23 ديسمبر، 2024 12:56 ص

الوجدان والبرهان

الوجدان والبرهان

في هذه الكلمات أود تسليط الضوء على هذين المصطلحين توخياً لفائدة القارئ الكريم…
الوجدان وكما يعرفه الشهيد محمد الصدر (قدس سره) في أحد دروس البحث الخارج لعلم الأصول بأنه:
(الإحساس الفعلي بالإتصاف أو هو الإحساس بالإتصاف إحساساً فعلياً)..
فالمراد من الإحساس الفعلي هو الإحساس بالفعل بحسب إصطلاح الفلاسفة ويقابله الإحساس بالقوة لأن الانسان له القابلية والإستعداد للإحساس ويسمى أيضا بالإحساس الإقتضائي فإذا إجتمع معه الشرط وأرتفع المانع أصبح الإحساس إحساساً فعلياً عليِّاً وخير مثال على ذلك رؤية الإشياء فإن الانسان له القابلية والإستعداد للرؤية عن طريق حاسة البصر فالعين الباصرة تمثل المقتضي(جزء العلة) فيكون إحساسه البصري إحساساً بالقوة(إقتضائي) فإذا توفر الشرط الذي يتمثل بالضوء وأرتفع المانع فإن الرؤية والإحساس البصري يصبح إحساساً فعلياً عليِّاً وهذا الإحساس الفعلي بالرؤية يمثل وجداناً….

إن الإحساس الفعلي بالإتصاف (الوجدان) يمثل علة تامة للإحساس…؛
فالعلة التامة(علة ما به الوجود) لابد أن تتوفر فيها ثلاثة أمور وهي(وجود المقتضي ووجود الشرط وعدم المانع)….
ويمكن على هذا المنوال القياس على باقي الحواس(حاسة الشم والسمع واللمس والذائقة)..

إن الحواس الخمسة لها القدرة في إدراك الصفات الخارجية ولكن الإحساس بها يكون في داخل النفس لأن النفس تدرك الجزئيات ولذلك كان الوجدان يمثل هذا الاحساس الفعلي بالإتصاف سواء كانت الصفة خارجية كالصور المرئية والألوان والأصوات والروائح والطعم…الخ) أو كانت الصفة داخلية كالجوع والعطش والخوف والحب والبغض والشك والظن والإطمئنان واليقين …..الخ من الصفات الباطنية فإن الإنسان له القابلية والإستعداد للإحساس بهذه الصفات الداخلية الباطنية وهذا الإحساس هو إحساس بالقوة(إقتضائي) فإذا إنضم إليه الشرط وأرتفع المانع أصبح الإحساس فعليّاً(عليِّاً) كما هو الحال بالنسبة للصائم الذي يشعر بالجوع والعطش والمريض الذي يشعر بالإلم والخائف الذي يشعر بالخوف….الخ
وهذا هو المراد من الوجدان فإنه إحساس فعلي بالإتصاف….

ولا يخفى ما للوجدان من دور خطير ورئيسي في هداية الإنسان لأنه يمثل الجانب النفسي للإنسان فالحس والشعور يتكفلان الإحساس بالصفات الخارجية والداخلية(الباطنية)…..
إن التربية التي تهتم بهذا الجانب الإنساني تسمى (التربية الوجدانية) وبالرغم من إهتمام السماء بهذا النوع من التربية منذ أن أنيطت للنبوة مهمة تربية الإنسان فردياً وإجتماعياً بالرغم من هذا الإهتمام نلاحظ إن هناك إهمالاً لهذا الجانب الخطير من جوانب الهداية بإستثناء القليل القليل من المصلحين!!

وخير شاهد ما ذكره السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) مؤكدا على هذه الحقيقة في كتابه شذرات من تأريخ الإمام الحسين(ع) حيث قال ما نصه:

(( الهداية تتوقف على جانبين:
1-جانب عقلي.
2-جانب نفسي.
فإذا تمّتْ السيطرة عليهما بعون الله تعالى, فقد تمَّ الأمر وأصبح الفردُ من المهتدين. ولايمكن الإكتفاء بأحد الجهتين دون الأخرى,لأن ذلك يستلزم نقصاً كبيراً جداً, ومن ثم لا يترتب ما هو المطلوب من الهداية للفرد والمجتمع والأجيال)) إنتهى

وقد إهتم الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) بهذه الحقيقة وهذا واضح في الأغلب الأعم من مؤلفاته وخير شاهد على ذلك ما جاء في أحد محاضراته ومواعظه الذي برّهن من خلالها على دور حب الله في صناعة المواقف الإنسانية العظيمة!!

وقال إن الإنسان يدرك بعقله حقيقة الموت والفناء (كل من عليها فان) إلا أن هذا الإدراك التجريدي العقلي يحتاج الى تجسيد كي يتزعزع القلب ويشتعل الوجدان!!

فلابد أن يتذكر الإنسان بأن له أحباب قد ماتوا ورحلوا لم يبق من طموحاتهم شيء هذا التذكر وهذا التحسس هو الذي يؤدي الى تصحيح السلوك والعمل الصالح وهو الذي يكسر فينا شره الحياة وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ….
وهذا التجسيد يسمّيه الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في إحدى محاضراته (الإستنزال الحسي)….
وكذلك يؤكد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) على أهمية الوجدان في خاتمة كتابه الرائع الأسس المنطقية للإستقراء حيث قال ما نصه:
((هذا إضافة الى أن الدليل التجريبي على وجود الله- الذي يضع هذا الكتاب أساسه المنطقي-أقرب الى الفهم البشري العام,وأقدر على ملأ وجدان الإنسان-أي إنسان- وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم))إنتهى
ومن هنا يكتسب الوعي الإسلامي الأهمية الكبرى لأنه يهتم بإصلاح الفرد والمجتمع عن طريق الدخول الى قلب الفرد وعقله كي يكون فاعلاً ومؤثراً ومنتجاً للنتائج العظيمة….

وقد ذكر الشهيد محمد الصدر (قدس سره) أن طول غيبة الإمام المهدي عليه السلام لها علاقة وثيقة بالجانب الوجداني النفسي والجانب الفكري العقلي….
وهناك كلمة رائعة يؤكِّد عليها الشهيد محمد الصدر (قدس سره ) وقد ذكرها في موسوعة ما وراء الفقه الجزء العاشر حيث قال أن السير في الفلسفة إذا لم يؤدِ الى العرفان فهو سير في ظلام….
ومن المعلوم جدا أن الفلسفة تهتم بالجانب العقلي أما العرفان فهو جانب وجداني نفسي!!
وبعد أن تمَّ الفراغ من الوجدان فقد آن الأوان لتسليط الضوء على البرهان….
فالبرهان وكما يعرفه الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء بأنه:
((اليقين بثبوت المحمول للموضوع عن طريق معرفة العلة في ثبوته له))
عرفنا فيما سبق أن النفس تدرك الجزئيات..
أما الكليات فيدركها العقل….
ولأجل فائدة أكبر عدد ممكن من القرّاء يستحسن توضيح ما هو المقصود من الجزئي والكلي
فالجزئي هو المفهوم الذي يمتنع صدقه على كثيرين مثال ذلك الكعبة المشرفة فإن مفهوم الكعبة المشرفة يمتنع الانطباق على غير الكعبة….
والمفاهيم الجزئية كثيرة ومتنوعة ويكون إدراكها عن طريق النفس بل إن الإحساس بها يمثل الوجدان بعينه لأن الوجدان هو الإحساس الفعلي بالإتصاف وهي كلها معاني ومفاهيم جزئية بالرغم من إختلاف القوى المدركة لها سواء كانت قوة الحس أو قوة الخيال أو قوة الوهم ولذلك عبّروا عن ذلك بأن النفس تدرك الجزئيات….
أما الكلي فالمراد منه هو المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على كثيرين مثال ذلك كتاب فإن الكتاب مفهوم كلي ينطبق على هذا الكتاب وذاك الكتاب وكل كتاب….
وهذا المفهوم الكلي يدرك بقوة العقل ولذلك عبّروا بأن العقل يدرك الكليات…
إن الإنسان إمتاز على غيره من المخلوقات بهذه القوة قوة العقل التي بها يفكر الإنسان ويستدل ويستنتج فكان البرهان أحد أهم منتجات قوة العقل..
فالإنسان يستطيع إدراك الكثير الكثير من المفاهيم التي لا تنال بالوجدان عن طريق إقامة البرهان عليها نفياً أو إثباتاً…..

إن البرهان حالة خاصة من اليقين إذ إن ليس كل يقين برهان ولكن كل برهان يقين لأن اليقين الذي يكون عن طريق علة يسمى برهان والمراد من العلة الدليل لأن الدليل علة اليقين….
ومن خلال هذا الكلام يتضح الدور الرئيسي والمهم للوجدان والبرهان وهما يمثلان جانب النفس والعقل والشئ الطريف أن البرهان هو اليقين واليقين يمثل صفة باطنية يتم إدراكها عن طريق الوجدان!!
ومن هنا يتضح أن البرهان ينتهي الى الوجدان وكلاهما ضروريان في هداية الإنسان.