الوأد معروف وهو دفن الطفلة المولودة حية , وذلك سلوك قديم عند العرب , نهى عنه الإسلام بالقول ” وإذا الموؤدة سُئِلت بأي ذنبٍ قتلت” .
والوأد سلوك بشري لا ينحصر في التعريف المتعارف عليه , وإنما يشمل مناحي الحياة المختلفة ومفرداتها الفاعلة فيها ومنها العقل.
وتوضح القراءة السلوكية لواقع بعض المجتمعات المتمنحنة بويلاتها أنها تعاني من ” الوأد العقلي” , أي أن عقلها قد تم دفنه في تراب الأضاليل والأكاذيب وأصبحت مجتمعات بلا عقل , أو أن عقلها معطل أو مستقيل أو منوّم ومحكوم عليه بالعطب.
ولا يمكن لكلام عاقل أن يجد له آذانا صاغية في مجتمعات بلا عقل , فما يحصل في هذه المجتمعات لا يمكن بأي حال من الأحول فهمه إلا بالتسليم بأنها موؤدة العقل.
ووأد العقل يمكن إنجازه بسهولة في الزمن المعاصر , لتوفر الوسائل الكفيلة بأخذ كل شيئ من البشر وبسرعة قياسية وبأساليب متنوعة , خصوصا عندما يتم وضعه في مستنقعات الخوف والرعب والتهديد , ومصادرة وجوده الآمن وإشاعة القلق والرهبة في أيامه , وحرمانه من أبسط الحاجات الأساسية للحياة , ومن حقوقه الإنسانية , ومنعه من المطالبة بحقه الطبيعي البسيط خشية أن يناله عقاب صارم , أو تحل به نكبة نكداء.
ويبدو أن مجتمعاتنا تعاني من مصائب وأد العقل , لأن ما يحصل فيها من تفاعلات متوحشة وتداعيات إفتراسية مروعة لا يمكن تفسيره إلا بذلك , فلو حضر العقل لما وصلت أحوال الناس إلى ما إنتهت إليه من البلاء المستطير.
وفي التأريخ الشعوب والأمم تمر بمراحل سوادء تمنح فيها العقل إستقالة أو إجازة , وتترك العواطف والإنفعالات على هواها فتتناوبها الملمات , وتقضي على وجودها الصراعات والتفاعلات الداميات , التي لا تجد لها مبررا معقولا , سوى الإنتماءات البليدة الحمقاء لهذه الحالة أو تلك من المعتقدات والتصورات , التي تصبح ذات قدسية وإمتلاكية لمصير البشر , الذي حولته إلى ملكا مشاعا لها , وبهذا تدفع به إلى حيث تشاء , ويريد أدعياؤها المتاجرون بالبشر والدين , والذين يسيسون كل معتقد وتصور ومنهج ورؤية , وينقلونها إلى فضاءات المقدس والمحرم الذي لا يمكن النظر فيه , وإنما الإيمان المسبق والمطلق به والإذعان للأوصياء على إقامته وإستعباد الناس به.
والأمثلة متكررة ومتراكمة في أوربا وآسيا وأفريقيا وغيرها من القارات والمجتمعات , التي أصابتها نوبات الوأد العقلي , وخيم عليها الضلال والبهتان , وإفترسها البشر المقنع بما يبرر مأثمة ومصادرة العقول , ودفنها في تراب الهذيانات والأوهام.
ويمكن القول في هذا الحضم التصارعي الإمحاقي الدامي , أن العقل موؤد وأن الوائدين يمارسون حرية التصرف بمصير المجتمع والأجيال ويحرقونهم في مواقد الوعيد , التي يعدونها بتعاونهم مع التابعين لهم والمتنفذين على مناصبهم وأدوارهم المرسومة بإحكام.
ولكي يتحرر المجتمع من هذه الغيبوبة العقلية , عليه أن يعي الواقع المعاصر ويتفاعل معه بقدرات علمية ومنهجية وثقافية منيرة , ذات تطلعات حياتية ومنطلقات حضارية ذات قيمة جامعة , ومساهمة في صناعة ما هو أفضل وأجمل.
ولا بد من الخروج من قمقم المعتقدات والإنتقال إلى فضاءات الآراء والحوارات , والتفاعلات الإيجابية البناءة اللازمة لسبك الوجود المجتمعي في بودقة كيانية , ذات مردودات طيبة على جميع عناصر السبيكة الإجتماعية.
فهل ستتحقق اليقظة العقلية وهل سنتساءل بأي ذنب وأدنا عقلنا؟!!