22 ديسمبر، 2024 8:05 م

الوجود الاميركي في العراق.. اختلاف التسميات ليس الا!

الوجود الاميركي في العراق.. اختلاف التسميات ليس الا!

وفقا للاتفاق المبرم بين رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس الاميركي جو بايدن، خلال زيارة الاول لواشنطن اواخر شهر تموز-يوليو الماضي، يفترض ان تجلي الولايات المتحدة قواتها من الاراضي العراقية بنهاية العام الجاري، وتحديدا في السادس والعشرين من تموز-يوليو، اعلن الرئيس بايدن، “ان الولايات المتحدة ستنهي بحلول نهاية العام مهمتها القتالية في العراق لتباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع هذا البلد، ولن نكون مع نهاية العام في مهمة قتالية، لكن تعاوننا ضد الإرهاب سيتواصل حتى في هذه المرحلة الجديدة التي نبحثها، وان الدور الأميركي في العراق سيتحول إلى تقديم المشورة والتدريب”.

    لاشك ان هناك فرقا كبيرا جدا بين الانسحاب والجلاء الكامل، وتغيير المهام، وهذه هي النقطة الجوهرية الحساسة، شغلت حيزا كبيرا من الجدل والسجال طيلة الشهور الخمسة المنصرمة، ويبدو انها سوف تشغل حيزا اكبر في المرحلة المقبلة، ارتباطا بأيقاع تطورات ومستجدات الوقائع والاحداث.

  عراقيا، من المهم جدا الاشارة الى جملة امور، لايمكن بأي حال من الاحوال تجاهلها والتغافل عنها، عند قراءة حقيقة وافاق ومخرجات حراك الشهور الماضية، سواء الجماهيري والسياسي والاعلامي غير الرسمي، او الرسمي وراء الكواليس وخلف الابواب الموصدة.

اولا: كان من بين المهام المطلوبة من رئيس الوزراء الحالي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، حين تم اختياره خلفا لعادل عبد المهدي في صيف عام 2020، هي انهاء التواجد الاجنبي، او بعبارة اوضح الاحتلال الاميركي، ولم يكن حديث الداعين لذلك، متجها او متمحورا حول ما يسمى بتغيير مهام القوات الاميركية، بقدر ما كان متركزا بالكامل على مغادرتها بالكامل.

ثانيا: طيلة العام الماضي وكذلك الجزء الاكبر من هذا العام، تعرضت السفارة الاميركية في بغداد، والقواعد العسكرية التي تتواجد فيها القوات الاميركية في بغداد والانبار واربيل وصلاح الدين لهجمات بصواريخ الكاتيوشا والهاونات والطائرات المسيّرة، ناهيك عن الاستهداف المتواصل للارتاك العسكرية واللوجيستية الاميركية على الطرق الخارجية بين المحافظات، وكان كل ذلك عبارة  عن رسائل ضمنية، وربما رأى فيها البعض صريحة، تطالب بأنهاء الاحتلال وتؤكد بأنه لا خيار مقبول سوى هذا الخيار.

ثالثا: بعد ارتفاع وتيرة الهجمات المشار اليها انفا، وما سببته من ضغط كبير على الاميركان، وحرج بنفس المستوى على الحكومة العراقية، نجحت بعض الجهات في منتصف تشرين الاول-اكتوبر 2020، بأقناع الفصائل التي تقف وراء تنفيذ الهجمات، سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة، بالموافقة على هدنة مشروطة حتى نهاية العام الجاري، حيث موعد الانسحاب والجلاء الاميركي المقرر.

   وفي حينه، أكد المتحدث باسم كتائب حزب الله، محمد محيي، “أن الاتفاق على تعليق الهجمات على أهداف أميركية يشمل كافة فصائل المقاومة في العراق، وخاصة تلك التي ربما تستهدف أيضا القوات الأميركية، وان هذه الهدنة المشروطة تأتي بهدف منح الحكومة العراقية الوقت لطرح جدول زمني لانسحاب قوات الولايات المتحدة من البلاد، وفقا للقرار الذي تبناه مجلس النواب في كانون الثاني-يناير 2020، على خلفية اغتيال الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس في بغداد”.

-هناك رأي عام، مدعوم ومعزز بمواقف ورؤى لطيف سياسي واسع من مختلف المكونات السياسية والمجتمعية والثقافية العراقية، ان كمّا هائلا من المشاكل والازمات والماسي والويلات التي حلت بالعراق، تقف ورائها وتتحمل مسؤوليتها الولايات المتحدة الاميركية، سواء عن قصد او من دون قصد، وهذا الرأي العام المعزز بالمواقف والرؤى السياسية، يقول بأن الامور بعد مغادرة الاميركان لن تكون اسوأ مما كانت عليه في ظل وجودها.

   والملفت هنا، ان اوساطا سياسية ووسائل اعلام ومنظمات حقوق غربية واميركية بالخصوص، تتحدث عن اخطاء وجرائم وتجاوزات وانتهاكات القوات الاميركية في العراق وغير العراق.

  وما نشرته قبل بضعة ايام صحيفة نيويورك تايمز الاميركية من وثائق لوزارة الدفاع (البنتاغون)، يشكل ربما نزر يسير مما قامت نه واقترفته الولايات المتحدة الاميركية، ومن بين ما ذكرته الصحيفة، ان وثائق النتاغون الجديدة كشفت أنّ ضربات القوات الاميركية أوقعت آلاف القتلى المدنيين، بينهم أطفال كثر، وان التعهدات بالشفافية والمساءلة بقيت غالباً من دون تنفيذ، ولم يخلص ولو سجل واحد إلى خطأ ارتُكب أو إلى إجراء تأديبي”.

  ورغم الاعترافات الرسمية الاميركية بتسبب العمليات العسكرية بمقتل مدنيين في العراق وسوريا وافغانستان، والحاق اضرار بالبنى والمنشات المدنية الخدمية، الا ان الارقام المعلنة اقل بكثير من الارقام الحقيقية، كما تؤكد ذلك الكثير من التقارير.  

   اميركيا، وفي مقابل ذلك كله، فأن واشنطن لا تتحدث عن انسحاب وانما عن تغيير مهام القوات الاميركية من قتالية الى تدريب واستشارة وتمكين، وهذا يعني ان مجمل اعداد القوات وعددها ومواضع تمركزها لن تتغير، وفي حال طرأ عليها اي تغيير فأنه سيكون طفيفا وشكليا.

   ومثل هذا الكلام ليس جديدا، واذا كان يرد اليوم على لسان شخصيات سياسية او عسكرية او استخبارية اميركية، فهو انما يأتي في سياق تأكيد الشيء لا نفيه.

   ففي اواخر شهر نيسان- ابريل الماضي، خرج رئيس قيادة القوات المركزية الاميركية الجنرال كينيث ماكينزي بتصريح لوسائل الاعلام، كشف فيه عن عدم وجود خطة للانسحاب من العراق، كما هو حاصل مع افغانستان، واكثر من ذلك، اكد انه “لن تخفض الولايات المتّحدة عدد قواتها في العراق، بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة في بغداد، وقد تزيدها”.

   وبعد زيارة الكاظمي لواشنطن في تموز-يوليو الماضي، صرح السفير الاميركي في بغداد ماثيو تولر قائلا، “إن الوجود العسكري الأميركي الحالي في العراق جاء بناء على دعوة من الحكومة العراقية في عام 2014، وأنه رغم تحرير جميع الأراضي من سيطرة تنظيم داعش، ما يزال التهديد الذي يشكله التنظيم الإرهابي للعراق وللشعب العراقي قائمًا، وما تزال هناك حاجة لقيام التحالف بمساعدة القوات العراقية التي تقوم هي بالتصدي لداعش ودحره وضمان استمرار هزيمته”.

   واذا اقتربنا اكثر فأكثر من موعد الانسحاب (31 كانون الاول-ديسمبر 2021)، سنجد تصريحات واضحة للغاية لايشوبها اي لبس او غموض،  

    فهذا قائد قوات مكافحة تنظيم داعش في العراق الجنرال الأميركي جون بيرنان، يقول خلال مؤتمر صحفي عقده في التاسع من كانون الاول-ديسمبر الحالي، “ان القوات الأميركية لن تنسحب من العراق، وستبقى لممارسة مهام عملها الجديدة التي انيطت بها، وان الأوامر الاميركية من البيت الأبيض تضمنت تغييرا في مهمة هذه القوات، وليس سحبها من العراق”، ويصف الجنرال برينان بقاء القوات الاميركية في العراق بعد موعد الانسحاب المقرر بـ”المرحلة الجديدة”، التي ستمارس خلالها تلك القوات مجموعة من المهام الجديدة، تتمثل بدعم وتدريب وتطوير القوات العراقية، ويؤكد “ان بقاء هذه القوات يأتي بطلب رسمي مباشر من الحكومة العراقية في بغداد”.

    ويذهب المتحدث الرسمي بأسم وزارة الدفاع (البنتاغون)، جون كيربي، ابعد من ذلك، عبر تصريحات ادلى بها لصحيفة (ذا هيل) الاميركية قبل اسبوعينن جاء فيها، “ان القرار الأميركي بإبقاء القوات يأتي بعد انهاء المحادثات مع بغداد، اذ ان بقاء هذه القوات يحظى بدعم وموافقة من الحكومة في بغداد، وان عددها الذي سيبقى في العراق بعد الانسحاب، لن يتغير نهائيا”، اذ ستحتفظ الولايات المتحدة بالعدد الحالي من الجنود والبالغ 2500 جندي اميركي، بالإضافة الى المتعاقدين العسكريين مع الشركات الاميركية الأخرى”، ويضيف كيربي، بأن “لأوامر التي وردت تتمثل بتغيير المهمة القتالية للقوات الاميركية الى مهمة دعم واسناد فقط، هذا يعني بأن التغيير يشمل طبيعة المهمة وليس طبيعة حجمها او عدد القوات المطلوبة لها حتى الان، والامور لا تسير بطريقة كسر نمط عمل القوات الاميركية في العراق وسحبها كليا فجاة وبدون سابق انذار”، معتبرا “ان الاتفاق الذي ابرم بين بايدن والكاظمي، لم يتضمن أي حديث عن سحب القوات الاميركية من العراق، بل ان الاتفاق تضمن فقط تغيير مهام تلك القوات”.

   الى جانب ذلك، فأن مختلف مراكز الابحاث والدراسات الاستراتيجية القريبة من مراكز القرار في واشنطن،  لم تتوقف عن التحذير من مخاطر وتبعات الانسحاب العسكري من العراق، وتعتبر ان إنهاء الوجود الأميريكي في العراق لن يضمن أمنه واستقراره، بل انه قد يدعم ما تبقى من عناصر تنظيم داعش، ويعرقل محاربة الفصائل والكيانات القريبة من ايران.

   وارتباطا بتداعيات الانسحاب من افغانستان، ترى مراكز الابحاث والدراسات هذه، ان انسحاب أمريكا قد يقوض مصداقيتها في شراكاتها الأمنية العالمية، بما فيها شراكاتها في الشرق الأوسط. كما أن طبيعة الانسحاب المشوبة بالاضطرابات تسلط الضوء على التكاليف المترتبة على إنهاء الالتزامات الجارية، وعلى إدارة بايدن التركيز على الخطط القابلة للتنفيذ والداعمة للشركاء في الشرق الأوسط، على غرار إطلاق البرامج المشتركة أو تعزيز التعاون في المجال السيبراني. وفي العراق بشكل خاص، أكّدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على مصلحة مشتركة في تحقيق الأمن والاستقرار عبر مهام التدريب والتجهيز وتكثيف وجود الناتو”.

  ولعل هناك قناعة وادراك لدى العديد من النخب والفاعليات السياسية والثقافية والاكاديمية، بأن الولايات المتحدة الاميركية لن تغادر العراق بصورة فعلية وحقيقية، وترسخ ذلك بقدر اكبر قبل عدة شهور،  بعدما انتهت الحوارات بين الكاظمي والوفد الكبير المرافق له مع الإدارة الأميركية إلى الإتفاق على تحويل المهام القتالية للقوات الأميركية الى مهام استشارية وتدريبية ولوجيستية، وهذا يعني بقاءها واستمرار الاحتلال إلى أمد غير معلوم، ناهيك عن التحكم بالأجواء، وبمفاصل أمنية واقتصادية حيوية تحت عنوان الدعم والاسناد اللوجيستي والاستشاري، الى جانب التذكير بأن مهام التدريب والاستشارة والتمكين ربما تنطوي على مخاطر اكبر من المهام القتالية على الامن القومي للبلاد، لانها تتيح الاطلاع والاحاطة بكل التفاصيل والجزئيات في مختلف المفاصل والمؤسسات الامنية والعسكرية، وبالتالي جعل البلد مكشوفا بالكامل، وعرضة لمختلف المشاريع والاجندات الخارجية.

   مضافا الى ذلك، ان استمرار تواجد قوات تابعة لحلف شمال الاطلسي (الناتو)، الذي تعتبر الولايات المتحدة العضو الاكبر والاقوى والاكثر تأثيره فيه، يعد ثغرة حقيقية في جسد السيادة الوطنية العراقية، ونوع من الالتفاف الذي يتيح لواشنطن الحفاظ على وجودها المتعدد الاشكال والمظاهر، تحت عناوين ومسميات اخرى.

   ومن دون شك، فأن تغيير المهام، وتغيير العناوين واليافطات والاعلام، والمواقع والازياء، مع بقاء ذات المشاريع والاجندات، لن يمر بسلام، لان الامور لم تعد تقرأ بظواهرها العابرة، بل ببواطنها الغائرة!.

———————- 

*كاتب وصحافي عراقي