لم تكن نشأة حركة عبد الحميد بن باديس الإصلاحية نشأة طبيعية، ولم يكن مشروعه الإصلاحي ضربًا من ضروب التنظير والخطط والبرامج السياسية، ولا ترفًا فكريًا زائدًا، بل دعتها أهمية المرحلة وخطورتها في الجزائر، ووحشية المستعمِر الفرنسي وجرائمه، وسياساته في القتل والبطش والتجهيل، وأساليبه في طمس الهوية العربية والإسلامية للجزائر، فكانت ولادة حركة إصلاحية جديدة قادها ابن باديس وعلماء الجزائر واقتدى بها أبناء الأمة في العالم.
فما هي سمات الحركة الإصلاحية لدى الإمام عبد الحميد بن باديس؟
استوعبت في منطلقاتها ومناهجها وأهدافها أصول الحركات الإصلاحية السلفية القديمة والمعاصرة، فأخذت من أفكار ابن تيمية في مجال فهمها لحقيقة الدين وأصول الشريعة، وتأثرت بالحركة الوهابية في بعض مواقفها تجاه البدع والخرافات التي لحقت بجوهر العقيدة، واقتدت بالحركة السنوسية في ربط الدين بالدنيا والأخلاق بالسياسة واعتبار محاربة الاستعمار جزءاً من الدين.
وقد سايرت صيحات جمال الدين الأفغاني في ثورته على الحكم الأجنبي ومقاومة الاستبداد، والدعوة إلى التمرد من أجل التحرر والتوحد. كما تبنت النهج الإصلاحي المعتدل في نشر الوعي وتربية الجماهير، وتهيئتها لتحمل مسؤوليتها في مواجهة العدو ومكافحة التخلف والجمود، كما تبنت آراء وأفكار الكواكبي وشكيب أرسلان وغيرهما من رجال الفكر وزعماء الإصلاح الذين وإن اختلفت الأساليب التي تبنوها في نهجهم العملي؛ فإنهم جميعاً ذوو نزعة تجديدية تسعى لبعث يقظة فكرية ووعي قومي وديني يؤديان إلى تحرير الإنسان من ضعفه، والمجتمع من أمراضه، والدين من الشوائب التي لحقت به، والبلاد من كابوس الهيمنة الأجنبية وظلم المستبدين.
كانت حركة شعبية واقعية عملية، امتدت إلى جميع الفئات وتغلقلت في أوساط الشعب، لأنها كانت تستهدف التعبئة الشاملة وإعادة تشكيل الشخصية الوطنية التي أصبحت مهددة.
الوسط الاجتماعي الذي كان يتحرك فيه ابن باديس وسط أمي في معظمه؛ إذ لم تكن قبل المعركة الإصلاحية ولا في وقتها معاهد تعليمية عالية كما هو الشأن في تونس والمغرب ومصر، لذلك كانت حركته مسايرة لطبيعة الوسط والهدف من إنشائها، ولم تكن دروسه تقدم المعرفة لذات المعرفة ولم يكن خطابه من أجل إظهار البراعة الأسلوبية إنما كان يخاطب القلب والعقل والوجدان بلغة تحقق المسعى بأسلوب تربوي ينفذ إلى الأعماق، هكذا تحدث عنه تلاميذه الذين لازموه مدة.
جاء ابن باديس في وقت كان الاستعمار قد أحكم قبضته على كامل التراب الوطني وأصبحت أمور البلاد كلها في يده، ففرنس الإدارة والتعليم الذي أنشأه خصيصاً لأبناء رعاياه، وأغلق مؤسسات التعليم الوطنية التي كانت تعلم الثقافة العربية الإسلامية، وشدد الخناق على الدين الإسلامي وعلى اللغة العربية واعتبرها لغة أجنبية، وتم ذلك بتدمير الممتلكات الثقافية وتخريب المكتبات وهدم المساجد أو تحويل وظيفتها، والاستيلاء على موارد الأوقاف التي كانت تغذي التعليم، وجعل الشؤون الدينية بين يدي مسؤول فرنسي في تسيير الشؤون الأهلية، يعين من يشاء للإفتاء والإمامة، والقضاء الخاص بالأحوال الشخصية، فكان ذلك من نتائج انتشار الجهل والأمية والانحراف الديني والجمود الفكري، وذيوع الخرافة، وحين ظهرت حركة الإصلاح في الجزائر لم تجد قاعدة عملية تنطلق منها مثلما كان الأمر في تونس لذلك كان نضالها متعدد الجبهات من ذلك:
أ ـ إحياء رسالة المسجد بتنظيم دروس تعليمية وتثقيفية للعامة والخاصة.
ب ـ إنشاء المدارس في مختلف جهات الوطن بتمويل من الشعب.
ج ـ تأسيس صحافة خاصة بالحركة الإصلاحية تنقل للقراء الأفكار الإصلاحية وتطلعهم على سياسة الاستعمار وقوانينه الجائرة ومواقف العلماء من ذلك.
د ـ إنشاء النوادي الخاصة بالشباب، وتنظيم تعليم خاص بهم وبالبنات والنساء.
هذه الأمور وغيرها تبين أن الحركة الإصلاحية في الجزائر التي كان يقودها ابن باديس تميزت بشعبيتها وشموليتها؛ ولذلك تمكنت في ظرف قصير نسبياً من توسيع نظامها ونشر اللغة العربية والثقافية الإسلامية في جهات القطر، وبث الوعي الديني الوطني في نفوس الشباب الذين كانوا يقبلون على دروس التثقيف العام بالمساجد والنوادي وغيرها، وبالإضافة إلى التعليم والوعي والتثقيف العام كان للحركة مواجهات عديدة مع مختلف الفئات:
ـ مع المستشرقين الذين كانوا يدسون على الإسلام.
ـ ومع هيئات التبشير التي كان همها الوحيد هو صد الشباب والأطفال عن الإسلام.
ـ مع المثقفين ثقافة غربية والذين أصبحوا يميلون إلى التنكر إلى شخصيتهم منبهرين بالحضارة الغربية.
ـ مع حكام الاستعمار وساسته في الجزائر وفي فرنسا الذين كانوا يراوغون في الردود على مطالب الجزائريين، وكانوا يتعسفون في التعامل مع العلماء، ومع التعليم الحر.
فقد اتجه ابن باديس من خلال التعليم ومعاركه الصحافيه إلى تكوين قاعدة شعبية عامة منتظمة، تتبنى أفكاره وترتبط بتوجيهاته، ومن هنا نتبين أن مثل هذه الظروف القاسية لم تعرفها الحركات الإصلاحية الأخرى في المشرق والمغرب.
إن الحركة الإصلاحية في الجزائر تميزت بأمور عديدة، ورغم هذه الظروف الصعبة والمعقدة أحياناً نجحت هذه الحركة أيما نجاح، وهيأت جيشاً من الوطنيين كانوا عدة الثورة عند انطلاقها في عام 1954م.
ولمالك بن نبي رأي في هذه الجمعية حيث أعجب بحركة الإصلاح التي قام بها العلماء المسلمون الجزائريون بقيادة عبد الحميد بن باديس، ورأى فيها مزايا لم يرها في الإحيائية الكلامية المجردة ذات العقلانية النظرية المجردة التي بعثها الشيخ محمد عبده وقبله جمال الدين الأفغاني، وذلك لأن حركة ابن باديس قد بدت لمالك بن نبي أقرب الإحيائيات إلى النفوس وأدخلها في القلوب بما تبنَّت من منهج مستلهم من قوله تعالى في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
بعثت حركة ابن باديس الإصلاحية روحاً جديدة، ومثلت دفعًا ايمانيًا متواصلًا جعلها تستمر في أداء رسالتها ومواصلة عطائها لأبناء الأمة قاطبة. ويصف لنا الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تلك الصحوة النهضوية، فيقول: لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدَّر يتحرك، ويا لها من يقظة مباركة.
مراجع:
جريدة البصائر، من جرائد جمعية علماء المسلمين.
صالح فركوس، دور جمعية العلماء.
علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري، بيروت، دار ابن كثير، ج2، ص. ص197 – 217.
لطيفة عميرة، سؤال النهضة عند الشيخ عبد الحميد.
مصطفى حميداتو، عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية.
مطبقاني، عبد الحميد بن باديس.