23 ديسمبر، 2024 5:21 ص

الهجرة النبوية إلى أرض السلام

الهجرة النبوية إلى أرض السلام

اشتدت معاناة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد سنوات من الاضطهاد والقتل والتشريد من إعلان الدعوة الإيمانية في مكة، بعد أن عانوا المرارة والقهر والظلم على أيدي صناديد قريش وزبانيتهم. إذ كان لا بد من إنقاذ الثُلة المتبقية الصابرة منهم، فأمر النبي الكريم صحابته بالهجرة إلى أرض الحبشة، فتلك أرض لا يُظلم عند مَلكها أحد، إنها أرض الأحباش؛ أرض أمان وسلام للرعيل الأول. وقد جاء أمر النبي ابتغاء الأجر والحفاظ على الدعوة بعد نزول قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [النحل: 41].
وقد ذكر ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية مسألة الهجرة بقوله: «هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الَّذي لا يقدرون فيه على إقامة الدِّين إلى أرض الله الواسعة حتَّى يمكن إقامة الدِّين… إلى أن قال: ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكَّة مقامهم بها؛ خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة؛ ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير المُنْزِلين هناك أصحمةَ النَّجاشيَّ ملك الحبشة رحمه الله تعالى».
أولًا: دوافع الهجرة إلى أرض السلام “الحبشة”
تنوعت أسباب ودوافع الهجرة إلى الحبشة، وأهم تلك الدوافع:
شدة البلاء: لما رأى رسولُ الله (ص) ما يصيب أصحابـه من البلاء وما هو فيه من العافية؛ لمكانه من الله ومن عمِّه أبي طالب وأنَّه لا يقدر على أن يمنعهم ممَّا هم فيه من البلاء؛ قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشـة؛ فإنَّ بها مَلِكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ وهي أرض صِدْقٍ حتَّى يجعل الله لكم فرجاً ممَّا أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ص) إلى أرض الحبشة مخافةَ الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أوَّل هجرةٍ كانت في الإسلام».
الفرار بالدِّين: كان الفرار بالدِّين خشية الافتتان فيه سبباً مهماً من أسباب هجرتهم للحبشة. قال ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ص) إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم».
نشر الدعوة الإيمانية خارج مكة: فقد كثُر الدَّاخلون في الإسلام وظهر الإيمان وتحدَّث الناس به. قال الزُّهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: “فلمَّا كثر المسلمون وظهر الإيمان فتُحدِّث به؛ ثار المشركون من كفَّار قريش بمن امن من قبائلهم يعذِّبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، فلمَّا بلغ ذلك رسولَ الله (ص)؛ قال لِلَّذين امنوا به: «تفرَّقوا في الأرض» قالوا: فأين نذهب يا رسول الله؟! قال: «ها هنا» وأشار إلى أرض الحبشة”.
وهو السبب الأهمَّ للهجرة ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة؛ حيث هاجر إليها كثيرٌ من المؤمنين الأوائل والقول بأنَّهم هاجروا إليها لمجرَّد النَّجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قويَّةٍ فلو كان الأمر كذلك؛ لهاجر إذاً أقلُّ الناس وجاهةً وقوَّةً ومنعةً من المسلمين غير أنَّ الأمر كان على الضدِّ من هذا فالموالي المستضعفون الَّذين كان ينصبُّ عليهم معظم الاضطهاد والتَّعذيب والفتنة لم يهاجروا؛ إنَّما هاجر رجالٌ ذوو عصبياتٍ لهم من عصبيتهم ـ في بيئة قبليَّةٍ ـ ما يعصمهم من الأذى ويحميهم من الفتنة وكان عدد القرشيين يؤلِّف غالبية المهاجرين»، حسب ما رأى السيد قطب.
ويميل الأستاذ دروزة إلى أنَّ فتح مجالٍ للدَّعوة في الحبشة كان سبباً من أسباب هجرة الحبشة؛ حيث يقول: «بل إنَّه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النَّصرانيَّة أمل وجود مجالٍ للدَّعوة فيها وأن يكون هدف انتداب جعفر متَّصلاً بهذا الأمل». وذهب إلى هذا القول الدُّكتور سليمان بن حمد العودة: «وممَّا يدعم الرَّأي القائل بكون الدَّعوة للدِّين الجديد في أرض الحبشة سبباً وهدفاً من أسباب الهجرة إسلامُ النَّجاشيِّ وإسلام اخرين من أهل الحبشة وأمرٌ اخر فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النَّبيِّ (ص) وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمرِ النَّبيِّ (ص) وتوجيهه وفي صحيح البخاريِّ: فقال جعفر للأشعريِّين حين وافقوه بالحبشة: «إنَّ رسول الله (ص) بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة؛ فأقيموا معنا».
وهذا يعني: أنَّهم ذهبوا لمهمَّة معيَّنةٍ ـ ولا أشرف من مهمَّة الدَّعوة لدين الله ـ وأنَّ هذه المهمَّة قد انتهت حين طُلِب المهاجرون.
البحث عن مكان آمن للمسلمين: حيث كانت الخطَّـة الأمنيَّـة للرَّسول (ص) تستهدف الحفاظ على الصَّفوة المؤمنـة؛ ولذلـك رأى الرَّسول (ص): أنَّ الحبشـة تعتبر مكاناً امنـاً للمسلمين ريثما يشتـدُّ عود الإسلام وتهدأ العاصفـة وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشـة ما أمَّنهم وطمأنهم وفي ذلك تقول أمُّ سلمة رضي الله عنها: «لمَّا نزلنا أرض الحبشة؛ جَاوَرْنـا بها خيرَ جارٍ النَّجاشيَّ أَمِنَّـا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نُؤْذَى».
ثانيًا: هجرة المؤمنين إلى أرض السلام
غادر أصحاب رسول الله (ص) مكَّة في رجب من السَّنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجالٍ وأربع نسوةٍ وقيل: خمس نسوةٍ وحاولت قريش أن تدركهم لتردَّهم إلى مكَّة وخرجوا في إثرهم حتَّى وصلوا البحر، ولكنَّ المسلمين كانوا قد أبحروا متوجِّهين إلى الحبشة.
وعند التأمُّل في فقه المرويَّات، يتبيَّن لنا سِرِّيَّة خروج المهاجرين الأوائل؛ ففي رواية الواقديِّ: «فخرجوا متسلِّلين سرَّاً»، وعند الطَّبريِّ، وممَّن يذكر السِّرِّيَّة في الهجرة: ابن سيِّد النَّاس، وابن القيِّم، والزُّرقانيُّ. ولمَّا وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النَّجاشيُّ مثواهم وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطُّمأنينة والأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم فعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ (ص) قالت: «لما نزلنا أرض الحبشة جَاوَرْنا بها خيرَ جارٍ ـ النَّجاشيَّ ـ أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه». ويمكن ذكر أسماء أصحاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، من الرجال:
عثمان بن عفَّان بن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمس.
عبد الله بن عوف بن عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة.
الزُّبير بن العوَّام بن خُوَيلد بن أسد.
أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمح.
عامر بن ربيعة، حليف آل الخطَّاب من عَنْز بن وائل.
سُهَيل بن بيضاء، وهو: سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أُهَيب بن ضَبَّة بن الحارث.
أبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزَّى بن أبي قيس عبد وُدَّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر. فكان هؤلاء العشرة أوَّل من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة. ومن النساء:
رقيَّة بنت النَّبيِّ (ص).
سهلة بنت سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، والَّتي هاجرت مع زوجها أبي حذيفة, وولدت له بأرض الحبشة محمَّد بن أبي حذيفة.
أمُّ سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم امرأة أبي سلمة.
ليلى بنت أبي حَثمة بن حذافة بن غانم (بن عامر) بن عبد الله بن عوف بن عبيد ابن عويج بن عديِّ بن كعب، امرأة عامر بن ربيعة.
أمُّ كلثوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس، امرأة أبي سَبْرة بن أبي رُهْم.
إنَّ المتأمِّل في الأسماء سالفة الذِّكر لا يجد فيهم أحداً من الموالي الَّذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشدُّ من غيرهم كبلال وخبَّاب وعمَّار رضي الله عنهم بل نجد غالبيتهم من ذوي النَّسب والمكانة في قريشٍ ويمثِّلون عدداً من القبائل صحيحٌ: أنَّ الأذى شمل ذوي النَّسب والمكانة كما طال غيرهم ولكنَّه كان على الموالي أشدَّ في بيئةٍ تقيم وزناً للقبيلة وترعى النَّسب وبالتَّالي فلو كان الفرار من الأذى وحده هو السَّبب في الهجرة؛ لكان هؤلاء الموالي المعذَّبون أحقَّ بالهجرة من غيرهم ويؤيِّد هذا: أنَّ ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة.
ويصل الباحث إلى حقيقةٍ مهمَّةٍ ألا وهي: أن ثَمَّةَ أسباباً أخرى تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النَّبيُّ (ص) نوعيةً من أصحابه تُمثِّل عدداً من القبائل وقد يكون لذلك أثرٌ في حمايتهم لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانبٍ وتهزُّ هجرتهم قبائل قريش كلَّها أو معظمها من جانبٍ اخر فمكَّة ضاقت بأبنائها ولم يجدوا بُدّاً من الخروج عنها بحثاً عن الأمن في بلدٍ آخر ومن جانبٍ ثالثٍ يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه في الافاق وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدَّعوة إلى الله فتنفتح عقولٌ وقلوبٌ حين يستغلق سواها.
تعتبر هجرة المسلمين الأولى والثانية إلى الحبشة وإخفاق زعامات قريش في إخراج المسلمين منها، بعد مفاوضات عَقَدية بين الصحابة والمشركين في بلاط النجاشي، البداية الفعلية لانتصار دعوة الإسلام وانتشارها، حتى ظهرت روايات تثبت إسلام ملك الحبشة النجاشي، وبلغت دعوة الإسلام بعد سنوات قليلة أرضٍ واسعةٍ وعالم جديد. وفي وقتنا الحاضر، أدى الظلم والقهر والقمع الذي مارسته ولا زالت تمارسه الأنظمة الاستبدادية والميليشيات الإجرامية في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، وإجبار المستضعفين على الخروج من ديارهم قسرًا وعنوةً، سواء في فلسطين والعراق وليبيا ومصر واليمن وآخرها هجرة السوريين، حيث خرجت آلاف العائلات من دمشق وغوطتها وحلب والجزيرة السورية إلى مناطق جديدة وعوالم أخرى. ومع هذا ستكون الهجرة اليوم خيرًا كثيرًا لهؤلاء الناس بعد أن عاشوا ظروف المعاناة القاسية في ظل التجويع والحصار وتحت ضربات التهجير والتشريد، ومن ثم اكتسابهم خبرة الحياة في بلاد مختلفة مثلت ملاذًا آمنًا لهم، كما هو حال المهجرين منهم في تركيا والغرب، ليعودوا ويبدعوا ويساهموا في نهضة الأمة وبناء أوطانهم من جديد.

مراجع المقال:
ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت، دار الفكر، 3/ 96 – 97.
ابن هشام، السيرة النبوية، بيروت، دار الفكر، 1/413.
أحزمي سامعون، الهجرة في القرآن الكريم، الرياض، مكتبة الرشد، 1996.
الزهري، المغازي النبوية، تحقيق سهيل زكار، دمشق، دار الفكر، 1981، ص 96.
سليمان العودة، الهجرة الأولى في الإسلام، الرياض، دار طيبة، 1419ه، ص 34.
السيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، 1980، 1/ 29.
علي الصلابي، السيرة النبوية، بيروت، ابن كثير، 2004، 1/ 271 – 296.
محمد أبو شهبة، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، دمشق، دار القلم، 1996.