لا اكتب إنشاء بل هي حشرجة آدمية تحتضر بين أناس لا تبالي بمأساة تتفاقم بصمت كما السرطان وبين أناس لا تفهم أن الوهم الذي تعيش فيه ليس حياتها ولا البيئة بيئتها والكل غير مهتم بكارثة السقوط الذي يحصل للبلد فلا شيء أكثر قسوة على الإنسان من أن يُنتزع من أرضهأدرك هذا ذاك الإنسان أم لم يدرك عندما يكون واعيا ذاك أن الأرض ليست ترابًا فحسب، بل ذاكرة وهوية، تاريخ وعلاقات متجذرة. ومع ذلك، فإن المهجرين والنازحين في منطقتنا أصبحوا يعيشون منذ سنوات – بل عقود – في حالة خدر وتكيف سلبي تحوّل إلى قطيعة أجيال عن بيئتها الأصلية، مخلفًا آثارًا اجتماعية واقتصادية مدمرة، أفرغت بعض القرى والأرياف من سكانها وشرخت النسيج.
أمامنا سؤال وجودي: هل سنعيد الناس إلى أرضهم لننقذ الأجيال القادمة، أم سنترك النزوح الطويل الأمد يخلق واقعًا دائمًا من الضياع، وإنشاء مشاريع تخلف وجريمة وتداعيات الأرض المفقودة والإنسان الغريب؟ اذكر عندما كنا نخرج للاستطلاع أو متابعة أعمال الطرق والمساحة أو مشاهدة التكوينات الجيولوجية، كنا نمر من القرى وعلى مدخل القرية يوقفنا ناس شيخ أو شاب واحيانا طفل في العاشرة أو الثانية عشر ومعه أطفال اقل سنا، وكلهم بصوت واحد( هلا بالضيف، حدّر عندنا) وبلجة قروية هي ذاتها التي تواجهك على الأرصفة والشوارع وبين البيوت اليوم تقول لك (حسنة، مساعدة) وأساليب من التسول مما لا يخطر على بال في تقاطعات الطرق والإشارة الضوئية، والتي عندها تتعدد اللهجات قسم من الأطراف وقسم من الداخل، ونوع آخر محترف.
حين يُقتلع الفلاح من قريته ويُلقى في أطراف المدن أو في مخيمات النزوح، يفقد الكينونة، أجيال وُلدت ونشأت بعيدًا عن موطن الآباء والأجداد لم تعرف الزراعة ولا الحرف التقليدية، ولم تعش تكافل المجتمعات الريفية في المدن، واجهوا البطالة والتهميش الاجتماعي، وفي المخيمات عاشوا على المساعدات، بلا أفق ولا جذور. والنتيجة؟ جيل جديد غريب عن الأرض التي ينتمي إليها بالاسم فقط، جيل مهدد بفقدان الهوية والقدرة على إعادة بناء مجتمعه الأصلي ناهيك عن الأمراض القيمية والمجتمعية وتدهور الآدمية.
النزوح الطويل الذي انشغل عنه الساسة بالأنانية وتمشية أمورهم كارثة صامتة النزوح الذي استمر سنوات طويلة تجاوز كونه أزمة إنسانية طارئة، ليصبح تهديدًا استراتيجيًا إفراغ الأرياف من سكانها، ما يترك الأراضي الزراعية بورًا ويضعف الأمن الغذائي توسع العشوائيات في المدن، مع ما يرافقها من بطالة، جريمة، وضغوط على الخدمات. أجيال بلا انتماء، ممزقة بين هوية لم تعشها وواقع مدينة طارد. هذا الوضع لا يمكن قبوله كأمر واقع؛ ترك الناس في حال التهجير سنوات إضافية يعني القبول بضياع أجيال كاملة وفقدان فرصة إعادة بناء الريف والحفاظ على التوازن المجتمعي.
كيف نعيد الناس إلى أرضهم؟
رسالة إلى السياسيين:
لا تؤجلوا العودة للناس بالمجاملة واحترام الخطوط، النزوح ليس قدرًا، والنازحون ليسوا أرقامًا في تقارير المنظمات، كل يوم إضافي يقضيه النازحون بعيدًا عن أرضهم يكرس واقعًا من الضياع وفقدان الهوية. سكن المدينة ليس من المميزات والعودة ليست فقط استجابة إنسانية، بل استثمار في استقرار الوطن وأمنه الغذائي والاجتماعي.
المطلوب اليوم: خطة وطنية لإعادة الإعمار والتنمية الريفية بدلاً من الاعتماد على المعونات الطارئة موازنات تحدّث لتمويل مشاريع العودة وإعادة التوطين. شراكات ذكية مع المنظمات الدولية لتنفيذ برامج إعادة الاستقرار، لا لإدارة الإغاثة التي تلاشت أو تكاد، بل بعضها لم تك أصلا إلا أن يمدح العلانيون بما لم يفعلوا.
إعادة الناس إلى سكنهم هو الضمانة الوحيدة لوقف دوامة الفوضى، والحفاظ على مجتمعات متماسكة، وأجيال تعرف من أين جاءت وإلى أين تنتمي.