المصالحة الوطنية .. ورقة العراق الرابحة للمساهمة في صياغة نظام إقليمي جديد
ليس أمام العراق سوى الاستثمار في المصالحة، ففي شرق أوسط يستعصي فيه التعايش؛ عليك أن تحمي نفسك وتعزز وضعك الاستراتيجي بتقوية التعايش. من الصعب أن تنتزع حقوق “المكوِّن” في بلدك الذي ينتمي لإقليم تتصارع فيه المكوِّنات داخل البلدان وعبر حدودها. لكنك ستحفظ حقوق المكوِّن حين تكون قادراً على الخروج من القوقعة المكوِّناتية التي وضعت نفسك فيها والانفتاح على الآخرين والشراكة معهم بالاندماج الوطني الحقيقي البنّاء لا بالتلفيق أو التلصيق أو التقارب الشكلي. حين تندمج بالعراق وبالعراقيين الآخرين ستكون أكثر قدرة على تحصين نفسك وصيانة خصوصيتك الثقافية لأنك ستتحول من ردّ الفعل إلى الفعل، من السلبية إلى الإيجابية، ومن تقديم المطالب الفئوية وخوض المساومات عليها إلى تحمّل المسؤوليات الوطنية والتضامن مع الآخرين لتحقيق المصلحة العامة. عليك أن تتحول من جزء من المشكلة إلى جزء أصيل في الحل، فمساهمتك، كعراقي، في بلورة النموذج العراقي للتعايش والتسامح الوطني هو الضمانة الحقيقية لـ”المكوِّن” الذي تنتمي إليه. وتذكر دائماً: لحماية المكوِّن عليك أن تخلع ثوب المكوِّن وترتدي ثوب الوطن، وعليك أيضاً أن تقتلع من عقلك وقلبك اللوثة المكوِّناتية التي تعشعش فيهما. وأن تصرخ بصوت عالٍ لتُسمِعَ نفسك: العراق كله مكوِّني. وكل العراقيين طائفتي.
الجرثومة المكوِّناتية التي في داخلك تعيق حركتك وتكبّلك وتستعبدك. إنها وزرك الذي أنقض ظهرك. المكوِّناتية مرض وعلى كل سياسي ومسؤول وناشط ومثقف أن يعالج نفسه من هذا المرض الخبيث. توقف عن النظر إلى الآخرين باعتبارهم “مكوِّن آخر”. إنهم بشر مثلك، وأنت وهُم تنتمون إلى مكوِّن واحد هو المكوِّن البشري والإنساني والمكوِّن العراقي. توقف عن العيش في الخندق. غادِر الشرنقة. حطِّم سجن المكوِّن. أخرج من زنزانة الطائفة.
الآن: تنفس بعمق واستنشق الكثير من الهواء النظيف واغسل عينيك بضوء الشمس كي تتمكن من رؤية الناس، كل الناس، خارج الخنادق المكوِّناتية المصطنعة.
كنا نعتمد على النفط في تمويل نزاعنا الأهلي وأمراء حروبنا وملوك طوائفنا بكل بلادة واسترخاء دموي مريض. ماذا سنفعل بعد انهيار أسعار النفط؟! ليس أمامنا سوى المصالحة عسى أن يكون في الاستقرار السياسي والأمني فرصة لانتعاش الاقتصاد ليتمكن سائق التاكسي من العمل في شوارع بغداد والموصل وبعقوبة والحلة والبصرة والكوت والديوانية والسماوة والرمادي لا يخاف إلا الله.
يقول الصحافي والكاتب اللبناني غسان شربل في مقالة له بصحيفة (الحياة) اللندنية: “لن تدوم حروب الإقليم إلى الأبد. ستأتي ساعة يجلس فيها المتحاربون والمتنافسون إلى طاولة للبحث في شروط الأمن والاستقرار. عندها سيطالب كل طرف بالاعتراف له بدوره وموقعه ومداه الحيوي استناداً إلى الأوراق التي جمعها خلال فترة المبارزة في الإقليم”.
فما الورقة التي يمتلكها العراق؟! في ظل الصورة التي تكرّست عنه كأرض محروقة تدور عليها كل معارك وحروب التاريخ والعقائد والهويات، وتداعي أسعار النفط؛ مصدر الدخل الوطني الوحيد، والانهيار الأمني الرهيب، والكارثة الإنسانية والاجتماعية، والأدوار الإقليمية المتعاظمة على أرضه، والمستقبل المجهول؟!
ليس أمام العراق سوى المصالحة الحقيقية في الداخل؛ ليكون نموذجاً للآخرين وليمتلك ما لا يمتلكوه. لدى الآخرين في الشرق الأوسط القوة والاستقرار النسبي والدولة العميقة والأموال والسيادة والتحالفات الدولية والأذرع المسلحة والإعلامية وليس لدى العراق غير القوة/الثروة الأخلاقية للاستثمار فيها، قوة المصالحة والتضامن، قوة التعايش والإصرار على العيش.
أن نعيش سوية كعراقيين ذلك هو التحدي .. وتلك هي الفرصة.
قدرتنا على أن نعيش في شرق أوسط يموت فيه الجميع هو بديل تنموي حقيقي يمكن أن يساعدنا على تجاوز محنة تراجع أسعار النفط. المصالحة ستمنحنا الأمن والاستقرار، والاستقرار سيمنحنا فرصة للعيش. لقد عشنا بالنفط وقت انعدام الاستقرار، فلنعش بالاستقرار وقت تراجع أسعار النفط!
لم يعد التعايش ترفاً كما كان بالأمس يوم كنا نمتلك نفطاً ثميناً مُربحاً يُغني العراقي عن النظر في وجه صاحبه العراقي الآخر، بل صار التعايش اليوم حاجة أساسية لتعويض خسائر النفط الرخيص. ببساطة: علينا أن نتعايش لنعيش!
قدرتنا على التضامن السياسي والاجتماعي .. قدرتنا على أن نتحلى بالمسؤولية وأن نتخلى عن التطاحن المكوِّناتي الذي يسحق الأمل والمستقبل. قدرتنا على إسكات الموتورين والطائفيين. قدرتنا على أن نحتضن هذا الوطن المرتجف هي الثروة الحقيقية في هذا الإقليم الذي يعاني من الصقيع الإنساني والأخلاقي.
المقامرة المكوِّناتية ينبغي أن تتوقف. ولعبة “الروليت” الطائفي القاتلة يجب أن يكون لها نهاية.
لدى الإيرانيين تأثيرهم الإقليمي “الثوري” في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن بالإضافة إلى الملف النووي. ولدى الأتراك نموذجهم الصاعد وعلاقتهم بالأميركان ودورهم الإقليمي. ولدى السعودية ثقلها الدولي والإقليمي و”عاصفة الحزم” بما تتضمنه من أبعاد استراتيجية وجيوسياسية وقدرة على التحشيد العربي والدولي. ولدى النظام السياسي المصري شرعيته العربية/الخليجية ودوره في التوازن الإقليمي الاستراتيجي وقواته المسلحة التي يعتمد عليها في تسويق نفسه في المنطقة. فماذا لدى العراق ليبقى ويقاوم ويعيش؟!
يؤكد شربل في خاتمة مقالته على ما بدأها به فيقول إن حروب الشرق الأوسط الرهيب “لن تدوم إلى الأبد. ولا بد من امتلاك أوراق فعلية للمشاركة في رسم ملامح النظام الإقليمي الجديد”.
التعايش المشترك والقدرة على إدراك قيمة السلم الأهلي هي الورقة التي يمتلكها العراق ليطرح نفسه من جديد كرقم صعب في المعادلة الإقليمية والدولية وليقدم أوراق اعتماده كدولة تستحق الاحترام ومجتمع يستحق الحياة. هذا التعايش سيمنح العراق ميزة تنافسية على المستوى الإقليمي وسيمنحه في الوقت نفسه قوة على المستوى الذاتي لأنه سيُهيِّئ الأرضية اللازمة للانتقال من نموذج النظام السياسي القائم على “التجميع اللصقي للطوائف في إطار دولة هشة”، كما يسميه الصحافي والكاتب العراقي محمد عبد الجبار الشبوط في مقالة سابقة له بصحيفة (الزمان) العراقية، إلى نموذج النظام السياسي القائم على الاندماج الاجتماعي الصريح والتضامن السياسي الفعلي ومفهوم المواطنة والوئام الوطني الحقيقي.