في تسعينات القرن الماضي قرأتُ رواية (يا كوكتي) للروائي الصديق جنان جاسم حلاوي. اعادتني الرواية إلى بيتنا في محلة نظران. سكناه قرابة ربع قرن في زمن محتدم. بعض شخوص الرواية أعرفهم دون أن تكون لي معهم أي علاقة. أثناء قراءتي الرواية رأيتني اتفرج مسرورا وأحيانا متذمرا على فيلم تعايشت مع مجرياته متوجسا في تلك السنوات. والروائي درّب نفسه بعد( يا كوكتي) على كتابة المجموعات القصصية والكتب الشعرية. ثم تدفقت رواياته الست التي جعلته ضمن طليعة الروائيين العراقيين والعرب. وهذه المقالة هي الخطوة النقدية الأولى تليها قراءتي عن(شوارع العالم) و(دروب غبار) و(ياكوكتي) وليس في حيازتي غير هذه الروايات الأربع.
مصائر دامية لأهل النخيل
في ص226 العاهر بديعة يحكم عليها بالإعدام بعد أن قتلت زبونا في بيته دفاعا عن نفسها، ولم يعثر عليها( إلا في مبغى محلّة الذهب في بغداد، بعد تعقب وتحرّ إثر بلاغ ورد من القوّاد كنش يشير إلى اختفائها )
الصبية فاتن بعد أن صيّرت جسدها بضاعةً وصار اسمها بديعة سيأخذ بثأرها علاوي المعوّق الذي عاش معها في طفولتها في تلك المنطقة المجاورة لدور البغاء في شارع بشار. يتوّجه علاوي إلى دار البغاء الذي يقطنه القوّاد الواشي كنش(اجتاز علاوي الباب، حتى صار في الداخل صكّت الأسماع عدة طلقات نارية هزت البيت هزّا.. أشاح علاوي بوجهه عن جثة كنش المدماة وفي يده المسدّس وفي عينيه ومضة انتصار/272)
يقرر علاوي مصيره بيده، يقصد متن (الطبكة) الراسية في شط العرب ينتحي ركنا مستوحدا بعيدا عن طلبة الجامعة. ما أن تصل (الطبكة) منتصف شط العرب يتجاوز الحاجز ويلقي نفسه في الماء(غطُ مرة واحدة مثل صخرة، ولم تجذب تلك القفزة أنتباه أحد عدا إحدى الطالبات فقالت لصديقتها: كأنني رأيت أحدهم يرمي نفسه إلى الماء/ 288).. علاوي هو العائش بالهامش وحين ينتحر يبقى في هامشه.. علاوي ليس مصابا بالاستعراض.. بهدوء قادته قدماه لأخذ ثأر فاتن
وبالهدوء نفسه قفز إلى الموت(جثة شملتها الرحمة حتى ذابت فيها وامتزجت بها. غدت روح علاوي نغمة ً من إيقاع الشط، جزءاً من روحه، من طينه ومائه/ 289) والنهر نفسه تستعمله الشرطة ضمن فنون التعذيب للمتهم جوني بتهمة تهريب الويسكي( أنشأ أحدهم يشدّه من شعره، مثبّتا رأسه تحت الماء، وجوني ينتفض ويرفض من شدة الاختناق/ 165) وبهزء يخاطب المفوض شرطته( لا يزال عطشان)
ينقلبون راجعين به إلى الماء يخنقونه إلى أن تلاشت مقاومته وهمد جسده، فلاح كأنه يشرف على الهلاك..
(4)
الشرطة تحتكم دوما للعنف لا تميز بين مختل عقليا مثل مهيدي فيأمر منصور خليفة مدير دائرة الشؤون الاجتماعية
بطرده من الميتم يقوم سائق المدير بالاعتداء على مهيدي فيكون رد مهيدي أكثر شراسة. هنا يستعين المدير بالشرطة. يهرب مهيدي وتتعقبه الشرطة بسيارتها. تقتحم الشرطة المأوى وتستعمل العنف ثم يوجهون الإهانات إلى جودي المسؤول عن المأوى وطرد الشيوخ العجزة وسحلهم وركلهم. تتوجه مفرزة الشرطة للبحث عنه في البستان
وبعد عناء يلمحون مهيدي وتخترق جسده أحدى الرصاصات وحين يظهر جودي يرجوهم أن لا يطلقون النار عليهم. يسقط جودي قتيلا
(5)إلياس ورفاقه ضمن تنظيم القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يحصدهم في الأهوار:(رجال الشرطة يصلونهم ناراً حاميا فحصد الرصاص للفور ثلاثة رفاق.. أفراد الشرطة آثروا عدم التوقف فأردوا إلياس في الحال/ 285)
(6) هناك العنف الإعلامي. ملا جعفر الذي لا يتوقف عن أقاويله (الشيوعيين الكفرة الذين لا يتورعون عن إتيان الزنا بأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم لعنة عليهم مأواهم جهنم وبئس المصير/ 208)
(7) أثر كلام ملا جعفر تتحرك سيارة سوداء تابعة لمديرية أمن البصرة وتقف عند أطراف نظران تترجل منها مفرزة مسلحة وتقتحم كوخ حسين العامل الشيوعي لحظتها كان حسين يتناول عشاءه البسيط. يهرب حسين نحو الأدغال، الضابط يتوغل في غرف الباشا الشريف شرف: أرواح الغرف والأخيلة الشبحية، المرئيات غير الحقيقية. في الغرف الهواء مليء بأنفاس النهر تقدمن نحو الضابط
تلاشى الضابط وفي ذات اللحظة يأتي صوت من هاتف الضابط : (ألو، ألو هل تسمعني سيدي، رصاصة واحدة في رأس الأحمر/ 219) أن هذه الصفحات من 215 إلى نهاية ص219 من أهم صفحات الرواية
(8) عنتر مصلح الدراجات الهوائية وتأجيرها. يشاع عنه أنه من الحمر وأنه على صلة ما بالحزب الشيوعي العراقي، لكنه لا يصاحب المكشوفين من الحزبين ولا يخوض حديثا سياسيا مع أي أحد. إلا أن يتعاطف من طرف خفي مع سياسة الاتحاد السوفيتي. عند الغبشة يلتقيان عنتر وجواد .. يعترضان طريق ملا جعفر وبعد حديث قصير معه (يتهاوى ملا جعفر مضرجا بدمه/ 233) ثم تتقدم منهما سيارة
وتستقر الجثة في صندوق السيارة
(7) في عملية عسكرية يقوم الأنصار بقيادة النصير أوميد لفك محاصرة السلطة العراقية على ثلاث قرى كردية (أولاخ لو، وسيو تاله، وبيتوش).. يتكبد الأنصار فيها خسائر بشرية ثم ينتصرون. يستسلم الجنود العراقيون وكان بينهم جواد الذي كاد أن يصرخ بالبنادق الموجّهة إليه: أنا شيوعي. لكن الرصاص لم يمهله/ 341)..
(8)
رزاق الأحدب وجوني البحار تستعملهما الشرطة مخبرين . في يوم شتائي عادي يغادر التربوي إسماعيل بيته في غير وقته المعتاد ويقصد تلك الحسينية في نظران بعد انصراف المصلين راح يدس مغلفا نسخ القرآن الموجودة في الحسينية يحتوي كل مغلف الكلام التالي(بسم الله الرحمن الرحيم : إن المدعو جوني البحّار ومساعده رزّاق الأحدب يعملان مخبرين في مديرية الأمن العامة في البصرة. الله وأكبر(مراقب) / 335) في ذلك العصر السادر في هدوئه، تواصل سيارة سيرها تصل إلى حسينية مقام الخضر، تتجاوزها منعطفة نحو دكان (علي بارون). تتأنى السيارة تبرز من فوهة نافذتها الأمامية
فوهة تنطلق منها زخةٌ من الرصاص نحو جوني البحّار ورزّاق الأحدب(جوني مرميّا على الأرض ينزف ويئن، ورزاق جثة هامدة/ 246)
(9) سميرة الكلدانية فرّت مع الشاب المسلم يوسف من كافة أنظمة السلوك الجمعي وعاشا في عين الحلوة في لبنان هي كممرضة في المخيم ويوسف كفدائي في صفوف الجبهة الفلسطينية. ذات يوم يرقد يوسف في غرفة الطوارئ وحين سألت عن مرض يوسف أخبروها جرعة مخدّر كبيرة . لكن سميرة الكلدانية زوجة يوسف أصرت في وجوههم: يوسف لا يتعاطى.. في اليوم العاشر على رقوده قالوا للمرضة سميرة الكلدانية : البقية في حياتك.
(*)
الشخصية المحورية : هي محلة نظران وقد استعادها الروائي جنان جاسم حلاوي بمهارة كبيرة كما كانت نظران في تلك السنوات التي استقرت في قعر ذاكرة الروائي ونحن القراء وبالأخص العائشين في محلة نظران كنا سعداء بهذه الاستعادة الروائية العميقة للأمكنة. وترى قراءتي أن التناول الروائي : لأحداث لبنان وأحداث حركة هي ضمن الفائض السردي. الذي يمكن عدم قراءته بعد القراءة الأولى. وكانت فاعلية الرواية تجنح نحو الوصف بنسبة عالية. وصف أمكنة نظران . والتوقف عند تضاريس الطبيعة وتقلبات الفصول. والروائي في توصيفاته لنظران كان يستعيد نظران التي لا وجود لها الآن في نظران لا توجد غابات النخيل ولا تلك المنعرجات في الطريق والأزقة وهكذا تتحول جغرافية الوصف إلى أرشيف تاريخي للمنطقة الذي لا يعني القارئ الآن. بل يشعر بالملل. ويبدو أن الشخوص التي تغادر محلة نظران لا يجانبها التوفيق: يوسف يموت في لبنان. جواد يفتحون عليه النار شباب مثله من حركة الأنصار!! يا لنحس الذي يطارد هذا المناضل الكادح
(*)
غرف للكتب
غرفة بدر/ 53
غرفة علاوي/ 102
غرفة إسماعيل/ 131
هذه ثلاثة محاريب ثقافية مع اختلاف مناسيب الوعي عند صاحب غرفة
(*)
في ص56 يقدم السارد التوصيف التالي عن شخصية بدر الذي هو القاص والروائي محمود عبد الوهاب(لم يكن بدر في واقع الحال إلاّ شخصاً رقيق المشاعر أكثر من كونه سياسيا) وهذه السمة لازمت أستاذنا محمود عبد الوهاب لآخر يوم في حياته
في ص357 يقوم بدر من فراشه ويتسلل من البيت ويتنكر ثم يقصد حسينة مقام الخضر(أخرج علبة ثقاب من جيبه وأشعل رأس العصا، فهب ملتهبا كمشعل وهّاج رماه من فتحة النافذة إلى الداخل.. التهمت النيران بشراسة فائقة النوافذ والأبواب)!! هذا الفعل الشائن تراه قراءتي تشويها تاريخيا لسجايا الأستاذ محمود عبد الوهاب، ومشعلو الحرائق بعد سقوط الطاغية يعرفهم أهل البصرة حتى لو تنكروا وتلثموا وهم يحرقون المكتبات والمؤسسات الحكومية. وأستاذنا محمود عبد الوهاب في حواراته اليومية. لم يمس الجانب الروحي لأي مذهب أو طائفة في البصرة. يحترم طقوس الجميع والجميع يحترمون مكانته ويقدرونه كل التقدير. يحبونه مربيا لأجيال من أهل البصرة والكل يعرف أنه صاحب مشروع قصصي وروائي. نقدي ويتسم بموسوعية معرفية .أشهد على ذلك من خلال معايشتي اليومية معه.
(*)
مسعود القزم: اسمه الحقيقي : علي بارون : رجل قصير القامة جدا. ولديه محل بعد نهاية أخرى جسور من جسور نظران وهناك صعدة بالشارع إذا كنت قادما من جهة جسر الغربان ويرد ذكره بهذا الاسم (علي بارون) في ص97 من رواية ( ياكوكتي) هكذا (علاوي القزم)
بدر: هو محمود عبد الوهاب يقول عنه المؤلف( لم يكن بدر في الواقع إلا شخصا رقيق المشاعر/56 ) هذا الكلام لا اختلاف عليه. أما في قول المؤلف(بيد أن أغلب أصدقائه الكتّاب يساريون أو قريبون من اليسار، فصار بالتالي في مناخ سياسيّ من دون أن يقصد ذلك) من خلال علاقتي اليومية مع أستاذنا المبجل القاص والروائي محمود عبد الوهاب وعلاقتي الحميمة مع معلمي الأول شقيقي المناضل محمد مسعود كلاهما كانا من قيادي ّالحزب ضمن مجالهما. محمود عبد الوهاب في الحراك الثقافي وشقيقي الخياط محمد مسعود في المجال العمالي، في ستينات القرن الماضي وكان أخي مسجونا في موقف الرباط حين حدث انقلاب 1963 ثم بعد حركة حسن سريع تم ترحيل السجناء الشيوعيين من سجون البصرة إلى (نكرة السلمان).وكان الأستاذ محمود عبد الوهاب مديرا لثانوية المعقل، وذات يوم ونحن في بغداد 1993 أخذني أستاذي محمود عبد الوهاب إلى البيت الذي كان يسكنه مع شقيقته وأشار بعينيه قائلا في هذا البيت تم اعتقالي وتسفيري من بغداد إلى البصرة. وكانت أخت الأستاذ وأمي يلتقيان في يوم المواجهة ويدخلان مع الداخلات والداخلين إلى باحة السجن. من تلاميذ الأستاذ كاظم الأحمدي. الذي سيكون من أشهر الروائيين والقصاصين العراقيين وذكر الأستاذ الأحمدي أنه كان تلميذا في الاعدادية كان فيها محمود عبد الوهاب مديراً ونحن نحتفي بصدور مجموعة(رائحة الشتاء) في حديقة اتحاد أدباء البصرة حين كان مقره في محلة العزيزة. يقول السارد في (أهل النخيل) وهو يتناول زمن الرواية عن بدر الذي هو القاص محمود عبد الوهاب في لحظة كتابته الكلام التالي(هو الآن قد اختار عنوانا موحياً يستطيع من خلاله نسج سرد قصصي يناسب بيئة الحدث : رائحة الشتاء/ 57) للعلم قصة (رائحة الشتاء) اصبحت قصة صالحة للقراءة في شهر آذار 1995 وهذا التوثيق مثبّت في ص 54 من المجموعة القصصية (رائحة الشتاء) ط1/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ 1997 أما قصة(القطار الصاعد إلى بغداد) فهي منشورة في 1953 . يقول السارد (على مقربة من المكتبة الأهلية لصاحبها فيصل حمود في محلة السيمر/ 83) في الأمسية الثقافية التي أقامتها مؤسسة النهضة في شهر أيلول 2017؟ومن خلال مشاركتي صوتيا بالفديو : أن المكتبة الأهلية في بداية تأسيسها كانت تقع في المنطقة التي يوجد فيها الآن جامع البصرة الكبير .وهذه المنطقة يطلق عليها (محلة السيف).. في ص112 وهما يتمشيان فاتن وعلاوي يعود السارد إلى مثابته محلة نظران وحين يقتربان من ثانوية البصرة للبنين: يثبّ المؤلف حاشية أسفل الصفحة جاء فيها(الثانوية التي تخرج فيها الشاعر بدر شاكر السياب وابنه غيلان). نصف الكلام صحيح . أما السياب فقد تخرج من الثانوية المركزية الكائنة للآن في شارع الاستقلال. وأكدنا ذلك بشهود عيان من عائلة الشاعر في برنامج (السياب شاعر النهر النحيل) اشتركتُ في كتابة السيناريو مع الأستاذ عمار السعد لحساب فضائية الشرقية ، قبل أكثر عشر سنوات.في ص179 يحدثنا عن سلوى( تنتبذ سلوى إحدى المصاطب وتدخن سيجارة سومر) المعروف لدينا أن سجائر سومر نزلت للأسوق في منتصف سبعينات القرن الماضي والأستاذ محمود عبد الوهاب، أعني بدر كما هو اسمه في الروايات في منتصف السبعينات كان مفتشا تربويا للغة العربية في المنطقة الجنوبية فقد اعادته السلطات منذ سنوات ليست بالقليلة. بعد أن تعرض للسجن و للفصل عن الوظيفة بسب انتسابه للحزب الشيوعي العراقي لكن السارد يخبرنا بالتالي..(فقرّ عزم شيرين بتشجيع من سلوى على تعيين بدر لإدارة أملاكها بدلا من المحامي المشرف عليها، عندئذ ترك بدر عمله في السينما واستلم وظيفته الجديدة/ 180).. في حاشية ص250 يكتب المؤلف (فهد: هو الاسم الحركيّ ليوسف سلمان يوسف مؤسس الحزب الشيوعي العراقي في 1936) الأصح تأسس الحزب في 1934 وهذا العام بلغ الحزب التسعين. وتاريخ اعدام فهد وحازم وصارم كانت في 14 شباط 1949 الرابعة والنصف فجرا وليس كما جاء في كلام مؤلف الرواية في الحاشية نفسها (14 شباط 1948). وفي (14 نيسان 1948) انعقد مؤتمر أم السباع في بغداد وتم تأسيس اتحاد الطلبة العراقي.
(*)
هذا الجانب الوثائقي يشعره من عايش تلك الفترة فقط. نعم من حق المؤلف الروائي ان يستعمل الخيال في سرده ولكن بمقدار. ومن جانب ثان أن غلبة التوصيف على السرد يتسبب في ترهل النص الروائي ويجعل القارئ يصاب بالملل. من جانب آخر استعاد الروائي جنان جاسم حلاوي بمهارة سردية جميلة محلة (نظران) وجعلها من مدن اليوتوبيا الجديدة.
جنان جاسم حلاوي/ اهل النخيل/ دار الساقي/ بيروت/ 2015