23 ديسمبر، 2024 1:09 ص

النملة ودائرة الطباشير

النملة ودائرة الطباشير

لم يلجأ يومًا لإستخدام المنبه، فهو يستيقظ مكتئبًا مع أول زقزقة لعصافير الشجرة المجاروة لغرفته،.

 

يطيل التحديق في السقف، بينما يبدأ عقله وبملل مراجعة الأعمال التي سيقوم بها اليوم، وهي ذاتها التي فعلها قبل أسبوعين وفي الشهر الماضي ومنذ أكثر من 5 سنوات.

 

يُباشر بالإغتسال السريع وينظف أسنانه، ويسخن الإفطار المؤلف من بقايا عشاء الأمس، ويرتدي أحد القميصين ونفس البنطلون والحذاء يوميًا، ثم يتأكد من إقفال غاز الطباخ وباب الغرفة وشباكها، ويهرول بإتجاه موقف الحافلات حتى يصل في موعده الى العمل.

 

في هذا المكان تبدأ مأساة كل يوم، حين يجلس لاكثر من 8 ساعات الى الكومبيوتر لتعبئة بيانات وارقام مبيعات شركة المنظفات  التي يمتلكها شخص بدين، ذو صوت قبيح يستخدمه في تأنيب وحتى شتم أي موظف يجده خارج الدائرة المرسومة له.

 

يبدأ يومه بإعداد تقرير مفصل عن جميع الأرقام التي جمعها يوم أمس للخروج بحصيلة المبيعات النهائية بعد ان يطرح منها البضاعة التي تم أستراجعها بسبب تلفها او انتهاء صلاحيتها، وعندما تنتهي ساعة الغداء، يبدأ بالتجوال على مندوبي المبيعات وسائقي الشاحنات لجميع البيانات الخاصة بيوم غد.

 

يتوقف قليلًا عن شاحنة (العم حسن) وهي تسليته الوحيدة في هذا المكان، حين يتحدث للرجل السبعيني ذو الوسامة القديمة والخبرة العتيقة في الحياة، والذي لا تفارقه الكتب في أوقات فراغه، ولا الدفتر الذي يًسجل في إقتباساته.

 

أعمال متكررة في مكتب ضيق تفوح منه رائحة الصابون الرديء، وجولات مملة على باقي المكاتب والعاملين في المبيعات، وراتب بسيط يكفي بالكاد لسداد ايجار الغرفة التي يسكنها وشراء طعام متواضع، وقميص جديد كل شهرين وبنطلون كل سنة وحذاء كلما عجز الاسكافي عن إصلاح القديم.

 

يقتنص كل وقت فراغ في العمل للتفكير بالسؤال الأزلي: كيف أنتهى الى هذا الحال بعد سيل من الاحلام الكبيرة وطوفان المخططات الواعدة؟

 

قبل 6 سنوات تخرج من كلية الحاسوب بتقدير جيد جدًا وبترتيب الخامس على دفعته، وباشر فورًا بتنفيذ خطة تدريجية للمستقبل، تتضمن الالتحاق بعمل مؤقت، ثم التقدم لخطبة زميلته في الدراسة والتي يحبها بجنون، وبعدها السفر للعمل في دولة اوروبية متقدمة او بلد خليجي على اقل تقدير، ليعود بعدها ويتزوج ويؤسس بيتًا يضج بالسعادة وصراخ الأطفال الذين يعتزم إنجاب قدر المستطاع منهم.

 

عندما عرض عليه زميل دراسي ان يعمل في شركة عمه الخاصة بإستيراد وتوزيع المنظفات، وافق على الفور وهو متأكد انه لن يستمر فيه لأكثر من نصف سنة قبل ان ينتقل الى الخطوة الثانية والتي لم تأتي أبدًا.

 

يعجز عن تفسير الذي حصل، ولا يفهم سبب حقيقي لنوبة الخوف التي أعترته لاحقًا؛ ففي لحظة تعرضت حياته للإنطفاء، وبات يخاف من الإقدام على اي فعل، ويفكر طويلا حتى في أي وجبة يقوم بطبخها بالرغم من تواضع طعمها وفقر مكوناتها.

 

أرتعب من فكرة ترك العمل في شركة الرجل البدين ذو الاخلاق السيئة، خوفاً من عدم الحصول على فرصة براتب أفضل، وهو الذي يغطي نفقات الشهر بشق الأنفس ولم يستقبل ضيفًا منذ سنوات ولا يتذكر المرة الأخيرة التي تناول فيها وجبته في مطعم حقيقي.

 

لم يتقدم لخطبة حبيبته خوفاً من عجزه المادي، ليس في توفير المنزل والاثاث والملابس، وانما حتى في توفير ثمن الخاتم الذهبي او الزهور والحلوى التي من المفترض ان يحملها معه الى منزلها في يوم عقد القران.

 

طرد من ذهنه فكرة إصدار جواز السفر، فهو يخاف من التقلبات التي قد يتعرض لها في الغربة، وأعتذر من صديقه الذي وفر له عقد عمل في شركة اسيوية متخصصة بالحاسوب ومتحمسه لتطبيق فكرة بحث التخرج الذي أنجزه في الجامعة عن (تأمين تطبيقات البيع الالكتروني من الإختراقات السيبرانية).

 

حتى الأنتقال الى سكن جديد عجز عنه، وبقي متمسكًا منذ اكثر من 4 سنوات بالغرفة ذات الرائحة العطنة، ويبرر لنفسه بانه لا يضمن الحصول على جيران جيدين، وهو الذي لا يعرف في سكنه الحالي سوى محصل الكهرباء، وصاحب الأسواق الذي يطالبه مرارًا بدفع المستحقات التي عليه.

 

يقطع صاحب الصوت القبيح عليه سلسلة أفكاره، ويطالبه بالكف عن تضييع الوقت المدفوع ثمنه، والخروج فورًا الى جولة جمع الأرقام من المندوبين والسواق.

 

يخرج مسرعًا مدفوعًا بقوة شتائم المدير التي لا تقل وجعًا عن السياط التي ألهبت ظهور العبيد في العصور السحيقة وهم يبنون الاهرامات والمعابد، او يشقون الأنهار والطرق والقصور للفراعنة والملوك.

 

يتجه الى مطعم الشركة ويلتقي بجميع المندوبين وينتهي منهم سريعًا ويفعل المثل مع سائقي الشاحنات، بينما يجعل شاحنة العم حسن هي المحطة الأخيرة لإنجاز العمل وتبادل الحديث والحصول على نصيحة قيمة او حكمة او حتى نكتة تُحسّن مزاجه لبقية اليوم.

 

يبتسم العجوز بشكل تلقائي، وهو يضع من يده ديوان شعري تتصدر غلافه صورة لمؤلفه الوسيم : كيف حال خبير الكومبيوتر الأكثر بؤسًا في هذا العالم؟

 

يغتصب ابتسامة باهته: كيف تتخيل حال من يبدأ يومه ويُنهيه بالتحديق في السقف ؟

 

يحافظ السائق على روحه المرحة: أنت الذي تًصر على البقاء في هذا الأماكن البغيضة، ولا تعرف قيمتك الحقيقية.

 

يجاريه في المناكدة: أنصح نفسك أولًا فنحن معًا في نفس المكان البغيض وتحت سطوة البدين ذو الصوت القبيح، خلافك الوحيد عني انك تداوم على قراءة هذه الكتب التي لم يعد يقتنيها أحد سواك.

 

يدعوه للركوب معه في الشاحنة: أنا أخترت عملي وهواياتي، ومابقي من عمري ليس بالكثير حتى أبحث مهنة أخرى أو شغف جديد.

 

يوافقه مؤكدًا: أما أنا فلم أختر هذا الحال، ولا اريد أن ……

 

يحافظ العجوز على إبتسامته: أكمل ولا تريد ان ينتهي الحال بك مثلي، هذا الكلام لا يزعجني أبدًا، وأنا أخترت هذه الدائرة الحقيقية وبقيت فيه ، غير اني أريدك ان تخرج من الدوائر الوهمية التي صنعتها لنفسك.

 

خشيت من فقدان الراتب، فحبست نفسك في وظيفة لا يقبلها حتى من لم يحصل على الشهادة الثانوية، وخفت من مسؤوليات الزواج فتحولت إلى راهب بالإكراه، وأصابك الرعب من فكرة السفر لتبقى سجينًا هنا، ولم تتجرأ على تغيير مكان سكنك، وحتى التدخين فشلت مرارًا في الاقلاع عنه، خوفًا من فقدان لذة وهمية.

 

أطرق رأسه موافقًا ونظر للسائق الحكيم مطالبًا اياه بالإستمرار.

 

يلتقط ديوان محمود درويش، ويقتبس منه: “أنا أهجر الأرض التي لا ترحب بي، وان كلفتني عزة نفسي أن أعيش بلا ارض”.

 

يتأمل العبارة بعمق : هل السفر هو الحل الوحيد لمأساتي ؟

 

يضع العجوز من يده الديوان الشعري: ليس السفر تحديدًا وانما مغادرة كل شيء يؤذيك، الخروج من الدوائر الوهمية التي جعلتها سجنًا بقضبان عالية وتحيط به جدران أعلى، إنهاء حالة الشيخوخة التي تصطنعها وانت في ريعان الشباب، الحصول على وظيفة افضل بدلًا من حالة العبودية التي تعيشها هنا، والإقتران بشخص تُحبه؛ لإنهاء العذابات التي تنهش بجسدك وروحك عندما ينتصف الليل.

 

يُخفض السائق من صوته الذي أرتفع بشكل لا ارادي: كُن على ثقة بان الذي ستجده عندما تتخذ أي خطوة تغيير سيكون أفضل من الجحيم الذي تحيا به.

 

يوافقه بحركة من رأسه: من أين أبدأ؟

 

ينظر العجوز إلى ساعته، ويستعد للتحرك بشاحنته: دعني أخبرك بقصة أخيرة كنت شاهدًا عليها، حين كُنت في المدرسة الابتدائية أعجبتني لعبة  النملة ودائرة الطباشير التي كان يمارسها التلاميذ في ساحة المدرسة.

 

ينظر إليه مستفهمًا عن هذه اللعبة.

 

يأخذون نملة ويضعونها على ارض مُعبدة، ويرسمون حولها دائرة بأستخدام الطباشير المتبقي من الأساتذة، ونراقبها وهي عاجزة عن الخروج من الدائرة، حتى يقوم احد الطلاب بمسح هذه الدائرة وإطلاق سراح النملة المسكينة.

 

يقوم بتعديل وضع المراة الداخلية وضبط المقعد: هل فهمت المغزى من القصة ؟

 

يُحرك راسه موافقًا وينزل من الشاحنة، التي ابتعدت في الحال، يمشي بهدوء في ساحة السيارات شاعرًا  بأنه فقد حاسة السمع تمامًا، ويتوقف رافعاً راسه الى السماء وقد أتخذ قراره النهائي بعدم التحديق في السقف حين يستيقظ في صباح الغد.