18 ديسمبر، 2024 11:50 م

الهروب التركي نحو العراق !

الهروب التركي نحو العراق !

على امتداد ثلاثة او اربعة عقود من الزمن، نفذت تركيا سلسلة طويلة من العمليات العسكرية في العمق الجغرافي العراقي تحت ذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(P.K.K)، كان اخرها قبل ايام قلائل، عمليات “مخلب النسر”، والتي مازالت مستمرة حتى الان، حيث انها ابتدأت بقيام مقاتلات تابعة لسلاح الجو التركي بقصف مواقع قيل انها لحزب العمال في قضائي سنجار بمحافظة نينوى وزاخو بمحافظة  دهوك، وتواصلت فيما بعد بدخول قوات برية تركية الى مناطق من محافظة دهوك لتكمل ما انجزته الطائرات الحربية.

وزارة الدفاع التركية اوضحت في بيان لها بهذا الشأن، انه تم تدمير واحد وثمانين هدفا تابعا لحزب العمال الكردستاني، خلال العمليات التي انطلقت قبل يومين في مناطق شمال العراق، من بينها سنجار وقرجيك وقنديل والزاب وأفشين باسيان وهاكورك”، واكد الوزارة في بيانها، “ان العملية، التي أسفرت عن خسائر كبيرة لحزب العمال، استخدمت فيها ذخائر محلية الصنع، وانها راعت خلال تخطيط العملية وتنفيذها حماية أرواح المدنيين وأملاكهم”.

ولان العمليات العسكرية التركية الاخيرة بنظر الكثير من المراقبين، لاتختلف من حيث مبرراتها ودوافعها، وادواتها ووسائلها، ومخرجاتها ونتائجها عن سابقتها، فأنه يبدو من الضروري الاحاطة بمجمل الظروف والاجواء المحيطة، حتى ينفرز ويتبين ما هو قديم  ومكرر وما هو جديد ومستجد في مجمل المشهد العام.

في الاطار العام، فأن صناع القرار في انقرة من خلال التجربة الطويلة يدركون ويفهمون ويتفهمون جملة حقائق، لعل من بينها، ان تركيا مهما بلغت من قوة وامكانية فأنها يمكن ان تضعف حزب العمال وتضيق عليه، بيد انها من غير الممكن ان تنهي وجوده بالكامل، وربما تكون قد اخطأت في تقديراتها وحساباتها قبل واحد وعشرين عاما، حينما نجحت بأختطاف زعيم حزب العمال عبد الله اوجلان بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الاميركية(C.I.A)، وجهاز الموساد الاسرائيلي، في كينيا، والقائه في سجن انفرادي بجزيرة امرالي المعزولة ببحر مرمرة، اذ تصورت تركيا انها بأعتقال اوجلان، تكون قد طوت صفحة حزب العمال، لكن الامور فيما بعد سارت بخلاف ذلك تماما.

والحقيقة الاخرى، ان العراق بأوضاعه السياسة والامنية الراهنة، منذ الاطاحة بنظام صدام-وحتى قبلها-والى يومنا هذا، غير قادر على تبني مواقف حازمة وحاسمة وقوية يمكن ان تردع أي طرف اقليمي او دولي عن المساس بسيادته وانتهاك حرماته، وانقرة تعرف جيدا ان اقصى مايمكن ان يصدر من  بغداد، حزمة بيانات استنكار وادانة من قوى وتيارات وشخصيات سياسية مختلفة، واستدعاء من قبل الخارجية العراقية للسفير التركي لتسليمه مذكرة احتجاج، وابعد من ذلك قليلا، مطالبة جامعة الدول العربية بأتخاذ موقف حيال التجاوز التركي على السيادة العراقية.

والحقيقة الثالثة، تتمثل في ان انقرة مطمئنة الى حد كبير، الى عدم وجود معارضة او رفض دولي وحتى اقليمي، حيال تجاوزاتها المتتابعة للسيادة الوطنية العراقية، التي بلغت اقصى مستوياتها، حينما بادرت الى انشاء معسكر دائم قبل عدة اعوام في بلدة زليكان التابعة لقضاء بعشيقة بمحافظة نينوى، بحجة حماية ابناء القومية التركمانية من عصابات داعش الارهابية.

والحقيقة الرابعة، والتي قد تحظى بأهمية اكبر، هي ان عموم الرأي العام التركي والنخب السياسية، اذا لم تؤيد وتدعم مثل تلك العمليات، فأنها على الاعم الاغلب لاتفصح عن معارضتها ورفضها لها، وهذا ما يشجع صناع القرار على تكرارها، خصوصا وانها تنفذ تحت يافطة متطلبات وضرورات حماية الامن  القومي.

وعلى ضوء تلك الحقائق، تحركت تركيا عسكريا نحو الجغرافيا العراقية، وهذه المرة بوتيرة وزخم اكبر، وتهيئة سياسية ولوجيستية على نطاق اوسع، فقد استبقت اطلاق عمليات “مخلب النسر”، ارسال رئيس جهاز المخابرات التركي(ميت) هاكان فيدان، سرا الى بغداد ليلتقي بعدد من كبار المسؤولين السياسيين والامنيين ويضعهم بصورة العمليات العسكرية المرتقبة، دون ان يعني ذلك اخذ موافقتهم، في ذات الوقت تحدثت مصادر مختلفة عن تنسيق عال المستوى بين انقرة والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، بأعتبار ان الدخول التركي الى العراق والمناطق التي استهدفها القصف الجوي تقع جميعها ضمن رقعة ونفوذ حزب البارزاني.

اضف الى ذلك تتحدث المصادر عن ان انقرة ابلغت مسبقا كل من واشنطن وتل ابيب ولندن وباريس وبرلين وموسكو بعملياتها المرتقبة، وكل ذلك من اجل تجنب التصعيد السياسي والاعلامي المحتمل من قبل أي من تلك الاطراف،  فضلا عن التنسيق الامني والمخابراتي مع البعض منها.

واذا كانت كل تلك الحقائق والمعطيات صحيحة، فأن ما ينبغي الالتفات اليه، هو جملة امور، ابرزها، ان الحزب الحاكم بزعام الرئيس رجب طيب اردوغان، اخذ يتحسب من الان لاية انتخابات مبكرة يمكن ان تجرى  خلال العام الجاري، من خلال تحشيد الرأي العام واستمالته عاطفيا، وكذلك، فأن انقرة التي تجد انها تورطت بملفات اقليمية شائكة في سوريا وليبيا وغيرهما، وتحتاج الى تحقيق مكاسب وانتصارات-حتى وان كانت شكلية-للتعويض عن مازقها ومشكلاتها، وربما ترى في ملف حزب ((B.K.K، والساحة العراقية من بوابتها الشمالية افضل واسهل خيار في هذا السياق، ولانها هناك فهما عميقا من خلال التجربة ومن خلال قراءة الواقع الجيوسياسي، وطبيعة موازين القوى، ونقاط القوة والضعف لديها ولدى خصمها، مفاده ان حقائق الواقع ومسارات الامورة لن تغيرها عمليات “مخلب النسر”، كما لم تغيرها الكثير من العمليات السابقة، لذلك فأن وصف العمليات الاخيرة بأنها هروبا نحو الامام، او هروبا نحو العراق، هو الاقرب الى الحقيقة، مادام حزب العمال باقيا في جبال قنديل وفي سهول سنجار، ومادام يتحرك في اقليم الاناضول بحرية ومرونة، لم تفلح دوائر السياسة والامن والمخابرات بفك طلاسمها حتى الان، ولم تفلح بأستنطاق اوجلان بما هو مفيد لها رغم مرور اكثر من عقدين من الزمن على القائه معزولا بجزيرة امرالي، بينما حزبه يعمل ويتحرك وكأن زعيمه حاضرا بقوة.