول الشاوية وهم يتقدمون فرسانهم دفاعا عن البلاد والعباد واستشهدوا أحرارا أو عاشوا مجاهدين.

الوصية الأخيرة للقيامة

ارتبك المؤرخون وكان عليهم الانتظار طويلا لوصف ما جرى في صيف 1894، لكن امرأة اسمها حادة الزيدية/خربوشة في ربيعها الثاني والعشرين، كلُّ زادُها من الثقافة، محفوظ الذاكرة الشفوي مما حفظته بالمسيد، وذخيرة من الأذكار المتداخلة مع أمثال العامة والحكايات والجروح و نهر من خيال لا محدود. لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولم تقرأ أو تسمع أو تحفظ أشعار العرب وأيامهم في الجاهلية، ولا علم لها من يكون المتنبي أو المعري أو شعراء بغداد ودمشق والقاهرة ومراكش وفاس، وتجهل من يكون ابن خلدون أو أبو القاسم الزياني أو محمد أكنسوس أو أحمد بن خالد الناصري، ولا تعرف من أسماء العلماء والفقهاء إلا فقيه الدوار المغمور وأسماء أولياء عبدة ودكالة والشاوية. بل تجهل جهلا تامّا من تكون السيدة الحرة أو زينب النفزاوية أو خناتة بنت بكّار. إنها، فقط، امرأة من عالم البادية السفلي، معزولة عن العواصم والصالونات وعوالم المعارف العليا والخاصة التي تحفل بها المقررات وأحاديث النخبة.
هذه المرأة سترمي بجملة واحدة، وحشية بلا زُخرف، حينما ذاع خبر وفاة السلطان مولاي الحسن الأول فجأة. جُملة طلعت مثل انفجار من رحم يُداري الراڭد بدهشاته: “واحَسَنْ آحَسَنْ..ما تْموتشْ حتى يسبقوك العديان”. ما كانَ عليكَ أن تموتَ الآن، وقد تركتَ المُستبدّين هنا وهناك أحياء.. سيأكلوننا في واضحة النهار. ثم صمتت لأنها كانت ترى الآتي بعد تلك اللحظة، فيما سيلتقط، تلك الجملة، الزجالون والمُنشدون الهائمون بسهول جمعة اسْحيم وبلاد احْمر وتراب الشماعية، فيغزلون على نولها باقي الكلام، ملحمة الوجدان الشعبي، رثاءً جارحا للراهن والمستقبل، في نبوءة مدهشة كتبَها المجاز البدوي ببلاغة لا حجاب معها حول اللحظة الصعبة التي صادفت موت سلطان حكيم في قمة عطائه، عرشُه فوق فرسه في تسع عشرة حرْكة بكل المغرب لإعداده قويا وتجاوز الأعطاب بعد هزيمتي إيسلي وتطوان، لكن موته في يونيو من تلك السنة ،وبشكل مفاجئ، يعني الكارثة المعجّلة، من علاماتها الأولى الصراع على الحكم بين الأبناء واستحكام الحاجب السلطاني بّاحْماد بالوصاية على أصغرهم، المولى عبد العزيز، ليكون سلطانا في بلاد على بوابة المجهول .
كان منسوب الإحساس بالخطر عاليا وكأن القيامة على الأبواب، فاختارت كثير من القبائل الاقتصاص من الظالمين، بالانتفاض على قصبات القيّاد في الشاوية ودكالة، بوصفها رمز الظلم. وشعرت قبيلة أولاد زيد العبدية، وهي ضمن نفوذ القائد عيسى بن عمر الثمري، بالإذلال والظلم بعد تعمُّدِه إقصاءهم من المسؤوليات وإثقالهم بالضرائب والسُّخرة إلى أن كسدت تجارتهم، وبدت الفرصة مواتية لإعلان انتفاضتهم بشكل متدرج و”ديمقراطي”، فراسلوا في يونيو 1895 السلطان الجديد ملتمسين عزل القائد عيسى واستبداله بآخر يكون عادلا، لكنهم لم يظفروا بالجواب. بل سيدركون أن المخزن المركزي كان في صفّه وداعما له، أو عاجزا عن تدبير مثل هذه الأزمات، فانطلقت الانتفاضة بفرسان أولاد زيد من مواقع استراتيجية بالساحل والكهوف وكل المداخل حيث يجيدون تنظيم غارات سريعة وموجعة استمرت سنة ونصف.
قبل هذا التاريخ، كانت حادة الزيدية/خربوشة التي استكملت ما تيسر لها سمعا، في مسيد الدوّار ، شابّة تحيا مثل باقي النساء اللواتي ينخرطن في الأفراح والأحزان، وعلى مدار السنة في احتفالات مختلفة. ثم انتبهوا، رجالا ونساءً، إلى صوتها، دون الأخريات، وقد بدا لافتا وقويا،مميزا وقادرا على النفاذ إلى الأحاسيس، فجرّبتِ البراول والأناشيد والعيطات الصغيرة المتداولة بحنجرتها فقط، والتي هزّت المشاعر إلى أقصى درجات الانتشاء.
لم يكن دخولها مجال الغناء وارتجال “لكْلامْ” مما تعيشه ويحياه جيلها أمرا مجهولا أو مرفوضا، ولكن الفتاة تمتلك شيئا للبهجة بكلماتها التي تُزّف إلى صدرها، فتطلعُ في البداية ارتجالا ثم تستوي مع الإعادة شعرا وغناءً. وكانوا من حبهم ودُنوّهم من كلامها ودلالاته ينادون عليها باسم حوّيدة مرة وخربوشة مرة أخرى. اجتمعت فيها ثلاث صفات حققت لها الاحترام، فهي لم تكن فاتنة، بل قصيرة مكتنزة سمراء بشَعر مجعد ووجه مُخرّم بمسام بارزة. ثانيا، كان كلامها جديدا مثل نهر يجري أمامها حيث تكون، ثم ثالثا صوتها الذي سمعت به كل القبائل وباتت مطلوبة في عبدة والشاوية ودكالة والسراغنة والرحامنة. صغيرة السن لكنها شامخة وهي تغني في القصبات وفي أعراس العامة والمواسم المحلية والجهوية للفروسية، وقد استمع إليها عيسى بن عمر الذي عشق صوتها وكلامها وهو يشق الظلام فيطلع منه ضوء ينبت على حوافّه النوّار والغنباز. كما عشقها ابنه الذي كان في يكبرها سنا وبادلته الحب من قلب الشاعرة ووصفته بأجمل الأوصاف. لكن رسالة فرسان قبيلتها إلى السلطان الجديد وقرارهم إعلان العصيان على سياسة القائد عجّلَ برجوعها لتنضمَّ إلى صفوفهم، تُلهبُ حماسهم وتنفض عنه الغبار لرفع الظلم بعدما تبيّن أن القائد عازم على إضعافهم وتشتيت وجودهم، وقد أشاع عنهم أنهم في تمرّد وسيبة وخارج حُكم المخزن والقانون، رغم ما كان يُبديه، ظاهرا، من رغبة في الصلح.
تقول حْويدّة الزيدية/ خربوشة بشاعرية تُعلي من الإحساس بالقوة الجماعية، وكأنها ترسم بركانا يفيض خيالا وحّشيا، فتقول: لا أريد الحُكم والقانون إذا كان فيه إذلالنا، وأحب السيبة إذا كانت طريقنا إلى الحرية، سنمنحُك أيها السيد ثمانية أيام لتعود عن أفعالك أو ستكون لنا قيامة لن تردّ قَدَرها، أنا عبدة عابدة لكل قبائل عبدة ولكنني لكَ لا ولن أكون:
[ابْغيتْ السيبة/ما ابْغيتْ احْكام/من دابا ثمانية أيام/على السي عيسى الثمري.
أنا عبدة لعبدة /ولسي عيسى لاّ /نوْضا نوْضا حتى لبوكشبور/ نوْضا نوْضا حتى دار السي قدور].
أعلنت حْويدّة الشاعرة بداية الانتفاضة بقيادة محمد بن ملوك، فحقق فرسان أولاد زيد انتصارات أسكنت الخوف في قلب عيسى الذي استعان بفرسان من خارج نفوذ قيادته ودارت حربا عنيفة كانت الغلبة للقائد بأسلحته وعدده، فدمّر حصونهم وقتل منهم ما لا يُحصى. وحتى لا يقوم الفناء، قرر الباقون من أولاد زيد اختيار أحد الأمرّيْن والهروب تمهيدا للعودة. وفي هذه الفترة حيث الموت يختبرُ الحياة بعينيها الكُحليين، ارتفعَ صوت الشاعرة والمغنية قويا بقصائد أشبه بالجمر الذي لا رماد له، فينقل الثوار انتفاضتهم إلى ضواحي مدينة آسفي بحثا عن إرهاق القائد الذي كان مستقويّا بسلاح ودعم السلطة المركزية. هزمهم تباعا في مواقع فليفل والمكادم قبل أن يستفرد بهم في موقعة الضريرات، فبادر ممثل السلطة المركزية، باشا مدينة آسفي حمزة بن هيمة، بعد ذلك، إلى دعوة الطرفين للصلح، وكأنّ الأمر في تلك الجهة لعبة بين مستبد وثوار، وبعد نهاية الشوط يجدون من يدعو إلى فُسحة الحوار في مكان ارتبط بالمقدس، قُبّة أشهر أولياء المنطقة، سيدي بُومْحمَّد صالح.
كانت جلسة الصلح فرصة لربح الوقت وهو يدعي أنه سيصلح كل شيء، لكن أولاد زيد انتبهوا، بعد شهر واحد، أن الصلح كان امتصاصا لتلك الجمرة وأن عيسى لا يريد سلاما وإنما استسلاما كاملا تمهيدا لإعلان يوم القيامة بأولاد زيد ثم إفناءهم، فبرز ثائر جديد هو عبد القادر البوديني، رفقة ثمانية من أهم الفرسان، اعتبروا الصلح خيانة لأسرار القيامة، فعادوا إلى ساحاتهم يدكّون الأرض على القائد والسلطة المركزية على إيقاع النشيد الملحمي لخربوشة وضربات الدفوف ووقع سنابك الخيول وتكبيرات الفرسان. وبعد ثلاثة أسابيع، تمت الدعوة إلى صلح جديد برباط آسفي يوم تاسع نونبر 1895، داخل واحد من المخازن الشهيرة في ملكية أحد التجار الاسبان، لكن عيسى بن عمر في هذا الاجتماع كان له تدبيره الخاص، بحضور ممثل المخزن المركزي وبعض الأعيان من دكالة، وما أن شرع المتكلم”ولد الشُّرفة” في الحديث عن الصلح وأصوله، حتى بادرَ عيسى بمفاجأته المُرّة عامدا إلى الغدر بإخراج سيفه وضرب المتحدث فشقّهُ إلى نصفين، كما تروي الحكاية، ليقوم أصحابه إلى قتل الحاضرين العُزّل من أولاد زيد فتعمُّ الفوضى في يوم المخزن وفي ضريح الولي الصالح الذي استحرمَ به الفارّون، فكان قتالا دمويا استشهد فيه العديد من الفرسان، بالإضافة ما كان من تقتيل جرّاء الفوضى والرفس في الجموع المتجمّعة وسط المدينة بعد إغلاق الأبواب.
عنف وصخب ثم عويل وصمت في واقعة ستُعرَفُ بعام الرفسة، استُشهد فيها أشجع الفرسان من أولاد زيد واعتقال حوالي ألف تم توزيعهم على سجون أسفي والصويرة ومراكش والرباط وسجن البردوز بالقصبة، بينما فرّ من خشي الانتقام إلى سوس والشاوية وغيرهما طلبا للنجاة. أما الشاعرة حادة الزيدية/خربوشة فقد لاذت بالصمت والدموع في جنازة كبرى لم تسمع بمثلها مما كان يحكى عن مخلفات الجوائح والنكبات، لتصرخ من ألم جراحها بعيطة تمزّقُ المجاز وبقايا البلاغة القديمة، تهجوه بكلمات مثل الوشم على الجبين.
[ سيـرْ آعيسـى بـن عمر/آوَكّـــال الجّيفــــه/آقتـّــال اخُّوتـــــو/آمْحَلّـــل لَحْـــرام/سيـر عَمَّـــرْ الظالــم/ما يــروح سالــــم/وعمَّـــر العلفــــة/ما تزيــد بـلا عْــلام/ وراه حَلفَتْ الجمعة مع الثلاث/يا عويسـة فيك لا بقات].
الدّق بلا قرطاس
انتهت المذبحة وتحولت ساحات آسفي إلى مشهد من مشاهد الحروب الكبرى، جثث للفرسان والنساء والأطفال والخيول، وفوقها طيور جارحة كانت في الانتظار. صمت لا تجرحه سوى رياح خريفية متأخرة وبكاء خفي يتلوه نواح بعيد.
صاح البرّاح باسم القائد عيسى بن عمر العبدي، وهو يعْبُرُ الساحة ودروبها، ان أهل الفتنة والسيبة من أولاد زيد قد نالوا العقاب الذي يستحقونه.
دخل القصبة مُنتشيا وغاضبا، رمى سلهامه الأبيض الملطخ بالدم في المدخل، فأسرع تابعه يلتقطه من الأرض. توقف فجأة أمام مدخل القبة ملتفتا لا ينظر إلى أحد وصاح، كأنما استفاق من غفلة ضائعة: حويدّه الغدّارة .. حَضْروها ليا دابا.
لم تتأخر حويدّه بعد الذي جرى، وقد انتشرت كلماتها نارا تدفعها كل الرياح بكل أياديها الخرافية، فخرجت هي وأمها وخالها الأصغر يركبون بغلا، ثنيّ السن، وحمارين عابرين طرقا غير مألوفة في اتجاه أخوالها الآخرين المستقرين بقبيلة أولاد سعيد الشاوية، ضمن نفوذ القائد العياشي، وهناك ستبقى في حمايته أزيد من سنتين قبل أن يكتشفوا مكانها.
استأمنت على حياتها، بعد السنة الأولى في تغريبتها بالشاوية، مع انشغال عيسى بن عمر في حرْكات مخزنية وترتيب قيادته في مجالها الواسع، فتوهّمت نسيانه أمرها وعادت إلى الغناء في تلك الدائرة بقصبة المزامزة والسراغنة والرحامنة وربما المذاكرة، حيث استقرّ بعضٌ من قبيلتها الفارين محتفظين بنفس اسم قبيلتهم. ذاع صيتها مرة أخرى بعيطاتها القوية وصوتها الفريد، كما أن هجاءها للقائد، في نشيدها الرّنان، ظل حاضرا في جلسات خاصة ولكنه كان مسموعا، ومن حين لآخر ترتوي من جراحها حتى لا تنسى أو يتغافل الزمن فيخذلها:
[اللّي ما عزّاني في كْبيدتي نْعرفو يكرهني / تعال تعال، نْڭـول ليك أدآك الغادي / شكون سْبابي حتى خرجت بلادي / راعي الخاوا، كُلشي يفوتْ وتبقى العداوة آقايدي].
أرسل عيسى بن عمر رقاّصا مع ستة من المخازْنيّة الأقوياء إلى القائد العيّاشي يأمره باستعادة خربوشة العبدية، بعدما تأكد أنها مستمرة في النبش، لكن قائد أولاد سعيد استشار قائد المزامزة ثم رفضا طلبه كونها مستحرمة بهما. فخاطبَ عيسى صديقه الحاجب السلطاني بّاحْماد في أمر استرجاع خربوشة وكان مرافقا له في حرْكات الشاوية والرحامنة وتادلة، غير أن بّاحْماد اختار تدبيرا آخر حينما أمر عامل الدار البيضاء، بوبكر بن بوزيد، باستقدامها له، دون أن يعرف أحد هل كان يريد الاستمتاع بما سمعه عن أصالة أغانيها أم كان ينوي تنفيذ حكم المخزن في امرأة تُمجّد الانتفاض والسيبة، أو تقديمها هدية لعيسى بن عمر؟ لكن هذا الأخير كان يحب احتمالات الدسيسة.
أرسل بوبكر بن بوزيد مخزنيّا واحدا إلى القائد العياشي بأولاد سعيد يحما خطابا يأمره بإرسال حويدّه الزيدية إلى محلة الحاجب باحماد. فرضخَ للأمر واستدعى حويدّه وباح لها أن باحماد هو السلطان الفعلي في البلاد ولا يمكن أن يرد له أمرا، ثم طمأنها، ولعلها صدّقت أو استسلمت لتلك الغفلة التي تخفي خلفها دسائس الزمان. ما وقع بعد ذلك، تربص اثنا عشر رجلا أرسلهم عيسى بن عمر، فتبعوا المخزني وحويدّه وهما في طريقهما للمحلة، وبعد ابتعادهما عن حدود قيادة أولاد سعيد، عمدوا إلى اختطافها من المخزني وتهديده. وكان ذلك يوم الأحد سادس مارس 1898، وفي ما يلي الرسالة التي كتبها بوبكر بن بوزيد إلى الحاجب السلطاني بّاحماد:
“الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله. حفظ الله مَجادة سيدنا الأعز الأرضَى الصدر الأعظم الفقيه الأجلّ، سيدي أحمد ابن الفقيه الوزير الأعظم سيدي موسى بن أحمد وأمنه ورعاه وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد، يكون في علم سيادته أننا وجّهنا يومه صُحبة مخزني من أصحابنا الشيخة حويده العبدية، واصلة الحضرة الشريفة دام عزها وِفق الأمر الشريف أعزه الله. فإذا بأصحاب القائد عيسى بن عمر العبدي اتفق خروجهم مع المخزني والمرأة المذكورة في وقت واحد ورافقوهما مسافة، فلما انفصلت الطريق عمدوا إلى مركوب المرأة وساقوه لغير طريق المحلة السعيدة وحالوا بينها وبين المخزني وقصدوا بها طريق أزمور نهرا، فصادرهم وأعلمهم بأنه متوجه بها للمحلة السعيدة وأراهم الكتاب الذي بيده، فلم يلتفتوا إليه وتبعهم مسافة كبيرة ولم يقدر على مقاومتهم لأن عددهم اثنا عشر فارسا، وتوعدوه إن لم يذهب معهم أو للمحلة أو إلى حيث شاء. فلما آيسَ منها وتحقق عنه وقوع ما توعّدوه به خاف من ذهابه للمحلة بالكتاب دون المرأة. رجع إلينا وكان وصوله قرب المغرب والكتاب الموجه لسيادته أولا يصله معه. وبه وجبَ إعلام سيادته وعلى المحبة والسلام. خديم المقام العالي بالله بوبكر بن بوزيد لطف الله به.”
اختطفوها دون أن يصدر أي رد فعل من بّاحماد، والأكيد أنها حيلة منه وباتفاق مع عيسى بن عمر لإخراجها من الشاوية، وليفعل بها ما يشاء. وصلت قصبة القائد وقد أدركت أن الغدر بات قاعدة في ذلك الزمن وأن مصيرها محتوم، ورغم ذلك بدت شُجاعة وكأن الثمانية وعشرين شهرا التي قضتْها بالشاوية نزعت الخوف من قلبها وهي تدخل القصبة وقت الظهيرة، في شموخ الفارسة رغم القيود الحديدية برنينها الملحمي، ترتدي قفطانا بلون الخزّ، عليه حايكٌ نُسج من خيط الصوف الأسود الخفيف.. ونعالاً جلدياً رمادي اللّون. رأسها مرفوعة وابتسامتها المسرارة تعلو حزنا ثقيلا داخل عينين مُسبلتين لم يستطع خط الكُحل المرصوص حولهما إيقاف سيل الحزن الهادر.
أثناء عبورها تلك المسافة داخل القصبة نحو الكهف، كانت النساء والأطفال وبعض الخدم يتلصصون من النوافذ وكل الثقوب الموجودة، إلى المرأة التي أذلّت القائد المستبد، والذي كان – لحظتئذ- غائبا في واحدة من الحرْكات المخزنية مع بّاحماد لمعاقبة القبائل المتمردة. أرسل أوامره لسجّانها الشايب برميها وحيدة في السجن داخل القصبة.
في عصر اليوم الثاني، تسلّل إليها ثلاثة من أبناء القائد لزيارتها ومواساتها في محنتها. كانت السعدية، صغرى بناته، تعلم أنه سيقتلها، فتجلس جوارها وهي تبكي، ثم تطلب منها أن تستعطفه لمّا يعود حتى لا يقتلها. تخرجُ معها إلى الساحة الطرفانية تحت الشمس الغاربة. تجلسان بجوار بئر هناك، سيُسمى بئر حوّيدة لاحقا،، لكن حويدّة كانت تستمع إليها وهي تبتسم صامدة، وخلال المساء في عُزلتها يطيب لها أن تدندن بصوت مسموع وهي تتخيل الزّفّانات في السماء يضربن لها الطبول:

[آالسعدية …واخّا قْتلني.. واخّا خَلاّني/ ما نْدوز بلادي، راني زيدية/ على كلمة اخْرجتْ لبلاد / واخْرجتْ لحكام / لا سْلامة ليك آليام]
ثم تلتفتُ إلى شجن آخر، وضربات الطبول متواصلة، فيفيضُ خاطرها مُخاطِبة ابنيه إدريس وأحمد، وتخصُّ هذا الأخير الذي أحبّته، في ساحة عطف مستحيلة، بإشارات الحياة الباقية:
[هذا وعدي وآنا نْصَرْفو حتى يعفو ربي/ هَا هُوَ .. يا سيدي أحمد،/ هَا هُوَ.. ياحَرْش لعيون/ هَا هُوَ..يا سيدي إدريس، هَا هُوَ..يا ذْهب لكويس/ هَا هُوَ.. يا سيدي أحمد لهْوَى يا ذاك الشريف].

ولم يثبت أن استعطفت القائد كما ألمحت بعض التأويلات السريعة، فلو فعلت ما أعدمها، ولكنها ظلت مُصرة على موقفها الذي ترى فيه القاتل ملطخا بدماء قبيلتها والقبائل المتمردة الأخرى، لذلك بقيت في سجْنها تخاطب سجّانها الشايب مرة، ومرّات أبناءه قبل أن تعود إلى نفسها التي تطل على مِرآة ما جرى منذ خروجها، فترى والدها الذي مات كمَدا بعد فراره إلى بلاد احمر، وأخوها الذي لم يعرفوا مصيره.. وتتذكر الرجال والنساء في شريط سريع فتكمشُ على الصورة كاملة وهي تغمض عينيها بقوة كأنها تريد اعتصار الأحزان الجاثمة فتتحول إلى نهر لا مصبَّ له، ثم تخاطبُ الجميع بما يختمرُ في مشاعرها من أشعار، وكانت النساء في القصبة يلتقطن كلامها كلمة كلمة ويحفظنه كأنهن يتابعن فصلا من تراجيديا مغربية، ستتسرب سريعا إلى باقي سهول عبدة كلاما ساخنا.
عاد القائد عيسى بن عمر من حرْكة القتل يَعْرج بجرح في رجله اليسرى وجراح مفتوحة في نفسه. لم يستحمّ أو يأكل شيئا، اختلى في قبّته وحيدا لا يتكلم. دعا الشايب وسأله عنها وكان ينتظر من حويدّه أن تعترف نادمة، لكنها أصرت على البقاء في سجنها .. رافضة أن تراه أو تكلمه. يوم وليلة والشايب يدخل إليها وإليه دون جدوى، وأخيرا صاح القائد وقد أنهكه اليأس والحزن وربما الندم وقال له مرتبكا بصوت سمعته كل الآذان المتلصصة.. ادفنها حية في اللوح خلف الدويريّة. ثم ارتمى ينام في إغماءة الروح والعقل. ولما استفاق وجد السعدية، ابنته، بجواره تبكي فأخذها بين أحضانه وكان الظلام قد استكمل هبوطه وأسدل أسماله الشبية بكفن أسود.
قادها اثنان من الحرس. غطيا رأسها وهما يسيران بها إلى حتفها ثم حملاها ووضعاها وسط حائط غير مكتمل من اللوح الترابي بعرض متر واحد وفي علو يصل كتفيها، وهي صامتة تتلو من الأذكار القصيرة بصوت خافت يُسمع بصعوبة وسط لامبالاة العسس واثنين من الخدم يعجنان التراب بأرجلهما، في حركات متناغمة بينهما، يتحوّلُ بعدها إلى تابية مختمرة من تراب وتبن، أما البناؤون فقد شرعوا في الإعداد للدفن العمودي برمي العجْنة عليها من كل الجوانب، و كان ذلك بعد ظهيرة يوم الجمعة من الأسبوع الأول لشهر أبريل 1898 ميلادية، وعمرها ست وعشرون عاما. وقبل أن يرمي البنّاؤون آخر عجنتهم فوق رأسها سَرت في جسدها رعشة واهتزاز أعقبه اطمئنان شامل لفّ روحها وهي تسمعُ الطيور محلقة فوقها تتلو بصوت جريح : مولانا نَسْعاوْ رِضاك.. عْلى بابك واقِفين .. لا من يرحمنا سواك.. يا أ رحم الراحمين.
وتروى نساء الدويرية وباقي البيوتات أنها، ليلة مقتلها، عادت تدندن وبخشوع إلى الله الواحد القهّار، تتقرّبُ إليه ببعض الأولياء الذين أدركوا:
[نسألك بالمعاشي سيدي سعيد مول الزيتونة/ والرّتناني سيدي احسين .. بين الويدان /والغليمي سيدي أحمد العطفة يا ابن عباد /والقدميري سيدي عْمر مُولى حَمرية /والتجاني سيدي أحمد مول الوظيفة ].
لم تكن حويدّه تعلم أنها في حياتها القصيرة المحسوبة بالأيام والآلام والكلمات، كانت وليّة أدركت بصفاء سريرتها وبلغت بوفائها للدم المسفوح وعَلَت بكلماتها الصافية.
من أين لك أن تعلمي .. ها أنا ذا، هنا والآن، أخبركِ كما لم أخبر أحدا، وأهمس لك كما لم أهمس أبدا، أنك لم تموتي وإنما شُبِّهَ لك عددا، أنتِ الحية والقتلة منذ الأزل كانوا موتى وبددا.
خربوشة.. لكريدة ..زروالة..حويده.. العبدية.. الكوْطة.. الحويرّة .. بنت باب الله الشامخة، مَوْلاةُ الحق والكلام: الواقفة بين قيّامتين، قيامة القبيلة وقيامة الشاعرة. ألم تعلمي أن أشعارك “وظيفة” الثوار و”وِرْد” الحالمين و”طريقة” السالكين. ألم تعلمي أنكِ أدركت بكلماتك قبل أن يرتد- لحظتئذ- طرْفُ شعراء الكاس والإحساس، وأنت تُدندنين : ﺃﻟﺒﺎﺱْ ﻭﻟﺒﺎﺱْ ﻭﻟﺒﺎﺱْ.. ﻫﺎﻙْ ﺍﻟﺪَّﻕْ ﺑْﻼ ﻗﺮﻃﺎﺱْ.