أصمت وإلا كسرت أنفك, أما تعلمت الإحترام بعد؟.. قل “تكريت المقدسة”..!
قد يحصل من دخلها على حصانة, وليس إلا خارج أسوار تلك الأكواخ الطينية.. آه.. لم تعد أكواخاً, فمصائب الشعب عند الطغاة فوائد.. هي الأيادي السمراء تتبع أموال مدنها المنتهبة لتبني مركزاً لتربية الجلادين!..طيلة الطريق, وهو يفكر في تلك الكلمات, فمن يطالب بتقديس تكريت لهجته جنوبية, ولم يشفع له إعوجاج لسانه المفتعل بتغيير محل الولادة.. هل ثمة شعور بنقص؟!
لا بأس, سوف تكون أياماً متعبة, ولكنها أفضل من هوان “الساحة الهاشمية”, فأرباب العمل شربوا من دجلة.
كانت تنير المدينة في ليل عجاف أيامنا, مصابيح تعلن عن إختلاف غير مألوف, وأصوات شخير المتعبين تثقل الجفون بنعاس سرعان ما يتوارى خلف حيرة البحث عن مأوٍ تسترخي به عضلات جسد يستعد لإنهاك أيامٍ يبدو أنها ستكون مذلّة. سوى سطح ذلك الفندق القذر, لا يوجد للجنوبيين ما يحق لهم إستئجاره. وذوى بين أكداس الجياع الذين بدا نومهم كهروب قطٍ أجبرته وحوش مبهورة على اللجوء بشقٍ ضيّق حشر به جسده, فلا سبيل إلى الخروج أو الصراخ, فقط عليه مواصلة المأساة والتعايش معها بأنتظار الموت المريح..يبدو إنّهم يكذبون, هكذا رآهم, فصورتهم نياماً تختلف عن إفراطهم في الدخان وصرامة ملاحمهم القوية.. حثّ الخطى معهم إلى موقف العمال فجراً, وسرعان ما وصلوا هناك.
بدأ خيط من أشعة الفجر يتسرّب من بين هياكل الأبنية الجديدة, فكشف عن وجوهٍ كانت محترمة في ديارها, هذا المعلم, وذاك المهندس, وضابط السابق, ومزارع جدبت أرضه؛ كلهم يبحثون عن الخلاص من الهلاك بالموت!.. هو يعرفهم, فأزداد عزيمة على المواصلة.جائت عجلة مسرعة, فتشابكت الأذرع وتطاولت الرؤوس لتثبت قدرتها على إنجاز العمل, أي عمل, وقد يكون بلا أجر.. الآن فقط عرف سر إشتياقهم للظلام, ولماذا يستعجلون السير نحو الموقف: هو الشعور بالحاجة إلى الموت, أو الحاجة لمزيدٍ من تمرينات الإذلال.يا لحسن حظّه, فقد وقع عليه الإختيار, بنيته قوية.. حتماً لم يكن الوحيد, فمعه آخرون.. لا يدرون وجهتهم إلى أين. وبعد مسير أقل من ساعة في سيارة حمل كبيرة, وصلوا إلى زريبة كبيرة, لم يحدّثهم رب العمل, سوى كلمات تنّم عن إحتقار فج:أيها الشروك, هذا الجمل مكسور الأقدام وعليكم أن تحملوه إلى السيارة, وبعدها توجد بقرة في مكان آخر ستضعونها بجانب هذا الجمل.
حاولوا جميعهم, دون فائدة, ولكنّه هددهم بالقتل في حال فشلهم, وللخوف شحنة دفاع عن النفس قد تتمظهر بقوة خارقة, فكان أن رفعوا الجمل المكسور. ومثله فعلوا مع البقرة, وهم صامتون.
أوصلهم ناصية الشارع, وأمرهم بالسير دون توقّف أو إلتفات,بعد أن إنهال عليهم بالشتائم, مذكّراً إياهم بكونهم “شروك” لا يستحقون سوى الموت, ولم يعطهم أجرة ذلك اليوم الثقيل, مصعّراً وجّهه صوب المدينة المتبهرجة بالظفر على الرافدين!..
ذلك الإنسان المخدوع لا يعرف معنى “شروق”. غير أنّ هذا العامل يدركها جيداً. كان مجبوراً على تحمّل المواصلة, فمن ذلك الذل يمكنه فقط سدّ رمقه.. عليهم عدم الإكتراث, فالموت دون مقاومة أبشع من الإستسلام على أية حال.
وهو يجر أذيال الخسران والخيبة, وقع بصره على صبية يجوسون متمنطقين على أسلحتهم بخيلاء ونزق, وفجأة أوقفوا الجمع المضحك, وهمّ كبيرهم يلوّح بسلاحه متوعداً بعذاب أشر إذا رفض أحدهم العمل مجاناً في “مزارع سيادة حرس الفخامة”.. فأذعن الجمع وأستكان تحت سياط تمسخ الروح وتزيدها خمولاً.
آب ليلاً, تحثّه خطا الحقد في دروبٍ مكتظة بأمثاله المفجوعين بالسبيّ الطوعي, ولاح أمامه طيف مدينة كانت تسمى عروس الخليج, فمُحقت آثارها الغابرة, ومزّق البغاة مظاهر عرسها. لا نخلة ولا حنّاء, إذ تعاون شطّها الذي صار يجري سموماً, مع خبث الدهر.تحجّر الدمع في مآقيه, وأزمع أن يهجر تكريت وإلى الأبد, لم يفكر بطيش العودة دون حذاء, بعد أن تمزّق حذاءه المدرسي في مزراعهم وزرائبهم المبنيّة من نفط أرضه وميناءها العتيق.. ما ذكرهم بسوءٍ قط, مبرراً لهم حقدهم بعد أن شاهد أشلاء أبناء جلدته تتناثر بأستمرار..!
ولكنّه عاد إليها مجدّداً.. عودته هذه المرة مختلفة, فبعد سنوات سقطت تكريت في غزوٍ بربري أذل أهلها وإستهتر بحرماتهم, فهبّ مدافعاً عنهم.. رغم هجرته لتكريت ملفوفاً بعلم مصبوغٍ بدمه؛ تلقّى أهله البلاغ التالي: أبنكم سرق (ثلاجة) سعرها بضعة آلاف من الدنيانير!..