18 ديسمبر، 2024 9:14 م

النظريات الجميلة والممارسات البائسة

النظريات الجميلة والممارسات البائسة

ثلاثون سنه على انهيار الاتحاد السوفيتى
ان جميع النظريات الاجتماعيه الاقتصاديه تحمل افكارا ايجابيه لبناء المجتمع والارتقاء بالانسان والتاكيد على انسانيته وكرامته ونشر تعاليم الاخلاق والفضيله وتوطيد الامن الاجتناعى , هذه النظريات الاجتماعيه وحتى الاديان السماويه تقوم على حالة مثالية من قوة ومنطقية الافكار واجتماعية الانسان واستعداده لفعل الخير والعمل المشترك مع الاخرين, و تمثل حالة انعكاس عن معاناة كبيره متواصله عانت منها شرائح واسعه من المجتمع وقد تم صياغتها من قبل انبياء, علماء ومفكرين قد شغلهم الواقع المزرى المعاش والتى قد بلورة لديهم فكره دراسته وادراكه والوقوف على الاسباب والقوى الفاعلة المؤثره فيه. ان جميع النظريات الاجتماعيه, عدا النظريات العنصريه صحيحه ومنطقيه وتقوم على هيكليه نظريه قويه, ولكن مع العمل بهذه النظريات فى بناء المجتمع والدوله تبين تدريجيا ونشك واضح فشلها بدرجات متفاوته مع الاهداف والطموحات التى قامت من اجلها, انها بشكل او باخر لم تجد الطريق المثالى فى التفاعل مع الواقع الاليم المعقد والمركب وتكسب الجماهير التى كان قد وجدت من اجلها بالرغم من جدلية الافكار ورصانتها وتتحولت احيانا الى حركات اجتماعيه ذات منظمومه من الافكار والايديولوجيه والممارسات اليوميه للمتنفذين التى قد زدات الواقع تعقيدا وافرزت مشاكل وكوارث اجتماعيه كبيره استمرت عالقه مع استمرار هذه النظريات باجهزتها التنفيذيه والامنيه.
ماذا بقى من نظرية كارل ماركس فى تطور المجتمع البشرى نحو مجتمع موحد غير طبقى ” المجتمع الشيوعى” الذى يعيش فية المواطنين دون حاجه وعوز وبساعات عمل قليله ويقضى الانسان يومياته بالقراءة والتمتع بمباهج الحياة بعد العمل بها فى تجربة الاتحاد السوفيتى وتطوره الى دولة عطمى,…. وماذا تبقى من راسمالية ادم سميث ومبدأ ” دعه يعمل دعه يمر” والتى تعنى بشكل ما, ان جملة نشاط السكان يعنى تطور المجتمع وتعاظم ثرواته وهى ايضا تعنى نجاح الانسان مرهون بالجهود الفرديه والنشاط الدائم فى عمله. اننا منذ نجاح البرجوازيه وثورتها الاجتماعيه القائمه على الصناعه والمعامل ومختلف صور الراسمال امام سلطة طاغية من اصحاب المعامل والبنوك والشركات المتعددة الجنسيه التى تتحكم فى مصير الشعوب ولا تتورع فى شن الحروب ضد بعضها واستعمار البلدان ونهب ثرواتها, وكما يبدو فان هذه الدول,العالم الثالث, وهذه الشعوب قد فقد بوصلتها الذاتيه وهى ليس خاضعه للقهر المباشر والارهاب وانما ايضا بديون البنوك والمؤسسات الماليه الى لا يمكن الخلاص منها.
من المعوقات الرئيسيه للتجربه “الاشتراكيه” فى روسيا منذ عام 1917 الواقع المتخلف فى روسيا المتنامية الاطراف القائم على الاقطاع والحكم الدكتاتورى الاستبدادى لعائلة رومانوف. منذ نجاح الولشفيك بقيادة لينين فى الوصول الى السلطه اخذت تتصاعد الجهود مبكرا فى تكييف الواقع المرير لروسيا المتخلفه للنظريه الماركسيه وليس النظريه للواقع الروسى فى الشروع بتغيرات اصلاحيه مؤثره وليس باجراءات ثوريه عميقه, علما بان ماركس اكد مرارا بان نظريته تنطلق فى مجتمعات صناعية متطوره يحمل العمال ” البروليتاريا الصناعيه” بوعى طبقى عالى امام اصحاب العمل “البرجوازيه” كنقيضين فى حالة صراع حول علاقات الانتاج. ويشير الى المانيا كنموذج لتطورهذه الثوره. الا ان الواقع الروسى يختلف تماما عن التركيبة الاجتماعية والاقتصاديه فى المانيا وبذلك فان تطور مستوى العلاقات الاجتماعيه وتوفر قسطا من الحريات ومجتمع مدنى له تاثير فى خلق وعى اجتماعى واستعداد لتقبل وفرض تغيرات اجتماعيه واقتصاديه. لم تكن” ثورة اكتوبر 1917 فى بدايتها ثورة جماهيريه وانما حركة نخبويه من الذين استطاعت بقيادة لينين ورفاقه الاشتراكيين الحزبين المؤهلين والمدربين سياسيا الاستيلاء على السلطه كما ان قاعدتهم الجماهيريه لم تكن كبيرة واسعه تتوسطها كفاءات مهنيه, اداريه وعلميه تستطيع تبنى مهمات “الثوره” وتنظيم عمل مؤسسات الدوله وادارة عملية الانتاج وتدور ماكنة الدوله بدون معوقات كبيره وتوصل التغيرات الى الجماهير التى بأمس الحاجه لها. فى حضور هذه الشروط قد تبنت الثوره الجهاز الادارى الذى كان مخلصا لحكم الرومانوف وكان معوقا ومعطلا لاغلب القرارات التى اتخذتها “حكومة الثوره” ويشير لينين الى الاخطاء الكبيره تبنى الجهاز الادارى الموالى والداعم للسلطه القديمه. وكما هو مغروف فان الثوار فى عجلة من امرهم وبذلك فانهم يتخذوا قرارات مصيريه لم تخضع لحسابات دقيقه من حيث الحجم, النوعيه الميادين, الكوادر …الخ لقد احذت التغيرات الكبيره تتوالى, عمليات عمليات تأميم المصنع والبنوك وفرض نظام الكلخوزات فى العمليه الزراعيه وتجريد الملكيه الخاصه والتى لم تلقى استجابه من الفلاحين وصعار الملاكين ولم يتمكن الاتحاد السوفيتى بعد سنين طويله من تطوير العمليه الزراعيه وتجاوز النقص الدائم فى تجهيز الشوق بالمواد الغذائيه, والمثال الصارق يتجسد بما حصل فى اكرانيا التى كانت تعتبر الرائده الاوربيه لانتاج الحبوب, وما حصل من مجاعات فى عدة سنين. ثم جاءت عملية تصنيع وكعربة روسيا التىانجزي بزمن قياسى ولكنها قد كلفت بضعة ملايين من العمال والمهندسين والاداريين. تحت تاثير هذه العمليات الكبيره ومتطلباتها الكبيره النوعيه من المهندسين والاداريين والقوى العامله المدربه والتى لم تكن متوفره وبنفس الوقت الجهاز الادارى الذى غالبا لم يكن متجاوبا مع الثوره كان لابد من العمل على بناء جهاز امنى يعمل على المراقبه وضمان الحد الادنى من انسيابية العملية الاجتماعيه والانتاجيه والذى اخذ بالضروره يتوسع وتتوسع معه الصلاحيات, هذا بنفس الوقت جهاز الحزب الشيوعى الذي اخذ يتوسع بسرعه وبشكل مطرد وبلغ عدد الاعضاء قبل نهاية الاتحاد السوفيتى حوالى 20 مليون عضوا والذين قدموا طلب الانتماء لمختلف الاسباب والنوايا., هذا بالاضافه الى جهاز امن الدوله الـ KGB , هذه الاجهزه الامنيه كانت اليد الطولى فى الدولة والمجتمع التى تثير الخوف والرعب وافرزت حالت الخوف والشك والرعب فى نفوس المواطنين ويكاد جميع المواطنين معروضون للاتهام ,الااعتقال ,الخطف والاغتيال لمجرد اخباريه معرضه من مخبر امنى تافهه. كانت سنين حكم ستالين عنجهيتة , شكوكه المريضه ونزوعه للعنف احد الاسباب الرئيسيه فى توسيع الخندق الذى يفصل الشعب عن الحكومه والدوله والذى توسع مع مرور الزمن. وخلق روح التذمر والشك وقلة الولاء, ان الانقلاب فى عام 1917 تحول مع الزمن الى “ثورة اكتوبر العظيمه” لانجازاتها الرائده فى البناء الصناعى والتطور العلمى والخدمات الاساسيه فى مجال التعليم, الصحه , السكن الفنون ومشاريع البنيه التحتيه بمختلف حقولها والتى كانت تقدم مجانا للمواطنين, هذا لم يعد العامل مهدد بالعطاله فقد تعهدت الدوله بحق المواطنين بفرص العمل وتامين مقومات الحياة الماديه. ان الحكومات المتواليه فى الاتحاد السوفيتى لم تستطيع تطوير عملية الانتاج واستمرت هذه الحاله حتى نهاية الاتحاد السوفيتى, فقد اخذت الحكومات تغالى فى رفضها لاساليب التحفيز المادى ولم تحضع عملية الانتاج الى حسابات اقتصاديه معمليه ولم تضع جدولا تحدد فيه ساعات, وقت الانجاز وعدد العمال لانجاز مختلف انواع البضائع للبضائع وعدد العاملين وتحديد نسبه معينه من الفائض المادى الذى يمكن استخدامه فى الاستثمار فى منتجات اخرى. ان اعتماد مبدأ بطل الانتاج الاشتراكى وتكريمه لم يلقى استجابه كبيره من العاملين, من ناحية اخرى فان مدراء المصانع والاداريين لم يتم اختياره وفق مبدأ الرجل المناسب فى المكان المناسب وانما كان الانتماء الحزبى والدرجه الحزبيه اكثر فاعلية من التخصص مما ساعد على برز البطاله المقنعه. ان مؤسسات الدوله الانتاجيه والخدميه كانت تشير الى اوليات من التنظيمات المافيويه والتى طورت اساليب الغش والاختيال ووفتحت لها قنوات تجنى منها عوائد كبيره. من ناحية اخرى فقد تم تأميم مصانع ومؤسسات خدمية صغيره اخذت تدار من قبل الدوله, مما ادى الى تضخم عدد العاملين وبدرجات مختلفه دون ان تعطى اى مردود للدوله وانما اصبحت تشكل عبئا ثقيلا عليها. ما هى فائدة تأميم مطعم, او ورشه خدميه ومحل حلاقة….الخ, ولماذ لم يفكر بفتح افاق لذوى التخصصات والابتكارات ودعمهم وربطهم بما يفيد الدوله والاقتصاد فى تجهيز مصانعها بمختلف المنتجات المكمله؟ مما لاشك فيهه فان المعسكر الغربى قد اعلن العداء للاتحاد السوفيتى ومكافحة الشيوعيه واخذت تخطط وتدعم جميع القوى والدول وبمختلف الوسائل فى احتراق الاتحاد السوفيتى وتقويض مسيرته ونجاحه فى الكثير من الحقول , بحوث الفضاء الرياضه البحث العلمى والصناعات العسكريه وكان الغرب تحت قيادة امريكا فى احلافه العسكريه وتطور صناعاته العسكريه يشكلون جبهة قوية غنيه متراصه وتقوم على الحريه وحقوق الانسان والديمقراطيه, وليس اخيرا الرفاه المادى والمجتمع الاستهلاكى الذى يوفر مقومات الراحه والسعاده والمعاصره التى لم يتمتع بها المواطن السوفيتى الا بشكل محدود جدا. صرح الرئيس الامريكى كنيدى فى بداية الستينات بعد نجاحات الاتحاد السوفيتى فى علوم الفضاء ” رحلة غاغارين واخرين” : اننا سنفرض عليهم التسليح والاهتمام بالصناعات العسكريه بحيث لا يجدوا ما يكفى للاستثمار فى البضائع الاستهلاكيه واليوميه. هذا ما حصل فعلا وتصاعد بمرور السنينو ويمكن التاكيد بان الدول لا تسقط من الهديد الحارجى وانما بنوعية الانظمه الداخليه ومدى استجابة المواطنين معها فى ساعات الخطر وتهديد المصير.
ان انهيار الاتحاد السوفيتى حسارة كبيره لحركات التحرر فى العالم الثالث وكانت دولة قد استقبلت برحابة صدر وضيافه وكرم شباب من دول العالم الثالث الذن حصلوا على درجات اكاديميه وتخصصات علميه كان الكثير منهم عونا لبلدانهم.
لم يكن فى تناقض ضمنى للنظريه الماركسيه وانما فى تكييف وتغيير الواقع البائس للنظريه الماركسيه بما لايتجاوب معها مبدئيا. ان انهيار الاتحاد السوفيتى تمثل اول تجربه لم يكتب لها النجاح لبعض الاسباب التى ذكرناها ولكن الاشتراكيه وتحرير الانسان يبقى هدفا وطموحا للفكر الانسانى فى كل مكان.