من أهم الممارسات التي أشارت اليها شريعتنا السمحاء وحسمت أمرها, هو موضوع طلب المناصب والكراسي, وقد احتاط المشرع الاسلامي أشدّ ما يكون الاحتياط في هذا الامر ، فلم يسمح للمسؤول أن يمنح المنصب لمن يطلبه وتهالك عليه, ونظم هذا الامر بكل دقة ولم يتركها للاجتهاد والتأويل, معتمدا على ما ورد في القران الكريم بكل وضوح ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم ﴾. وقد أوضح النبي محمد(ص) ألأمر حينما حذر من توظيف العاشقين للسلطة والساعين اليها, حينما كان يختار بدقة الأصلح من الناس لأي مهمة, فقد قال يوم خيبر:(لأعطينّ هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه) وهنا حسم النبي ص الموضوع بصورة حاسمة عندما لم يترك الامر للمشورة’ وأختار الامام علي بن أبي طالب، فقد رأى أنه ألأصلح لهذه المهمة, لما له من صفات قيادية فذة, بل ذهب النبي الأكرم الى أبعد من ذلك حينما نها الناس عن طلب المناصب من خلال حديثه مع عبد الرحمن بن سمرة, فقال له:( يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة), وكان (ص) بمنتهى الوضوح, عندما ضرب أبا ذر على منكبيه حينما طلب من الرسول استعماله في شؤون الناس, وقال له قولته المشهورة: (يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة), فلم يجامله النبي ص على حساب مصلحة الناس.
والكل يعلم أنّ من أولى متطلبات تطور أي أمة أو مجتمع هو اختيار الشخص المناسب ووضعه في المكان المناسب دون النظر الى اعتبارات المصالح الضيقة والانتماء الطائفي والحزبي والقومي, بل يجب أن يكون المعيار الوحيد هو الكفاءة والنزاهة والوطنية وخدمة الناس, وما سبب تخلفنا عن اللحاق بالركب العالمي إلا لأننا اهملنا هذه القاعدة الذهبية.
وهنا لا بد أن نشير الى خلل كبير ومستمر وقعت فيه الوزارات العراقية يخالف كل ما ورد اعلاه ويجانب المنطق والقانون ألا وهو اختيار مسؤولي الدوائر في مختلف الوزارات من خلال الآلية الغريبة والمتمثلة بطلب الوزارات لكل من يرغب من الترشح للمناصب عن طريق ارسال معلوماتهم (الكثرونيا ) الى وزارتهم المعنية دون التأكد والتحقق الكاملين من تأريخه ومجهوداته وكفاءته, وهنا المصيبة, لآن الكل يرى نفسه ألأكفأ والاجدر والأحق من غيره, ناهيك عن ما يحصل من تفاهمات وتنازلات بين المرشحين تضمن صعود الموظف ربما الأسوأ على الاطلاق في تأريخ منصب معين أو وظيفة بعينها بعيدا عن مبدأ الكفاءة والنزاهة, وبعضهم يريدها وجاهة لكي يتبجح بها دون ان يعطيها حقها وما أكثرهم!!.
وعلى الوزارات كافة إعادة النظر بهذه الألية, خصوصا في المناطق المحررة, حيث شاهدنا أيام التهجير والنزوح من مناطق سيطرة داعش, كيف أن الكثير من الموظفين تنصلوا من مسؤولياتهم الوظيفية, ولم يلتحقوا بدوائرهم حينما اتخذت مواقع جديدة في مناطق أمنة بديلة, بل إنهم لم يكتفوا بخيانة الأمانة الوظيفية وحسب, بل أثروا مصالحهم الشخصية, فقد رأينا بأم أعيننا, من فتح مركزا طبيا خاصا دون أن يراجع مرضاه وتركهم بلا رعاية طبية, ومنهم من ترك طلابه دون دروس, وفتح بيته في المهجر للدروس الخصوصية, وموظفون كثيرون كانوا بالكاد يحضرون ليأدون بصمة الراتب مرة بالشهر, وأحيانا كان جهاز البصمة هو من يتحمل عناء السفر الى حيث مناطق تواجدهم, دون أي احساس بالمسؤولية أو واعز من ضمير!!!!. وبعضهم تحول الى تجار أزمات وحروب على حساب أبناء مناطقهم ممن هم بأمس الحاجة الى خدماتهم في تلك الظروف العصيبة ليسجلوا أسوأ المواقف المخزية في تاريخهم الوظيفي والاخلاقي والانساني, والأدهى والامّر أنّ بعضهم وبعد تحرير مناطقهم عاد بكل صلافة ووقاحة يستخدم كل الطرق المؤدية الى المناصب ويسعى لها بكل قوة متناسين مواقفهم المتخاذلة أيام المحنة!!.
أفلم يقرأ المسؤولون في وزاراتنا قول صاحبة موسى مخاطبة أبيها : ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين )؟؟, حتى لا نسمح لبعض الضعفاء المهزوزين الوصول الى المناصب, ألم يطلعوا على وصايا الامام علي (عليه السلام) التي كتبها الى مالك ألأشتر في كيفية اختيار الانسب والاصلح لتولي المناصب في ادارة مفاصل الدولة؟؟, كلمات من ذهب تصلح لكل مكان وزمان ليتنا نلتفت اليها: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل). فمالنا نترك هذه الوصايا العظيمة التي اعتبرتها الأمم المتحدة أحد أهم مصادر التشريع ونبحث عن الحلول الضعيفة في غيرها, ثم تقع الفأس في الرأس بتولي المناصب من هم لا يصلحون لقيادة أنفسهم حتى ؟؟