مصطلح المرجعية والمرجع من ركائز المنظومة الشيعية الحديثة ، وجذورها ترجع الى مئتي عام تقريباً (من أيام الشيخ الأنصاري صاحب كتاب المكاسب ) .
تكفلت المرجعية والمراجع مشاكل ( الأمّة ) في ابتلاءاتها العبادية والمعاملاتية ، ورغم تحفظنا على مصلح الأمّة الذي يتكرر دوماً في أدبيات الشيعة حين تصف المرجع أو المرجعية ، إلّا أننا نجد أن هذه القيادة استطاعت الى حد ما ، حفظ خارطة الوجود والتعريف للشيعة ، بلحاظ التضارب والتنافس بين المرجعيات في حقب كثيرة ، لكنه كان صراعاً خفياً الى حد ما في تولي زعامة هذه الأمّة ، وعلى طول الخط في التعايش مع الحكومات كانت هذه المرجعيات ناجحة في حفظ كينونتها ، ولم تستطع اعتى السلطات من اختراق هذه المؤسسة بحيث تفتتها وتنهيها ، والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه … مع أسئلة تلتحق
• هل كانت قوة هذه المرجعية وهؤلاء المراجع مبنية على أسس أخلاقية وجدانية ، إذ أمّنت هذا الاستمرار في وجودها ، مع كل هذه القطيعة ( الظاهرية ) مع السلطات الجائرة ، والتراصف مع الحكومات الساندة لها ؟
• هل كانت المرجعيات تساير معاناة مقلديها ؟ وتتصدى لحلول واقعية لمآسي الأمّة وتخفيف آلامها ، في حقب الطيش الحكوماتي في اللعب بمقدرات وأرواح الأمة ؟
• هل كان الوجدان حاضراً في أشخاص المرجعية ، يوم تحطمت أسوار مدننا الآمنة ، فصارت غير آمنة ؟ وهل دخل عدم الأمان في بيوت المراجع وتفاصيل أيامهم ؟ وأين كانت المرجعية يوم سرنا سبايا يتخطفنا الجلاد والقدر الأسود الذي احتوانا ؟
الجواب وبكل شفافية هو ( لا ) ولا ، واضحة ، لا لبس فيها ولا مجاملة ، فقد تعامل جموع المراجع بالعقل مع تفاصيل الحقب ، وتخلوا عن الوجدان النقي لخلاص الأمة ، ولكي نروي جوابنا هذا ( والذي سيعتبره الكثير إنه تجني وقسوة وقلة دراية ) ، نطرح بعض المقتربات التي نراها أسساً منطقية لاستدلالنا .
1. إن الموروث السياسي لزعماء الشيعة لتكوين سلوك التعايش هو مشوش ، بين ثورة واستسلام ، بين مواجهة ومداهنة ، بين حرب خاسرة وأخرى ناجحة ، فنجد أن ثورة الحسين بن علي كانت صورة راقية رائعة في تجسيد الوجدان ، حين رفض كل عروض المساومة والنصح العقلية التي وجهت له قبل وأثناء الشروع في ثورته ، ورغم النهاية المأساوية لحركته إلّا انه دخل التاريخ ، لكن أخاه الحسن بن علي كان قد بايع معاوية والذي يمثل للشيعة الضد النوعي لخط علي وبنوه ، كذلك سلوك ولده علي بن الحسين ومبايعتة لوالي المدينة المتسلط الجائر بدوافع عقلية لحقن دماء المسلمين ، حين أصر الوالي بأن يبايعه الناس ( على أنهم عبيد له ) ، وارتضى الإمام السجاد ( علي بن الحسين ) تلك البيعة ، حتى يوقف قطع رؤوس كل من يرفض ذلك النص من المبايعة . ونجد ثورات هنا وهناك كثورة زيد بن علي بن الحسين ، مقابل سكوت الأئمة من ولد الحسين كمحمد بن علي وجعفر بن محمد ، بل وصل الإمام علي بن موسى الرضا الى ولاية العهد في زمن المأمون ، وعليه ، كان هذا الميراث المشوش هو مدعاة الى انتقائية في السلوك والتبرير ، فمن يسكن من المراجع يدعي أنه حسني ( نسبة الى الحسن بن علي ) ، ومن يثور فهو حسيني ، ومن يقبل البيعة والمنصب فمثله الإمام الرضا ، وعلى هذا فقس .
2. إن المقترب الأول أدى الى تكوين مدرستين في الفقه والمباحث ، تستنبط احكامها من سلوك من سبق من الأئمة ، وعليه أقفل الباب على كل من يعترض أو يرغب في معرفة حقيقة سلوك هذا المرجع أو ذاك ، وكل مرجع يرى نفسه ضمن إطار التكليف الشرعي الحق .
3. مع الاحباطات التي سايرت الخط الحسيني نتيجة لفشل الثورات وكثرة الضحايا ، ابتعد هذا المفهوم من سلوك المرجعية ، وتبنى السواد الأعظم منهم مدرسة العقل التي تصون ( بيضة الاسلام ) على حد زعمهم ، ورأوا إن الخط الوجداني هو خط مكلف ومقلق ونتائجة كارثية ، فصار المرجع منهم يفكر بمبدأ ( الظلم القليل أفضل من الظلم الكثير ) وهذه بالنتيجة هي عدالة عقلية مرجحة ، ولقلة دراية أو الاكتفاء بالتجارب الفاشلة وجد الخط العقلاني في المرجعية أن مستقبل أي مواجهة هو فشل محتوم ، فرفع الكثير منهم شعار ( أيّ راية قبل راية المهدي المنتظر ، هي راية ظلال ) ، وأن الفساد في العموم هو أفضل من الفوضى العارمة التي تأكل الأخضر واليابس ، وخير دليل لهم على ذلك هو بيت الزوجية ، فخصام الزوجين وكثرة المشاكل هو أهون من الطلاق الذي سيؤدي بالنتيجة الى تفكك الأسرة وضياع الأطفال .
الإمام الخوئي … كان خير مثال على المرجع العقلاني غير الوجداني ، فسلوكه مع السلطة طيلة سنوات مرجعيته ، كان هادءاً ومستقراً ، وملايين مقلديه كانوا في تواصل مع فتاواه وسلوكه ،
بل كانت السلطة البعثية الغاشمة تكن له احتراماً في الظاهر ، ولم تتعرض لمرجعيته من قريب أو بعيد ، وخروج المرجع محمد باقر الصدر على خط السير وتصادمه مع السلطة ، ثم اعتقاله وتصفيته ، كان خير دليل على ظاهر التصالح بين مرجعية الإمام الخوئي والسلطة ، فلم يحرك ساكناً ولم يعترض ولم يقم له ولو مجلس عزاء بالسّر .
وفي حادثة مشهورة يعرفها القاصي والداني من أهالي النجف ، حين قرر النظام العراقي بدء عمليات التسفير الى إيران بحجة التبعية الإيرانية بداية الثمانينات من القرن المنصرم ، أرسلت السلطة الى الإمام الخوئي ، وفداً رفيع المستوى وطلبوا منه قائمة بأسماء من يرغب باستثناءهم من التسفير ، فخط لهم قائمة بمئة وخمسون شخصية وعائلة إيرانية استثنوا من التسفير ولم يزالوا الى يومك هذا في العراق ، وهذا الأمر مؤلم ومحزن وعجيب ، فلم يعترض الإمام الخوئي على فكرة التسفير القسرية بالعموم ، وبتلك العريضة بارك تسفير أكثر من نصف مليون عراقي ، اعتقل شبابهم وسلبت أموالهم وهتكت أعراض الكثير منهم ، فكان من الوجدان أن يرى الإمام الخوئي رعيته بعين رحمته ، ويرى أمته التي قال لهم في أول صفحة من كتاب فتاواه ( عمل العامي دون تقليد أو اجتهاد باطل ) ، أي حصر مصيرهم الدنيوي والآخروي به كشخص ( ربما يصيب وربما يخطأ ) .
وحين بدأت انتفاضة الشيعة بعد انسحاب الكويت وسقوط المحافظات الواحدة تلو الأخرى كانت مفترق طريق آخر مع المرجعية ، والإمام الخوئي يرى أن هذه فتنة وشكر صداماً على اخمادها في لقاءه معه ، ووجدنا حواره الذي نقلناه في مقال سابق تحت عنوان ( للتاريخ وقفة … نص الحوار الذي دار بين الإمام الخوئي وصدام ) ، وجدنا حواره صريحاً بإيمانه بأن صداماً كان محقاً في اخماد انتفاضة الشعب ، ولم يكن الإمام الخوئي يحكي تقية أو خوفاً أو مجاملة ، بل كانت مسألة العقل عنده حاضرة ، ففساد صدام وجوره أهون من الفوضى التي لاتعرف نهايتها ، وفي ظل البعث ، هناك حكومة وشرطة وأمان ، وهذا أرجح من الفلتان والقتل والدماء ، كان عقل الإمام الخوئي حاضراً ، لكن وجدانه كان غائباً ، فالوجدان كان سيأخذه الى جموع المنتفضين وينضم حركتهم ويقوي عزيمتهم ويذوب معهم ، كان الوجدان غائباً حين وصف قوافل شهدائنا ببعدهم عن الدين ، وهو محق بذلك ، فدين العقل هكذا ، لكن دين الوجدان هو أن تنتفض حين تكون مظلوماً وتمد يدك حين يستصرخك المحتاج .
لم يخطف صداماً الإمام الخوئي للقاءه كما يدعي البعض ، فحوار المختطف ليس هكذا ، المختطف يسكت ولا يجيب إلّا عند سؤاله ( بنعم أو بلا ) ليوصل رسالة الى المتلقي بإنه مختطف ، الإمام الخوئي كان مسترخياً في لقاءه مع صدام ، فقد كان عقله حاضراً ، وكان يتبرع بالتصريحات للطاغية ، ونسبة ماتكلم به اضعاف ماتكلم به صدام ، لم يكن مختطفاً البتة ، بل كان يؤمن أن صداماً هو أفضل من فوضى تهدد البيت المرجعي … وإن تهدمت بيوت المقلدين على رؤوسهم .
وبكلمة واحدة نقول ( مرجعيتنا بحاجة الى وجدان … وجدان يحس بوجع الأمة )
[email protected]