23 ديسمبر، 2024 4:36 م

النهر والضياء في حياة العراقيين وموتهم

النهر والضياء في حياة العراقيين وموتهم

من الضياء كلّ يوم يولد العراق
وفي الضياء كلّ يوم واقفاً يموت
توالدت هذه الكلمات في مخيّلتي وأنا أشاهد أخبار الإنفجارات التي تهزّ العراق كما هي عادتها في الصباحات الدامية ، فأعادني ذلك إلى استحضار سيرورة العراق في سجل الموت والحياة منذ إن منح الأيام تسمياتها ووضع للسنين منازل وتقويم .
لم أعد أذكر متى ومن أين بدأ ولعي ب” مقتنيات ” هذا البلد ، بما أعطى وما حمل ، بنهوضه وانكساره، ربما منذ سنوات الدراسة المتوسطة حينما قرأنا ضمن المنهج الدراسي مقتطفات من تاريخ العصور القديمة وفيها بعض حديث عن سومر وبابل وآشور، يومها بدأت تلك العصور تجذبني بسحرها المتسائل عن معناه ، خاصة تلك الفجوات والثغرات التي إن لم تملأها الوقائع الحيّة، تكفّلت بها الأسطورة ، وبين ماخطّته الألواح وخلقه الخيال، بين مأساة الإنسان وإبداعاته في قسوة الطبيعة الواعدة ورحمة الإله الموعودة ، عاش ذلك الإنسان في عصوره تلك ، فتناسل وكبر وبنى وهدم وقاتل وقُتل ، لكنه ترك لنا ما يمكن أن يبعث الروعة في النفوس والإبتهاج بما فعل وأنجز ، في وقت عجزنا فيه عن مجاراته رغم ما توفر لنا من عطاءات الحضارة التي ربما كانت واحدة من أسباب تخلّف عقولنا وتراجع مداركنا بعد أن اتّكلنا على غيرنا في أن ينتج لنا ما نستهلكه، فاختص بالعقل والإبداع  و( اختصصنا ) بالاستهلاك والاجترار .
لكن التاريخ بما يرويه أو يكتمه ، لا يروي ظمأ ولا يفي حاجة ، فهناك جوانب تغصّ بالشّيق والمثير الدافع للتأمل، وإن كان بعضها مشبعاً بالأسى .
لقد إشتقّ اسم العراق – في أحد معانيه – من الضياء ( أوروك ) وكأن هذا الاسم لم يأت هكذا مصادفة أو ارتجالاً ، بل ربما من أطلقه ، كان يتأمّل مليّاً حجم الضياء الذي يكتسي به العراق ، والغريب أن ذلك لا يقتصر على نهاراته بشموسها الحارقة المتطرفة في شدّة ضيائها رغم من يراها أنها الأجمل ” الشمس أجمل في بلادي من سواها ” (1) ومن ثم يفضلها على الظلام الذي يحلّ في المرتبة الإستدراكية  ” والظلام، حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق ” إلا أن السياب يضع الظلام والضياء والموت والميلاد في مرتبة واحدة تبعث في النفس نشيج  حزن مقيم “فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء” .  
 لكن ليالي العراق تكاد أن تكون مضيئة بدورها، حتى عندما تغيب أقمارها، لأنها ذات سماء صافية ونجوم متلألئة في معظم الوقت من العام ، وبالتالي فقلّما تخللتها غيوم كثيفة تجعل الليل دامساً والظلمة حالكة .
الضياء والعراق إذاً، صنوان منذ الأزل، لكنهما جلبا لبعضهما أذى ومنغصات وسمت العراق بأرضه وإنسانه .
هل يطول النخل في الليل أكثر مما يفعل بالنهار؟ هل صحيح انه يصنع في الليل الثمر ليحرقه النهار؟ وهل تنتظم أنفاسه ليلاً لتضطرب نهاراً ؟ لماذا تهبّ الرياح عاتية قوية في نهارات العراق أكثر مما هي في لياليه ؟ وهل كتب على النخل أن ينكسر نهاراً ، في وقت يشمخ فيه ليلاً ؟  ثم لماذا كانت معظم الغزوات التي تعرّض لها العراق ، تأتي مع ساعات النهار الأولى أو إطلالة الفجر ،ربما يعود ذلك في بعض أسبابه إلى أن حضارة العراق اعتمدت على المدن المسوّرة بمعظمها ، ما لايتيح للغزاة مفاجأتها ليلاً ،وقد قيل بأن أحد الغزاة سئل يوماً بعد محاصرته طويلاً لإحدى المدن السومرية من دون التمكّن منها   :
–  لماذا لا تقاتلونهم ليلاً ؟
–   لأننا لانراهم جيداً .
– ولماذا لاتقاتلونهم نهاراً ؟
– لأنهم يروننا جيداً .
كان ذاك في التاريخ السحيق ، أما بعد أن تجاوز الغزاة أساليب الحصار ، واستخدموا من ثم أحدث التقنيات وأكثرها تطوراً  وفتكاً ، فقد حدث  الغزو كذلك في مطالع النهار(2) ،فإن غاب الغزو حضر الإرهاب ،  هل رأيتم إرهابياً فجرّ نفسه ليلاً ؟ الليل يستخدم لتجهيز المفخخات ربما ، لكن النهار هو من يشهد دمارها وحقدها ، حيث يحرص الإرهابيون على قتل أكبر عدد من العراقيين الذين يكونون قد إلتمسوا الضياء واندمجوا فيه ،ليعيشوا أو يموتوا . 
بل حتى الإنقلابات جاء بها النهار ببيانها الأول الذي تمنّاه مظفر النواب ( وي طرْة الفجر لنها بيان أول ) وكم  ستشرق من شموس وتمضي وهي تحمل مع نورها المتوعك بفعل القمع والغبار ، آلاف الضحايا من جسد العراق، بل إن موقعة كربلاء التي مازالت تنحت في الذات العراقية، قد حصلت والنهار ضحى .
 الموت فاجعة الإنسان  في كل موضع وزمن ،لكنه في العراق مجرد لعبة ،وهاهي أخت تخاطب أخاها القتيل ” من يلعب ويا الموت ، يترس شليله – تاليها ماخلّاه يكَوم على حيله ” .
 لكن بأية مفارقة  يمكن أن يُنظر إلى أن من ينجبه الظلام بهدوئه وسكينته، يتلقّفه الضياء بكلّ ضجيجه ،فيأخذ منه طبعه الحارق ودمويته الغارقة في حنقها ، فيما ينسى تنويمة الأمهات بكلّ حنانها وتمنّياتها بأن يكون عدوّه ” عليل وساكن الجول “.  
في موروث الشعوب إن الشياطين والجن تخرج في الليل ، فتخيف العابرين وتغوي بالشرور، لكن شياطين العراق الآدمية وحدها ، تنام في الليل وتعمل في النهار ، فترافق الناس في صحوهم وربما تأمرهم وهي في أمكنتها “العالية” أن يحمدوا ويمدحوا ويسبّحوا بإسم أولئك القادة و أحزابهم القائدة المجالدة – في سبيل المصلحة – .
تتباهى الشعوب بالضياء ، وكم جميل أن يقال عن بلاد إنها دائمة الضياء ، ذلك يعني وضوح الرؤية وفعل الحضارة وقدرة الإبداع وتجلّي العقول ، أليس الضياء هو مبعث الحياة ومحرك النشاط في الكائنات جميعاً ؟ هل تطير الصقور في الظلام نحو أهدافها ؟  لماذا تصعد نحو الشمس كي تموت ؟ فأيهما العراقي ؟ صقر يعشق الشموس ؟ أم صدفة يبهرها الضياء ؟ وهل هو الكهف أم الخفّاش ؟ فخّ الحياة  أم طريدتها ؟ أليس هو من وصُف بأنه صلب من الخارج ليّن من الداخل تماماً كالنخلة  ؟ أو ربما هو النهر لايخفي سرّه  ولافي طبعه غدر ؟ هل هناك من يقول : غدّار يانهر ، كما يقال عن البحر ؟ فمن ” غدر ” بالحسين إذاً ؟ هل هو العراق أم شراذمه ؟ ومن جعل الحسين خالداً ذكره ؟ الأرض لاتنتمي للإنسان، بل هو من ينتمي إليها ،وكذلك النهر، لكن بعضنا جاور النهر وانتمى لغيره  . 
النهر هو الشطّ في لهجة العراقيين ، رمز الخصب والسعادة ، ومرآة الأقمار وهي تتلألأ مبتهجة ” وترقص الأضواء كالأقمار في نهر ” .
تقول العراقية لإختها :
” يامسعدة وبيتج على الشطّ”
وعلى هذا ، فكلّ من حكم العراق ، سعى أولاً ليكون ” مسعدة ” فاستولى على ضفاف النهر ؟  
عندما جاء صدام إلى الحكم.، رتع هو وأزلامه في بيوت مجاورة لدجلة.
ترى لماذا أراد مجاورة النهر؟ هل وضع باعتباره الهرب عبره حين ينفجر دم الضحايا ؟أم أراده فعلا رمزياً لأن الجنرال مود حينما إحتّل بغداد عام 1917
دخل من دجلة قائلا : جئنا محررين لافاتحين؟
 أو لأن دجلة رمز الفحولة في النصّ السومري نظراً لقوّة جريانه،  فأراد ” صدام ” أن يستمدّ فحولته من فحولة دجلة  ؟-  وهو مايحاوله حكّام الزمن الحاضر من دون نجاح يُذكر-  .
هل لأن دجلة متمرد دوماً وصعب الإنقياد؟
حاول صدام أن يوحي بأنه ودجلة سواء،لايمكن للعراق العيش من دونهما، وإلا تحوّل إلى صحراء “العراق من بعدي سيكون صحراء ” هكذا نطقها بالفم الملآن .
النهر والضياء يمتزجان في حياتنا منذ الأزل ،واضع أول قانون في التاريخ، أور نمّو،وجدتْ جثته طافية في النهر” حمل النهر جثته وبقي القاتل مجهولاً ”
 سرجون الأكدي مؤسس الإمبراطورية الأولى في التاريخ، إلتُقط من النهر بعد ان رمته أمّه لتتخلص من إثمها، الزانية عند البابليين كانت تُغرق في النهر، قيل أن فحل جاموس أجبر يوماً على تلقيح أمه بعد تمويهها بالأوحال ، وما أن تطهّرت في النهر وبانت حقيقتها ، حتى انتحر الفحل في النهر ذاته .
حكايات العشق ولواعجه ، كتبت على خلجات النهر ، من نشيد الإنشاد السومري ،إلى أغنية هناء ” على شوطىء دجلة مرّ – يامنيتي وقت الفجر ” مروراً بتنهيدات وحيدة خليل ” فرشنا الرمل عالشاطي  وكَعدنا ” وصولاً إلى مناداة الجواهري طالباً من دجلة أن  تحييه ” حييت سفحك عن بعد فحييني  – يادجلة الخير ياأمّ البساتين ” ومن ثم مبدّلاً في وظيفة دجلة ، من الهادر الفحل ، إلى الإنثى الرقيقة (3).
أما  حكايات عبد الشط والطنطل الذي يبقى مجاوراً للشطوط، فطالما أرعبتنا ونحن صغاراً، فكنّا نحاذر الاقتراب من النهر في الليل والفجر ووقت الظهيرة ، ترى متى يسمح لنا ” عبيد الشط والطناطل ” من قادتنا الجدد ، بالإقتراب من ضفاف النهر بعد أن توزعوه ليصبح من أملاكهم ؟
ومتى نجد إجابات لأسئلتنا الخاوية؟
لماذا نهاراتنا ملتهبة ونهاراتهم باردة ؟ لماذا ليلنا قلق وليلهم مطمئن ؟ لماذا ضياؤنا غبار وضياؤهم أنوار ؟ لماذا جيوبهم منتفخة وجيوبنا منكفخة ؟ لماذا نخلص للعراق و” يخلصون ” لغيره ؟.
دجلة الشاهد ، سيصبح قريباً من الشهداء بعد جفافه  ، والفرات رمز المدنية ومنبتها ، سيصبح قريباً رمز البداوة وباعثها بعد ان يتحول مجراه ممراً للشياه المرتحلة .
أما بعض قادة اليوم ، فقد يهجرون العراق محمّلين بما أخذوا وكنزوا من أمواله ، ليأمّوا شطر بلدانهم التي قذفتهم إلينا ليقذفوا حياتنا بكلّ المنغصّات (4).
 ” من يمعن التحديق في الظلام ، يصير الظلام جزءاً من نفسه ” قالها أحد الحكماء ، ويبدو أن حكّامنا قد أدمنوا التحديق في الظلام رغم أنهم يعتاشون من ضياء العراق ،فليت دجلة مازال فحلاً ، فربما كفّ أذاهم عن العراق  . 
(1) – أنشودة المطر – بدر شاكر السياب
(2) – بدأ القصف الصاروخي والجوي الأمريكي في حرب تحرير الكويت عام 1991، الساعة الثانية والثلث فجراً ، ومثلها تقريباً في حرب (تحرير ) العراق عام 2003.
ورغم ان ساعات الفجر هي الموعد المفضلّ لمعظم الحروب – الا حرب تشرين 1973 حيث بدأت في الثانية والربع ظهراً – إلا إنها في العراق لها معنى ذو خصوصية بتاريخيته ومتكرراته . 
(3) يُذكر إن الشاعر الفلسطيني محمود درويش يتغنىّ بفحولة دجلة وعنفوانه ، فيما لايراه الجواهري إلا بغنجه الإنثوي ، فهل هي رؤية شعرية أم فلسفة وموقف ؟    .
(4) يقول أحد مراكز الدراسات الإستراتيجية في إسرائيل ” العراق من أكثر بلدان المنطقة قدرة على إقامة دولة حديثة ومتطورة ، فيما لو توفر له عاملان : فترة من الإستقرار وحكومة عادلة ” .
يبدو أن غيرنا يعرف عنا أكثر مما نعرف ، لذا يسعى الكثيرون في الداخل المرتبط والخارج المتربّص،أن لايتوفر للعراق العاملان المذكوران .