في زوايا التاريخ المنسي، وفي صفحات المعاناة التي لم تُروَ كاملة بعد، تقف الجماعة الشيعية العربية في العراق شاهداً على واحدة من أكثر التجارب تعقيداً وتشظّياً وتشرذما في الذاكرة التاريخية والحديثة… ؛ هذه الجماعة، التي تشكّل الغالبية السكانية في العراق فضلا عن جنوبه و وسطه ، لم تُنصف لا من الأعداء ولا من الأبناء – ولا من الاصدقاء ان وجدوا -، وظلت تتأرجح بين استغلال الطغاة وابتزاز الساسة ورجال الدين وشيوخ العشائر , واحتواء الطقوس الشكلية والعادات والتقاليد البالية , ومع كل جولة سياسية أو دينية أو عسكرية، يُستحضر وجعها العتيق ويتكرر استغلالها القديم الجديد .
الخط المنكوس ومعاداة الأصلاء
أن الخط المنكوس واتباعه ؛ خط غامض ومعقد اذ يتقاطع فيه الداخل مع الخارج، والعميل مع الجاهل، والمندس مع الساذج , والتاريخ بالحاضر … ؛ و هذا الخط لا يضمر سوى العداء للعراقي الأصيل، وبالأخص من أبناء الأغلبية الشيعية العربية… ؛ الا انه لا يُظهر عداوته بشكل مباشر، بل يتقمص هيئة النصيحة والتدين والحرص تارة ، ويدعي الوطنية والقومية العربية تارة اخرى… ؛ بينما ينفذ خططاً غايتها تحطيم وعي الفرد العراقي الاصيل , وتفكيك البنية النفسية والاجتماعية للأغلبية العراقية الاصيلة .
تحت هذا الغطاء، تروّج منظومات كاملة لبرامج تسطيح وتجهيل، تدفع باتجاه صناعة مجتمع منفصل عن واقعه، مستغرق في مظاهر حزنه، منعزل عن أدوات النهضة، مهجوس بالتكرار لا بالتجديد، وبالشكليات لا بالمضامين.
طقوس محبطة ونهضة مؤجلة
من المفارقات المؤلمة أن يتحول الحزن إلى منظومة يومية، تلتهم أيام السنة بأكملها دون فسحة فرح أو تجدد او استراحة … ؛ ففي كل شهر مناسبة حزينة، وفي كل حيّ مأتم، وفي كل زاوية مجلس لطم وتطبير … فضلا عن المناسبات الاجتماعية والعادات والتقاليد التي أكل الدهر عليها وشرب … ؛ هذه الطقوس الدينية والتي يُفترض بها أن تكون محطات روحية وتأملية وتنموية ، تحوّلت إلى وسيلة خفيّة لتعطيل الإنتاج والعلم والعمل ولتبذير الاموال والموارد الاقتصادية ؛ حتى أصبحت المدن خاوية، والجامعات فارغة، والمصانع متوقفة، والشباب غارقاً في القبور قبل أن يدفن فيها... ؛ حتى وصل الامر بالبعض ان يستجدي المال من هذا او ذاك لأجل اقامة المناسبة الدينية والاجتماعية …!!
وبدلاً من النهوض بالتعليم والصناعة والزراعة والسياحة والتجارة والتقنية والتكنولوجيا ، بات قسم كبير من أبناء الأغلبية أسرى للكافيهات والمقاهي والأراجيل والمخدرات واللطميات والاغاني والاناشيد والهوسات ، أو عالقين في دوامة اللاجدوى، يلاحقون أخبار المناسبات والبطولات الرياضية والموضات الغريبة، ويمنحون أموالهم للغرباء والاجانب تارة باسم “الكرم الديني” واخرى بذريعة الكرم القبلي وثالثة بحجة البذخ العراقي … ؛ بينما لا يجد فقراؤهم قوت يومهم ولا مرضاهم ثمن علاجهم ؛ ناهيك عن ان مدنهم وقراهم ومناطقهم تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة وتنعدم فيها الخدمات الضرورية …!!
تشويه الاقتصاد وتبديد الموارد
بخلاف ما تدعو إليه النصوص الدينية والسيرة العقلانية من عقلانية وتوازن في الإنفاق وترشيد الاستهلاك ، تم توجيه الأغلبية الشيعية نحو تبديد أموالها وطاقاتها وجهودها في مناسبات متكررة ومبالغ فيها، بحجج دينية قد يغلفها الغلو والادعاء المشبوه والمشكوك فيه , وعادات اجتماعية مزيفة، في حين أن الجهات والشخصيات التي تسوّق لها هذه الطقوس تكنز الذهب والفضة وتحسب للدينار ألف حساب وتوصي ذويها بالبخل والتقشف والاقتصاد والاستثمار …!!
هذه الازدواجية ليست عبثية، بل مقصودة وممنهجة؛ غايتها جعل العراقي الأصيل معوزاً وفقيرا وتابعا وذليلا ومتأخرا ومريضا وعاطلا …؛ و غير قادر على المبادرة أو الاستقلال الاقتصادي، ولا يملك إلا اللطم والتظاهر والصياح كوسيلة للاحتجاج، وليس لديه مشروعاً للبناء والتقدم والاعمار والازدهار والاكتفاء … .
التحكم بالذات الجمعية عبر الدين والتقاليد والاعلام المنكوس
عمل الخط المنكوس، عبر الإعلام والقيادات المزيّفة، على صناعة نوع من التدين الشعائري الفارغ، مرتبط بالحزن والمبالغة في العزاء، ومفصول تماماً عن قيم العمل والنهوض والكرامة… ؛ وتم تعزيز هذا الخط بتقاليد عشائرية جامدة، وعادات اجتماعية متخلفة وظواهر سلبية هابطة ، تتناقض أحياناً حتى مع القيم الدينية الأصيلة بل والقوانين الوضعية والحياة المدنية ، فصار الناظم الاجتماعي والديني هو الجهل والخوف والتفكك لا الفهم والعدل والتضامن .
ومع كل هذا، ظل أبناء الأغلبية، بحسن نية أو بسذاجة، يسلّمون رقابهم لزعامات لا تحسن إلا المتاجرة بمآسيهم، ولا تجيد إلا بيعهم باسم الدين، أو باسم المقاومة أو باسم السياسة ، أو باسم “المظلومية الأبدية”.
تشتيت النهضة وبناء الدولة المعكوسة
أراد أبناء الأغلبية أن يبنوا دولة بعد سقوط الاستبداد ونظام الدكتاتورية والطائفية المقيتة عام 2003، لكن سرعان ما أحاطت بهم الذئاب الخارجية والضباع الداخلية من كل حدب وصوب : عملاء الخارج، بقايا النظام البائد والبعث ، فلول الارهاب , شراذم الجريمة المنظمة , فصائل منفلتة، ومرجعيات هلامية لا تملك رؤية وطنية ؛ فضلا عن قوى الاحتلال والاستكبار والانظمة الإقليمية الحاقدة … ؛ فبدلاً من تشكيل حكومة قوية، جاءت حكومات رخوة ضعيفة ، وبدلاً من ظهور قادة عظام، صعد الأميّون واللصوص والانتهازيون والفاسدون والفاشلون والمنكوسون .
وقد جُعلت الأغلبية الشيعية، وهي صاحبة الأرض والثروات والعدد، بلا مشروع واضح، ولا مؤسسة متماسكة، ولا نخب فكرية مؤثرة , ولا هوية جمعية جامعة , ولا مكاسب ومناصب وارباح تتوافق و ثقلها وحجمها وتضحياتها الوطنية واستحقاقاتها التاريخية … ؛ و كل من يحاول النهوض يُتهم بالخروج عن الطائفة والمروق عن الدين والملة ، وكل من يحاول التنظير لبناء دولة عصرية قوية وحكومة مواطنة سليمة ويطالب بحقوق الاغلبية يُخوّن، ويُقصى، ويُحاصر , ويتهم بالطائفية والرجعية والظلامية .
نهاية مفتوحة أم بداية جديدة؟
يبقى السؤال: هل كُتب على شيعة العراق العرب أن يبقوا أسرى لطقوس وعادات لا ينتجون منها إلا الدموع والعويل ؟
وهل قدَرهم أن يُداروا من الخارج، وتُصادر أصواتهم من الداخل؟
أم أن الفرصة ما زالت قائمة لإعادة الاعتبار للعقل الجمعي، واسترداد الهوية الوطنية والإنسانية والدينية الصحيحة للأغلبية العراقية ؟
لن تنهض الأغلبية إلا إذا تخلت عن الخوف والسذاجة والتردد والكسل والضعف ، وكفّت عن العبث بالزمن وعن الاتكالية ، وأمسكت بزمام عقلها الجمعي لتعيد بناء ذاتها من الداخل، على أسس من الوعي، والعلم، والكرامة، والحرية.
ملاحظة ختامية:
هذه المقالة لا تُدين الطائفة الشيعية او رموزها الدينية او شعائرها المذهبية بقدر ما تركز على بعض السلبيات التي احاطت بالأغلبية العراقية والتي تُحاول أن تُفرغ هذه الاغلبية العراقية الشيعية من طاقتها ومشروعها النهضوي… ؛ فهي دعوة للتفكير، لا للتكفير، وإشارة إنذار لمن لا يزال يعتقد أن الخلاص يمكن أن يكون بالخطب الطوباوية والشعارات المثالية والادعاءات الخيالية والبرامج المزيفة… ؛ من دون وعي سياسي أو دولة مدنية أو حكومة قوية أو حقوق إنسانية أو معرفة علمية أو قواعد جماهيرية متعلمة و وطنية .