هناك أسباب كثيرة يطول شرحها هي التي دفعتني إلى تقديم استقالتي من منصب أمين بغداد، ومن أي عمل سياسي أواخر عام 2012 ، حينها كتبت الاستقالة برغبتي ، وبإرادتي ، ولم يطلب أحدّ مني فعل ذلك ، كنت حُرّاً تماماً ، حتّى أنني لم أقم باستشارة أي شخص قبل أو أثناء أو بعد قرار الاستقالة وترك المنصب .
لم استقل من منصبي بطراً، فأنا تأكدت تماماً أثناء عملي أميناً لبغداد ، أن من يعمل باندفاع واخلاص وشجاعة، ويباشر بإنشاء مشاريع جدية وكبيرة تليق بعاصمة عظيمة مثل بغداد، يحاربه الكثيرون ويحاولون عرقلة عمله ، ليس هذا فحسب ، وإنما على من يعمل بكدٍّ وجد أن يواجه تحديات شرسة ، ومحاولات تسقيطية مبنية على التهم الكيدية ، وبذلك يتحوّل أي إنجاز إلى تهمة !!
ليس لأن الإنجاز يعاني من نقصٍ ما ، بل لأنّه وقف بالضدّ من مصالح حزبيين وسياسيين يريدون امتصاص المال العام ، وبناء المشاريع الوهميّة ، وترك الناس يعانون من نقص الخدمات .
بعد مغادرتي المنصب بزمن ، سُئل أحد الذين هاجومنني بشراسة لماذا هاجمت صابر العيساوي ، وحاولت التشكيك بهذا العقد أو ذاك المشروع ؟!
فأجاب : انني لم التق بالعيساوي يوما ، ولم اطلع على المشاريع التي نفذها ، ماكنت افعله هو محاولات تسقيطية بناء على توجيهات من جهة معينة !
على هذا الأساس، لم أتردّد بتقديم استقالتي ، لأنّي توصلت إلى قناعة أن استمراري في منصبي لا يعني شيئاً سوى الجلوس في المكتب كل يوم من دون النهوض بالمهمة التي عاهدت على النهوض بها بأمانة واخلاص ، وتصدّيت لنهّابي المال العام من الذين يدعون الحرص على أموال العراقيين.
تجربتي في أمانة بغداد ، والحرب التي كانت تشنّ عليّ بسبب محاربتي للفساد والفاسدين ، والوقوف ضد مصالحهم ، دفعتني أيضاً إلى ترك منصب مستشار رئيس الوزراء الذي عُيّنت فيه حديثاً، وحينها قررت أن لا أباشر بهذا المنصب نهائياً ، وقد اعتزلت كل شيء بما في ذلك العمل السياسي .
لقد شعرت بألم عميق مما جرى الم دفعني الى الأعتزال والانكفاء على نفسي مترفعا عن كل الصغائر التي تدور حولي .
لقد وصل بي الحال الى التسامي والتعفف عن الرد على كل من تجاوز علي في وسائل الإعلام ، أو في مواقع التواصل الاجتماعي ، لم أكن أريد الدخول في مهاترات لا نهاية لها ، وحتّى أني لم أقم بتفعيل صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة لشرح وجهة نظري ، أو لتقديم وشرح إنجازاتي ، التي قدمتها لخدمة اهالي بغداد الكرام ، ولم أردّ حتّى على الأكاذيب التي كيلت ضدّي ، وهي لا تمت إلى الواقع بصلة .
لقد اكتشفت مؤخرا ان صمتي هذا كان خطأً كبيراً ، وهو الذي أدى إلى تعرضي لظلم مبين ، وتشويه سمعة متعمدّ ، لقد ظلمت على مرأى ومسمع وبقبول ممن يدعون التدين والوطنية ، وبقبول شخصيات منهاجها النظري فرض العدل والانصاف ، غير أنّهم فعلياً بعيدون كل البعد عن الدين والانصاف والعدالة .
لأعوام طويلة صدقّنا بهؤلاء الأشخاص وبخطاباتهم ، لكننا كنا مخدوعين بهم ، ويجب أن اعترف بأنني اول من خُدع بهؤلاء وصدقهم !!
إن هدفي كان النأي بنفسي عن هذا المستنقع الآسن المليء بالفساد والكذب ، والذهاب إلى العيش مستقلاً بعيداً عن السياسة والمناصب التنفيذية .
توّهمت بأن (هروبي) إلى الاستقلال هو الحل والخلاص ، على الأقل بالنسبة لي ، لكن هذا خطأ.. خطأ كبير في ظلّ الزيف الذي رأيته وخبرته وفهمته .
فعندما يكون رئيس حزب إسلامي ، كل أدبيات حزبه تتحدث عن تطبيق تعاليم الاسلام الحنيف ، بينما هو وسيلة ايضاح للنفاق ، حتى ان آيات المنافق الثلاث التي وردت في السنة النبوية تنطبق عليه تماماً ، وكانها مفصلة على مقاساته …عندما يكون الامر كذلك فعلى الدنيا السلام !
وعندما يكون وكيل مشهور لأكبر مرجع ديني في العراق شيطان أخرس ،
وعندما يكون حفيد لمرجع كبير منزوع الغيرة، فالصادقون سيكونون يتامى لا سند لهم الا الله الذي لا يضيع عنده حق .
عندما يكون صوت الفاسد عاليا ، و تكون الحزبية والمحسوبية والمصالح الشخصية هي المتحكم الوحيد في البلاد نكون قد بلغنا مرحلة التيه والضياع .
عندما تفقد الدولة أصول التقييم ومعاييره ، وتكون الشجاعة والكفاءة والنزاهة والإخلاص في موضع التشكيك والازدراء ، ويكون صاحب الإنجاز مُحارب بينما يُنصر الحزبي الفاشل نكون قد سلكنا الطريق الى الهاوية .
عندما تُفتَقد العدالة ، ويكون الظلم حالة اعتيادية مقبولة يفتخر بها بعضهم، وعندما نهتف بأسم الفاشل والفاسد ونُسقط الناجح والنزيه عندها يستدير المجتمع الى الوراء ويهرول الى الخلف دون توقف .
لقد كان الهروب من المستنقع أحد أكبر أخطائي فداحة ، فهروبي منح الفاسدين والفاشلين فرصة ليتنفسوا الصعداء ، ومنح الخائنين للامانة والظالمين فرصة للاجهاز على ماتبقى من ( غنائم ) خططوا للظفر بها ، والاجهاز على ماتبقى منها !!
حين أكرر كلمة “هروب” ، فأنا أقصد عدم التصدي للمسؤولية والاستمرار بالحرب ضد هؤلاء الفاسدين .
انكفائي كان خطأ فادحاً اقترفته بارادتي مع سبق الاصرار والترصد بحق نفسي اولاً، وبحق آخرين يثقون بي، ويعرفونني ويقدرون عملي ثانياً .
لا بدّ أن اعترف هنا ان اعتزالي العمل، وترفعّي عن الرد لم يردع الفاسدين عن الكف عنّي، وإنما جعلهم يتمادون أكثر في ظلمهم إلى درجة أن وجهوا لي اتهامات لا وجود لها على الإطلاق ، والانكى من ذلك ان ارمى باتهامات لست موجودا في ساحة المسؤولية لحظة اقترافها ..اتهامات نتجت عن فساد مفضوح ، وتجاوز على المال العام ، اقترفه االمنحرفون والفاسدون بعد ثلاث سنوات على استقالتي ..اي ظلم واي تعسف هذا !!
لقد آلمتني هذه الواقعة بشكل خاص، ولذلك سأنشر الوثائق الدامغة قريباً ، والتي تؤكد قدرة الفاسدين على تشويش الرأي العام من أجل أن يغطّوا على فسادهم ويخلطوا الأمور على الناس .
ليس من طبيعتي ان أعمم ، ولا أكيل تهم الفساد جزافا ، فالتعميم يخدم الفاسدين ليفلتوا كل مرّة بفعلتهم ، لان تعميم الفساد هو واحد من الأدوات التي يستثمر فيها من يُفسد . فهناك من النزيهين والمهنيين الكثير، وهؤلاء هم من تصدوا ويتصدون لقوى الظلام بإخلاص ، ويحافظون على العراق وسلامته بكل صدق وتفان .
اليوم وبعد سنوات على تفكيري الطويل بالفعل الذي قمت به لهروبي من المستنقع ، صرت على قناعة كاملة بأنّ ما كان عليّ فعله هو ليس الهروب من المستنقع، وإنما الهروب إليه، والسباحة والغوص فيه مع نية صادقة وإصرار على المساهمة في تنظيفه وردمه إلى الأبد .
أذكرُ عندما كنا صغاراً نغوص بمستنقع مبزل مدينتي العزيزة الشعلة الآسن بمياه الصرف الصحي كنت أحلم بأن يكون هذا المستنقع نظيفاً ، وعندما كبرت تحقّق الحلم ، إذ نظفناه وردمناه ليتحول بعضه الى مساحة خضراء ، والفارق ان مستنقع مبزل الشعلة يزكُم الأنوف برائحته النتنة ، أما مستنقع اللاعدل فهو يزكُم الروح والأخلاق والدين بقذارته وفساده وظلمه.
في النهاية اقول أنه يجب التصدي وعدم الانزواء حتى لو كان الأعوان والرفاق قلة قليلة ، وذلك لتحقيق مبدأ العدل والانصاف ، لأن لا حياة كريمة ولا تطور بكافة مجالات الحياة بدون هذه العدالة ، ف(لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ) كما قال سيد البلغاء وامام المتقين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام .
وللحديث بقية وتفاصيل…
امين بغداد الأسبق