في ندوة فكرية من السينمائيين والنقاد الألمان موسومة “حاضر النقد السينمائي”، الموضوع الذي يتعلق بواحد من أهم فنون الفيلم الفنية والإنتاجية والتسويقية. نظمها في منزله أحد الاصدقاء الصحفيين لغرض الحوار وتبادل الآراء بعد أن أصبح تعطل العديد من المهرجانات والفعاليات السينمائية العالمية في أغلب البلدان التي تقيم عادة مهرجاناتها السينمائية السنوية في مواعيدها، أمراً لا يمكن تحمله على المستويين الحرفي والمادي. بسبب تفاقم جائحة Covid -19 وتأثيرها على نشاط الصحفيين لاسيما النقاد، بسبب الالتزام بقوانين التواجد المباشر. إذ لم يحالف الحظ الكثير من الصحفيين إلا أعداداً محدودة، ومتابعة أحداث المهرجانات عبر منصات الأرقام الافتراضية. بالطبع لم يكن الهدف من هذه الندوة التي أتيحت لي فرصة المشاركة فيها مناقشة الأمور السالفة، إنما ظاهرة ممارسة النقد غير الرصين في وسائل الإعلام المرئي والمقروء، المتعلق بمواضيع السينما حصراً، على أساس أن النقد السينمائي من ناحية “المقاربات الحرفية” لم يعد يقتصر على نخبة من النقاد المحترفين المتخصصين، إنما دخل على هامشه ممن يجهلون تعريفه وحتى مناهجه البليغة. وكان من بيننا ناقد سينمائي، كتب النقد وهو في الثامنة عشر من عمره وأصبح محترفاً حين أسندت إليه وهو في الخامسة والعشرين مهمة الكتابة في صحيفة يومية لتحرير قسم الأفلام المعاصرة، ثم عمل محرراً وناقداً في مجلة سينمائية في باريس. إلى جانب ذلك عمل مستشاراً لمهرجان سينمائي أوروبي، وكتب النقد السينمائي في الكثير من المهرجانات العالمية وله العديد من الإصدارات والمنشورات الهامة.
الحديث في موضوع النقد ونحن نتحدث هنا حصراً عن النقد السينمائي، موضوعاً هاماً، سيما وإن دراسات علمية حول تعريفه بشكل دقيق، نادرة، أو تكاد أن تكون في أغلب الأحيان قاصرة. وأن ثمة اعتبارات لا تزال تقف عائقاً أمام تطور أساليبه. على المستوى العربي مثلاً، هناك افتقار إلى أقسام تخصص عصرية ومراكز أبحاث ومعاهد وأكاديميات سينمائية وندرة المحترفين في هذا المجال وإناطة مكاتب خاصة بهم في دور الصحافة والإعلام، الأمر الذي أتاح لغير الحرفيين الذين يجهلون الفرق بين النقد والتحليل ولا يملكون مهارات، يمارسون النقد دون أن تكون لديهم الكفاءة والاختصاص.
طرح في مستهل الندوة سؤال: هل لا يزال النقد السينمائي العالمي “أنا أضف ـ أو العربي” ضرورياً في عصر التكنولوجيا ولماذا؟. وهل النقد إبداع ـ أم ليس إبداعاً؟. أجاب أحدهم: بأنه لا يستطيع أن يحكم على ذلك، بقدر ما يجزم بأنه خط فاصل بين الفيلم والجمهور. ثم عرج، لإيجاد مقاربات لتفسير فلسفة النقد السينمائي، وإشكالية تعريف مصطلح النقد؟ ومن هو الناقد؟. فكلا التعريفين كما يقول ما زالا يثيران جدلاً فكرياً متصاعداً بين نقاد السينما في وسائل الإعلام.
كلمة نقد كما هو دارج في اللغة العربية، تعريف غير متوازن، ولا يتواءم مع دلالات المصطلح في اللغات الأخرى كالإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، حيث لا توجد مثل هذه المشكلة اللغوية، بين المصطلح ومصدر الكلمة. إذن ما هو النقد ككلمة ومن ثم كمفهوم؟. أصل الكلمة لا يعني ما تعنيه اليوم. ليست هناك كلمة مرادفة والصياغة المعمول بها تعني الإشارة إلى ما هو سلبي ـ حسب الكلمة ذاتها.. نقده بالعربية أي دفع له، ونقده بالدارجة أي انتقد ما عليه. أما الناقد؟. كما يفسره علم السينما، هو مَن يقوم بقراءة الفيلم قراءة معرفية تتجانس مع اختصاصات مهنية وفكرية من حيث الدقة والموضوعية. كذلك هو من يؤول على نفسه مشاهدة كل الأفلام بصرف النظر عن هويّتها ونوعها وما يعجبه وما لا يعجبه. من يتبحّر في ماضي السينما كما في حاضرها، ويفهم في العناصر المكوّنة للفيلم، الفنية والتقنية والفكرية، ويستطيع قراءة الفيلم ليس بطروحاته الفكرية أولاً بل بما يتألّف الفيلم مهنياً وفنياً. والمهم من يتمتّع برؤية إنسانية من النوع ذاته، يراها أساسية للحياة البشرية على الأرض.
إذن ما هو النقد السينمائي؟ هل هو عملية إبداعية؟ هل هو عملية ضرورية؟ من يحتاج إلى الناقد والنقد؟. على هذه التساؤلات كلها تتمحور الإجابة حول حقيقة أن العمل النقدي عمل في الأصل غريب وغير منخرط بين الأعمال الثابتة والقائمة على حرفيات محددة كالإخراج والتمثيل والتصوير الخ.. لكنه عمل قائم بلا ريب يرتاده حالياً عديدون ولو أن معظمهم لا يعرف الكثير عن السينما لينقد فيها.. إذا ما كان ضرورياً فإنه ليس ضروريا بمجرد طرحه، بل باستكشاف وظيفته التي هي، اتخاذ خط وسطي يقع على مسافة واحدة من العمل الإبداعي والجمهور، ويوفر المعلومات الكاملة للمشاهد وتركه يختار المناسب لذائقته وثقافته. بذلك، يكون مشاهداً أفضل وناقداً مستقلاً.
لكن هل النقد رأي؟ أعتقد بأنه أبعد ما يكون عن مجرّد رأي. هو علم ومعرفة يفلترهما الناقد “مع تحفظي على كلمة فِلتر” حيث لها مرادف بالعربي “غرْبَله، وصفّاه، واختار لبابَه”، في صياغة عليها أن تتوجه إلى جميع القراء بمختلف مستوياتهم بوضوح مهما كان الفيلم خاصاً. كل إنسان لديه رأي، ما يميّز الناقد أن لديه المعرفة، لكن علينا أن ندرك ما تفعله التكنولوجيا الحديثة بالنقد السينمائي؟. ما فعلته هنا هي ما تفعله في كل مكان تذويب الهوية الفردية إلى ذات تستطيع أن تشترك في الكتابة وإبداء الرأي من دون مرجعية أو معرفة، وبالتالي تذويب الهويات الثقافية والوطنية إلى مفهوم القرية الكونية. هذا دفع بالعديد من الكتبة الحديثين إلى الانتشار مما أسهم في تعميم النقد الناقص مقابل النقد الصحيح والتشويش على استيعاب الجيل الجديد لماهية المطلوب والدور المناط بالنقد.
من كل ما ورد، نفهم بأن تحليل الفيلم في إطاره النقدي هو إجراء مختبري لتفكيك الصور المتحركة، أي كل تفاصيل عمل الكاميرا، بمعنى تفسير نقاد السينما لأحداث الفيلم وصناعته، لا إعدادهم بروتوكولات.. أو بمعنى آخر هو اللحظة الحرجة لتقييم جودة الفيلم والتركيز على عوامل الجذب فيه.
مع بداية النهضة التجريبية الأولى لإنتاج الأفلام، كان النقد السينمائي في بداية القرن العشرين لم يصل بعد إلى مستوى من الأهمية. لكن عندما بدأت الأفلام الدرامية تظهر وتكون من الناحية الفنية والتقنية أكثر تعقيداً، ونزوع الفيلم بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية للانتقال من لغة الخطاب إلى الاهتمام بالجوانب الجمالية، حيث كان انتقاد الفيلم في كثير من الأحيان أداة للفكر السياسي والعقائدي، أصبح المشروع النقدي للأعمال السينمائية مع موجة التغيير الجديدة لمفهوم الفيلم بشكل عام أكثر رواجاً، كما أفرز على المستوى العالمي نخبة من الكتاب للتخصص باتجاه ممارسة هذا النوع من العمل الصحفي ليصبحوا نقاد سينما محترفين في وسائل الإعلام. لكن ما الذي قادهم لمثل هذه المهنة التي تتطلب الكثير من المتابعة والجهد؟. أعتقد السبيل كان غايته ثلاثة أهداف رغبة الناقد بناء علاقة ثنائية بين الفيلم والمتلقي، إيجاد تمايز بين توثيق الفيلم وأوجه المقارنة في أساليب الإنتاج، صحفياً كشف معايير الفيلم الفنية القيّمة وأهمها اللغة البصرية والنص والحركة لإشباع فضول المتلقي إبداعياً.
إذن مهمة الناقد الرئيسة عند تناول الفيلم بالمستوى اللفظي والنقد السينمائي المثالي، بالإضافة إلى تفسير خصائصه الجمالية والتعبيرية والبنيوية المتنوعة، التصدي لمعلومات الفيلم وبياناته الإنتاجية والمرجعية ـ البلد المنتج، نوع وطول الفيلم، رجال الكاميرا، أسلوب التصوير، المخرجين والممثلين والمنتجين، علاوة على الخبرات والمهارات التي يمتلكها طاقم الفيلم من ألفه إلى يائه، وبالتالي، وهو المهم، ستصبح هذه التفسيرات والتقييمات وسيلة لتواصل الفيلم مع الجمهور وسوف يكون ناقد الفيلم وسيطاً بين المنتج والمستهلك وانتقاد الفيلم جزء من الصفقات بين المجتمع والسياسة والاقتصاد.
والنقد السينمائي من وجهة نظري، بالإضافة إلى كونه حرفة وحلقة الوصل بين السينما واندفاع الناس إليها. فهو وسيلة لتقييم مقومات الفيلم الأساسية السيناريو والتصوير والمونتاج، أيضاً إضاءة جوانب الفيلم البنيوية على قاعدة الدفع باتجاه الإثارة والتأمل، كما يُعتبر النقد أحد مكونات صناعة السينما “الفيلم” وتسويقه. وإذا كان النقد السينمائي يعتمد الموهبة، فعلى الناقد ألا يوغل في وصف النقد للناقد عندئذ يصبح النقد من الناحية المعرفية والإعلامية لا قيمة له ولا ينسجم مع رغبات المتلقي واهتماماته. عليه أن يقوم بترتيب الوصف وتفسير قيّم الفيلم المفصلية، الفنية والجمالية، كجاذبية الظل والحركة أو الرمزية والانفعالات النفسية والاجتماعية والسياسية، ليتسع النقاش ليس بين الحرفيين وأصحاب الاختصاص وحسب، إنما بين القراء أيضاً.. ويبقى النقد السينمائي بما في ذلك الحديث أو استعراض فيلم في وسائل الإعلام كالصحف والمجلات أو الراديو والتلفزيون، عمل صحفي اختصاصي له من الأهمية التنويرية في الحياة السينمائية والمجتمع.