الصراعات في المنطقة هي عبارة عن صراعات هويات في طريقة من طُرق النظر إليها ، فحين وضع (صموئيل هنتنغتون) مؤلفة حول صدام الحضارات كان ينظر للصراع القادم من زاوية الهوية الثقافية، وإن كنا لا نتفق معه في استعداء العالم الاسلامي ، إلا أنه وضع إطارا هوياتيا يجرد فيه سلاح القوى لمواجهة حرب مخترعه جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.
لم يبتعد المشهد كثيرا في سوريا اليوم[1]عن اطار مواجهات مفتعلة بمنطق (صدام الحضارات) حيث يتم تكثيف الحضور لما تم تجاوزه أو حله فيُعاد بعثه وإشغال الأمة فيه لتبقى إلى الأبد في حالة صراع وهويات متقاتلة.
ثلاثة صراعات
ثلالة صراعات كبرى دارت في عالمنا العربي-الاسلامي عبر التاريخ، وهي اليوم تعود في إطار جديد ، ففي حين نشبت الحرب الأولى في التاريخ الاسلامي على المُلك والسلطان والحكم والشرعية، فإنها لقرب عهد بالإسلام سرعان ما اتخذت شكلا دينيا طائفيا ، أي أن الصراع السلطوي– السياسي الذي لم يستطيع مشعلوه أوالمتسببين به أن يفهموه خارج نطاق العقيدة أدى بهم أو برغبة منهم لإضفاء القداسة على كل مكوناته فأصبحت الحرب والصراع وقيمه ومفاهيمه تأخذ طابعا مذهبيا، وإن كان حقيقة الحدث أنه خلاف أو صراع سياسي سلطوي اقتصادي على الموارد بحت تتداخل فيه الشرعية واختلاف الأفهام مع تعقد المسارات وتداخل المصالح.
بعد ان استقر الصراع بشكله المذهبي أو السياسي المحمول على المنصة الدينية المذهبية افترق المتصارعون بين الأسر(القبائل أو العائلات الحاكمة) الكبيرة التي تقاتلت لصون استمراريتها في الحكم ، حيث استُخدم الفهم المحدد للدين لاقتسام السلطان،أو افتراض شرعيته المرتبطة بالأسرة أو القبيلة فأصبح لدى الشيعة بطوائفها المتعددة وانشقاقاتها التاريخية أن الإمامة محصورة في الأسرة العلوية، وأصبح الفقه السني يحدد الخلافة ضمن شروط مختلفة مرتبطا بالنسب العربي القرشي كشرط لا محيد عنه. [2]
وحديثا تعود دولة إيران للعب الورقة الطائفية المذهبية المحمولة على كتف السياسي كما يقول الكاتب خالد بن ققة إذ أنها برأيه تقوم ب: (تحويل القومي الوطني لديها إلى دافع مذهبي داخل دولنا العربية، حيث تطرح الدين كمنطلق لنصرة المستضعفين في مواجهة «استكبار» تراه في الأنطمة العربية الحاكمة، مع عملية فرز لتلك الأنظمة، فهي لا تشمل من يدور في فلكها، ولا من يؤيِّدها أو يُهادنها، والتعامل معها متغير وليس ثابتاً، ويمكن القول: إن هذا المسار يجمع بين السياسي والأيديولوجي والعقائدي، وهو خاص بالتابعبن لها بشكل مباشر، أو أولئك الذين تعتمد عليهم لترجيح الكفة لصالحها، وخاصة في دول الجوار العربي.)[3]
سارت المجتمعات والممالك في الشرق والغرب على قاعدة الاحتراب والسلام المرتبط بتمكين العائلة أو القبيلة أو الحاكم “المتغلب” ضمن منطق التوريث ، إلى أن برزت في الفكر الانساني بعد تطور طويل ظهور الفكر المدني والدولة الحديثة لتصبح الصراعات بين دول ناهضة وتلك الآفلة.
الصراع المحمول
ابتدأ صراع الهويات سياسيا محمولا على منصة الدين،فبرزت الطائفة/المذهب، ثم ظهر الصراع على السلطة لتحقيق مصالح القبائل والعائلات وفي الشكل الثالث للصراع كانت تتصارع الدول / الأمة بحسب ما تتحصل عليه من قدرات وإمكانيات وثروات وبقدر ما تحركها المطامع الاقتصادية والاستعمارية أو الطموحات للتفوق والمجد.
في صراع العائلات والقبائل لم يكن للقوميات شأن كبير، كما لم تكن الأوطان بشكلها وفهمها الحالي قد ظهرت بمعناها الذي أصبح معرفا لدينا، فكان الولاء والانتماء للمذهب أو للسلطان أو للمذهب المرتبط بالسلطان، أو للقبيلة / العائلة المرتبطة بالسلطان او للدولة / الأمة المحققة لمصالح الحكم او الشعب في المرحلة المتأخرة من التاريخ الانساني.
في الصراعات العائلية (الأسر الحاكمة) دمجت الهوية بالولاء للسلالة الحاكمة وأصبحت حتى الدولة تعرف بالأسرة (الدولة الاموية-العباسية-العثمانية-الطولونية-الاخشيدية-الصفوية-…الخ).[4]
يرى المفكر السوري عزيز العظمة في كتابه الألماني “أسلمة الإسلام” أن كلمة دولة في التجربة الإسلامية [5]تعني نوعا خاصا من الترابط الوراثي،أي ملكية السلطة والقوة داخل أسرة واحدة، ولم ترد كلمة “دولة” إلا في مجال التأريخ للأسر الحاكمة (ص63) .
ويلتقي هذا الرأي مع تعريف المؤرخ المغربي عبدالله العروي لكلمة دولة في كتابه الماتع الشهير “مفهوم الدولة” بأنها “الجماعة المستقلة بالسلطة المستأثرة بالخيرات وتعني في نفس الوقت الامتداد الزمني لتلك الاستفادة” (ص 89)، أي أن لفظ الدولة يعني الأسرة الحاكمة وكذلك فترة حكمها،فعندما نقول الدولة الأموية نعني شخوص أسرة الأمويين الحاكمين،أو فترة حكمهم.
بينما يقول الكاتب د.عاصم حنفي أن : (فكرة الدولة الوطنية ليست من الأهداف التي سعى إليها الفقه والفكر الإسلامي السياسي، حيث لم يربطا الأرض بشعب بعينه ذي روابط حضارية وثقافية ودينية ولغوية معينة، ولكن ربطاها بالدين والدعوة إليه، ومن ثم جاء التقسيم العام للأرض إلى “دار إسلام” و”دار حرب”، ولم يتحدثا عن شعب ذي خصائص معينة انطلاقا من قواعد الاجتماع البشري، ولكن عن “أمة” رابطها الوحيد هو العقيدة الإسلامية دون وطن جغرافي محدد.)[6]
لقد تطور مفهوم الدولة كما مفهوم الهوية في التاريخ بشكل جذري ، سواء قصدنا بها الهوية الفردية أو الهوية الجماعية.
في الهوية الجماعية تبلور عبر الزمن معنى (الوطنية) في اطار حدود الدولة المحددة بغض النظر عن مكونات الشعب سواء من حيث المذهب أو الدين أو القومية أو العشيرة .
الهوية الذاتية والجماعية :
الهوية الذاتية هي مفهوم الشخص وتعبيره عن ذاته وعلاقاته بالجماعات، أي كيف أنا لا أشبه الآخر،وتمثل الهوية مجمل انتماءاته المتعددة في المجتمع.
وفي ذات الشخص كهوية يمكننا أن نعرض الهوية الشخصية (بطاقة التعريف)التي تضم الاسم والعائلة والميلاد والأم والصورة، وربما الفوارق الخاصة، وكما في بعض جوازات السفر أيضا، ولنا كفلسطينيين أيضا إبراز بطاقة اللاجئين التي تشكل هوية، بينما أصبحت هوية الشخص الحقيقية أو المقنّعة يعبر عنها بالنُبذة (البروفايل) على (فيسبوك) أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعي.
الهوية الجماعية هي مشتركات الجماعة (المجتمع المنظم / الأمة / الشعب) والهوية الجماعية هي الإناء أو الوعاء الوطني الكبير الذي يحقق من الشروط ثلاثة على الأقل هو أنه (يعترف، ويوثّق أو يمتّن، ويستوعب).
يقول د.سمير الخطيب[7]: الهوية هي مجموع الرموز والصفات المشتركة بين أعضاء أية مجموعة، وهذه الرموز تعبر عن أفكارها وعواطفها وقيمها وتطلعاتها وكافة أشكال سلوكها, أن الهوية تتمثل في ثلاثة أطر، تبدأ بإطار الفرد كذات مستقلة وتمثل هويته الشخصية المتمايزة عن غيره بشكل أو بآخر، وتنطلق نحو الهوية المجتمعية التي تصبغ مجتمعا بعينه بقيم وسلوكيات ، ومنظومة حياة مختلفة عن المجتمعات الأخرى.
ويضيف د.الخطيب: وقد تكون هذه الهوية إما الهوية العائلية أو هوية الحي وتتسع إلى أن تصبح هوية القرية أو المدينة التي يسكنها أو إلى منطقة جغرافية محددة لتمييزها عن منطقة أخرى فهناك مثلا هوية قرية أو مدينه معينه تختلف عن هوية قرية أو مدينة أخرى أو هوية الجليل وهوية المثلث،لتصل إلى الهوية القومية أو الوطنية الجامعة.
الهوية الوطنية :
هذا الوعاء الوطني الكبير (يعترف) بكل مكونات وطوائف المجتمع دون تمييز أو تفضيل ما كان قديما يميز علاقات المكونات المختلفة ضمن الكيان السياسي، والاعتراف هذا يخلق كيانا واحدا لا يلغى ولا يشطب ولا يُقصي الآخر ، وهو وعاء كبير(يوثق) العلاقات ويقربها من بعضها البعض، بايجاد المشتركات في إطار الثراء المرتبط بالتعددية، وهو بذلك يقبل عن طيب خاطر و(يستوعب) كل الثقافات الجزئية بحيث أنه يشكل بينها نقاط تلاقي وارتكاز وانطلاق مشترك.
إن الهوية الوطنية تمثل أيضا “الدستور غير المكتوب” المتجسد بالنفوس لأبناء الوطن ، إن الهوية الوطنية كيان جامع، وأيضا شعور بالانتماء للأمة ، وهي تعطي الشعور بالتجانس والتناغم من حيث وحدة أو تشارك العادات واللغة والثقافة ضمن (المجتمع السياسي) ذو المعالم والحدود الجغرافية.
يقول د.سمير الخطيب[8] حول بناء الهوية قياديا برأيه: (يجدر التنويه أن الهوية الفردية أي الشخصية تختلف اختلافا جذريا عن الهوية الجماعية فالأولى مكتسبة وديناميكية ومتغيرة باختلاف الزمان والمكان أما الهوية القومية فهي مصقولة وموجهة يتم بناءها عبر توجيه القيادة والاستراتيجيات المفروضة التي يعبأ الفرد بها وآخر أنواع الهوية هي الهوية الإنسانية، التي تلتقي فيها هوية الأفراد والمجتمعات عند قضايا إنسانية تغيب فيها حدود الدول المجتمع والذات) .
استطاع مفهوم الهوية الوطنية أن ينقل الناس عبر مسار طويل في التاريخ من مفهوم (الرعية) أوالأتباع المرتبط بالملك أو السلطان أو الأمير أو الحكم إلى مواطنين أحرار متساوين.
يرى الدكتور محمد عابد الجابري أن موضوع الهوية شديد الحساسية والدقة، لأنه تتداخل عند تناوله عدة عوامل، المعرفي بالسياسي والذاتي بالموضوعي، مع طغيان البعد الأيديولوجي، لأنه غالبا ما نجد إصرارا من قبل بعض النخب المتغربة على إلحاق الثقافي والفكري بالسياسي، فيترتب تبعا لذلك أن يصبح الفكري في خدمة السياسي، وحينها تصير الهوية الثقافية تابعة للهوية السياسية. [9]
يضيف كما ينقل عنه الكاتب مصطفى حضران: وبالتالي أداة طيعة للتوظيف السياسي كلما ظهرت الحاجة ودعت الضرورة لذلك، الأمر الذي جعل الهوية ترتدي لبوس السياسة عنوة وتصبح معول تفرقة، بدل أن تبقى عاملا للوحدة والاتحاد، على اعتبار أن الهوية تمثل المشترك بين فئات المجتمع، وتُساهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد والتمايز عن غيرهم، ترتب على ذلك تهميش الهوية وتحميلها أوزار العبث السياسي، لذلك أصبحنا ننظر إليها على اعتبار أنها سبب الأزمة عوضا عن النظر على أنها إحدى نتائجها.[10]
الهوامش:
[1]تتصارع القوى الكبرى والقوى الاقليمية بمصالحها كما يتصارع النظام القمعي الاذلالي مع وحوش التنظيمات الاسلاموية المتطرفة على جسد الشعب السوري، فيما المستفيد الاول والاكبر هو العدو الصهيوني.
[2] لدى غالب الشيعة أن الامامة سواء لدى الطائفة الجعفرية الاثنى عشرية، أو الزيدية، أو العلوية النصيرية أو الاسماعيلية ركن ديني وترتبط بأشخاص (مقدسين) كلهم من العائلة العلوية المرتبطة بفاطمة والحسين بن علي دون الحسن اخيه او اخوانه الآخرين، وأسبغ على السلسلة قداسة نابعة من الدين. وفي الفقه السني الى عهد قريب كان النسب القرشي أساسا للحكم، وحاليا كثير من التنظيمات المتطرفة تعود للوراء بهذه النقطة، فيما ان الاسلام بفهم السنة لا يعتبر الخلافة ركنا من اركان الاسلام. لكنن التنظيمات الاسلاموية وعلى رأسها الاخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الاسلامية في باكستان يعتبرون “الخلافة” ركنا أي كالصلاة والصيام…الخ.
[3] من مقاله بعنوان: الاختراق الايراني وعرب افريقيا، في موقع (نقطة واول السطر) على الشابكة 6/4/2017
[4] أنظر سلالات الحكم في الامبراطوريات القبطية (المصرية) والصينية واليابانية وكذلك الفارسية والرومية الأوربية، حيث كان النظام عالميا وليس مقصورا على منطقتنا.
[5] أنظر د.عاصم حنفي في موقع (المصريون) ومقاله: تجديد الخطاب الديني: الإسلام والدولة
[6] د.عاصم حنفي، المصدر السابق.
[7]عن مقال للدكتور سمير الخطيب تحت عنوان: النكبة والهوية الفلسطينية في موقع بكرا على الرابط http://www.bokra.net/Article-1133240
[8]د.سمير الخطيب، المصدر السابق.
[9]يقول الكاتب د.عاصم حفني في مقاله بصحيفة (المصريون) بتاريخ 6/4/2017 (لغويا لم يعرف الفقه الإسلامي السياسي مصطلح الدولة بمعنى شعب متعدد الديانات والأعراق، يعيش في أرض ذات حدود، ويخضع لنظام حكم سارٍ على كافة أفراده دون تمييز، فمصطلح الدولة كان يستخدم في تجربة الحكم الإسلامية وكذلك في أدبياتها دلالة على الأسرة الحاكمة مثل الدولة الأموية والدولة العباسية ودولة هارون الرشيد، وكلمة دولة مشتقة من فعل الدوران والتعاقب أي التداول، بمعنى أن الأسر الحاكمة تتداول الحكم فيما بينها)
[10]عن مقال سؤال الهوية للكاتب محمد حضران في صحيفة هسبريس المغربية 28/3/1018