المدخلات الثلاثة التي تحدد زاوية النظر لموضوع الهجرة هي العقيدة و التجربة التاريخية واستشراف المستقبل ، فاذا كان الانسان ينطلق من معطيات مادية بحتة سيرى في الهجرة نوعاً من الخلاص الانساني ، وينظر لتناولها عقائدياً أمراً عبثياً لا طائل منه . لكنّه اذا نظر من زاوية الارتباط بالله او الوطن سيجد جوانب اخرى تمنع القبول بها بهذه الصورة المطلقة . لذلك ربما يتحدث الفقيه والقائد الديني عند تناوله لهذه الظاهرة وهو ينظر للمسلم بالتوصيف الذي ينطبق على صاحب العقيدة الحقّة كصحابة رسول الله المجاهدين في تحملهم لثقل الظرف الذي يحيط بمشروع الوطن الاسلامي . والفقيه اذا كان غير قادر على اجبار احد على ان يكون بهذا التوصيف كذلك هو غير مجبر ان يتجاوز خطوط العقيدة .
فيما ينظر الانسان المادي للهجرة بدنيوية محضة ، لكنها دنيوية ساذجة غير دقيقة الحسابات ، تستجيب فقط للعقل الجمعي المُغيَّب تحت وطأة الحاجة الشهوانية او النفسية ، والتي سرعان ما تواجه الواقع الاذلالي الذي يسحق كرامة الانسان الباحث عن الراحة في ارض الغير ، وذلك الغير له مصالحه وقوانينه وحاجاته وسلبياته ، فتبدأ رحلة الغربة بالاحتيال والإذلال والخديعة ، لتنتهي بالانتظار والتوسل والالتقاط .
اما التجربة التاريخية للعلاقة مع الغرب فهي ما يحتاج الى تأمل ودراسة ، سواءً في وجوده على ارضنا او وجودنا على ارضه ، وربما حينها سيكون الاسلام الذي يتحدث البعض عن مدخليته الإقليمية في موضوعة الهجرة هو جزء من هذه المنظومة التي نهاجر اليها اليوم ، كما هي الحكومات التي تتربع على عروش هذه الارض ، والإعلام الموجّه ، بل حتى القيادات الدينية الكبرى ، وبالتالي على الفقيه ان يدرس كل هذه المعطيات ويتاملها للخروج بموقف مناسب ، فمن الصعب التصديق انّ المتسبب في الهجرة كبروياً – وهو هنا الغرب بجحافله ومنظماته المخابراتية وتحالفاته مع الأنظمة القمعية الدكتاتورية – هو ذاته من يريد المساعدة في معالجة اثارها .
انّ دولة ترعى الاٍرهاب مثل تركيا لا يمكن لنا أنْ نصدق اليوم انها أصبحت طريقاً آمناً للاجئين العراقيين والسوريين ، فهي بالامس من جاء بكل مجاميع القتل والدمار ، وهي ذاتها من يحتمون تحت ظلها ، كما انها تدعم المنظمات السياسية الفاسدة في المنطقة ، فلماذا نراها الان معبراً سالكاً بانسيابية لمن ساهمت في هلاك بلدانهم .
كما انّ دولة مفلسة مثل اليونان صارت تعتبر عمليات التهريب الجارية على أراضيها نحو أوربا الغربية اقرب الى المشروع القومي ، حيث تغضّ النظر عن العصابات المنظمة المشاركة في هذه اللعبة التي توفّر لها مبالغاً مالية كبيرة وصعبة ، ولا يهم بعد ذلك إصابة وموت الكثير من هؤلاء اللاجئين في الطرق الخطرة للبحر والبر .
وأخيراً نتسائل كثيراً عن غرابة موقف الحكومة الألمانية من هؤلاء المهاجرين وهي التي سنّت قانون ( الكفاءات ) المهاجرة ، والذي يقضي بعدم قبول ايّ طلبات للإقامة ما لم تكنْ لاصحاب الكفاءات الخاصة أكاديمياً ومعرفياً الذين يمكنهم نفع المجتمع والدولة الألمانية ! . فَأَنَّى لها ان توافق اليوم على استقبال هذا ألكم من الباحثين عن الراحة والدعة وانتظار المساعدات بكسل ؟! .
لكنّ الموضوع الاخطر هو المستقبل ، هنا ، وهناك ، وما هو المتوقع بعد هذه المرحلة ؟ ، كل ذلك يستدعي من الفقيه نظرة ابعد من نظر غيره ، حيث يراقب المدخلات والمخرجات كمعالج مُفترض للمشكلة الاجتماعية بفروعها السياسية والاقتصادية والعقائدية ، كما يراقب الأفراد ومآلهم .
وجواباً للإشكال الذي يطرحه البعض حول دعوة المرجعية الدينية العراقيين الى الصبر في بلدهم وقدرة المؤسسة الدينية الواقعية على الولوج الى الأسباب المادية للهجرة يمكننا القول انّ صوت الفقيه قد بُحّ في معالجتها واستباقها ، لكنّ الناس كانت تختار غير رأي الفقيه ، وتسير كالمغلول في خضم الدنيا الخادعة . وتحتكم الى قيادات فاشلة وتوجهات مشبوهة ، فما هذه الاسبابَ الداعية للهجرة الا صنع ايدي هؤلاء المهاجرين أنفسهم ، وكذلك هي الحلول بيدهم هم وحدهم ايضا ً ، فنحن في النهاية بلد ديمقراطي ، للجمهور فيه حرية الاختيار والتظاهر والتغيير .
والهجرة هنا ليست روتينية مرتبطة فقط بظروف ذاتية ، فيمكننا قياسها بهجرة مَنْ مشروعه ( نفسه ) ، لكنها هجرة جماعية في إطار أزمة كبرى لدى البلد المهاجر منه والبلد المهاجر اليه ، لذلك نحن هنا نتحدث في الظروف الموضوعية لها .
ماذا لو هاجر الأطباء او المهندسون او الكيمياويون ؟ تحت مسمى العناوين الذاتية هذه ، من الحاجة للامن او الاحترام او الانصاف .. ماذا سيبقى هنا ! . ماذا لو هاجر أطباء مؤمنون او اصحاب الضمير ، فبعض الأطباء ربما تكون هجرتهم أنفع لبلدنا من بقائهم ، لكن ماذا لو هاجر من كان هذا وصفهم ؟ كم خسارتنا ستكون مركبة ! .
الاستجابة السلبية للظروف الراهنة ليست سوى استسلام ناعم للمشروع الغربي القديم الجديد ، حيث انّ الهجرة الراهنة اثبتت انّ الاستعمار لم يعد كما كان بالآلة العسكرية باهظة الثمن ، لكنّه اليوم بالخديعة والحصار والتضييق والإعلام والخيانة ، وبثمن زهيد ، بل بأرباح مضاعفة للاجنبي حين يستلب وطن المهاجرين ويبني بهم وطنه . ولعلّ هذا ما قصده ( اوترمان – هيل – ويلسون ) في كتابهم ( محو العراق ” خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع اخر ” ) .
وهناك نقطة مهمة اخرى ، انّ الهجرة تنفيس للضغط الذي يعانيه السياسي الفاسد ، حيث هي توجه القوة الشابة هروباً ، بدل توجيهها نحو الثورة والانتفاض والتغيير ، وبالتالي هي من مصلحة الفاسدين أيضاً في احدى جوانبها .
كل هذا لا يعني منع الهجرة ، بل دراستها ، البحث في اسبابها ونتائجها . فهؤلاء الذين تَرَكُوا بلادهم بدعوى الفساد والضياع أنفسهم مَن يزيد هذا الفساد والضياع عندما أعطوا ظهرهم لها وهي تئن تحت جراح اصواتهم الانتخابية الفاشلة
الاختيار ، وتعاني فوضى سلوكياتهم الدنيوية المخالفة للعقلانية ، في الوقت الذي نحن متأكدون انهم سيلتزمون بقوانين الدول التي يهاجرون اليها ويحترمون عاداتها وتقاليدها ، ويعملون على ابقاء تلك الدول نظيفة . بل سنرى انّ المهاجرين في الغالب سيحاولون الذوبان في ثقافة تلك الدول الى الدرجة التي يدافعون فيها عن عيوبها ايضاً ، ويحاولون إظهارها لاحقاً بيضاء ناصعة ، على خلاف المظهر الذي يحاولون نشر صورته عن وطنهم . ليس جميع هؤلاء المهاجرين من سيفعل ذلك بالتأكيد لكن الكثيرون منهم كما اثبتت التجارب السابقة . ومن جهة اخرى أعلن هؤلاء الذين كانوا يتحدثون في وطنهم عن غَيرتهم وحميتهم تخليهم عن ابنائهم بمجرد أنْ وطأوا تلك الارض الجديدة لأنّ قوانينها لن تبقي لهم من سلطة للتربية . إذن فكل هذا الذي يحدث ناشئ عن رغبات نفسية في اساسه .
لكنّ الذي اتمناه حقاً أنْ لا يتحدث هؤلاء مستقبلاً عن تاريخ هذا الوطن وحضارته ، بعد أنْ اسلموا كل ذلك للمجهول ، فليس منهم غالباً مَن يستحق أنْ يتكلم عن الدماء الطاهرة التي سالت على هذه الارض لتعطينا وطناً له معالم .
كما انّ المنطق العقلاني يمنع من تكرار التجربة السيئة التي أعطت للهاربين السابقين من أزمات وشدائد هذه البلاد ما حرمت منه الأبطال الذين صمدوا هنا وحافظوا على عقيدتهم وبلدهم وصناعتهم وزراعتهم وتعليمهم ووو . لذلك يجب ان يكون للباقين على هذه الارض وسام شرف الصبر حيث ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) ، وإذا كان هؤلاء التاركون لأرضهم يبحثون عن فتات الخبز في ارض من جعل بلدهم عرضة للمهالك بدعمهم وتحالفه المطلق من الدكتاتورية السابقة او الفساد الراهن فالباقون بعقيدة يأملون الوعد الالهي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .