23 ديسمبر، 2024 1:14 ص

النضوج وتذوق متع الحياة

النضوج وتذوق متع الحياة

في طفولتي لم يكن يوم الثلاثاء من الأيام المحببة الى نفسي… لسبب بسيط وهو ان مطعم مدرستي عادل الأهلية كان يقدم وجبة السبيناغ مع الرز يوم الثلاثاء وكنا مجبرين على تناولها شئنا ام أبينا . كنت نحيف البنية آنذاك وضعيف الشهية للطعام لذا قرر اهلي ان يسجلوني في مطعم تلك المدرسة الرائعة كي أكون مجبرا على تناول وجبة حارة في منتصف النهار . واعتقد ان سبب كراهيتي للسبيناغ كانت بسبب لونه الأخضر الداكن عكس كل انواع المرق الاخرى ذات اللون الأحمر الجذاب … والسبب المهم الاخر ان اثنين من اقرب أصدقائي كانا يكرهان السبيناغ لذا سرت عدوى كراهية السبيناغ الى نفسي الغضة من حيث ادري ولا أدري . 
تخرجت من تلك المدرسة الابتدائية ولم اذق بعدها السبيناغ لمدة ثلاثين عاما… الى ان أقنعتني يوما زوجتي وهي طباخة يشار لها بالبنان ان أتذوق ملعقة واحدة منه فقط فأن كانت كراهيته متأصلة في نفسي الى الان فلن تقدمه لي أبدا … فأخذني الفضول ان اختبر طعمه بعد كل هذه السنين ويالغرابة ما أحسست… فقد كان طعمه لذيذا على عكس ما كنت أتوقع .. ومن يومها أصبحت من عشاق السبيناغ المخلصين .
وحدث نفس الشيء معي في اكلة السوشي والساشيمي… حيث كنت في السابق اكاد اتقيأ من مجرد تخيل إنسان يأكل سمكاً نيئاً او رزاً مسلوقاً وملفوفاً في أعشاب بحرية الى ان اقنعني بعض زملائي من الطلاب ذوي الجذور الصينية حينما كنت ادرس في جامعة بريتش كولومبيا في فانكوفر قبل خمس سنوات فقط ان اصطحبهم الى مطعم سوشي . أخبرتهم بأني قد أسبب لهم حرجا بنفوري من ذلك النوع من الطعام  فطمأنوني الى انهم سيطلبون لي وجبة متوازنة تنسجم مع هاوي وليس محترف في اكل السوشي فقبلت على مضض . وكما حدث لي مع السبيناغ وقعت تدريجيا في غرام السوشي والساشيمي بحيث اصبح الان وجبتي المفضلة ومصدر سلواي اذا تناولت وجبة ما خارج المنزل .
ان الأفكار التي نؤمن بها ونظرتنا نحو الحياة تشبه الى حد كبير كراهيتي السابقة للسبيناغ والسوشي وعشقي لهما الان… فما كنا نعتقد سابقا انها الحقيقة الساطعة التي لا جدال فيها قد نكتشف الان ان هنالك زاوية معينة في تلك الحقيقة لم تكن ماثلة امام اعيننا في السابق وانه ينبغي لنا ان نعيد النظر فيها… وكلما اطلعنا على ثقافات وتجارب واديان الشعوب الاخرى بنفسية متفتحة غير منغلقة سنخرج باستنتاجات مغايرة لما آمنا به طيلة حياتنا الماضية . من سوء حظ الرجل المتزمت الذي يعيش في قوقعة ذاتية انه لا يدرك ان حياته قد تمضي و انه سيحمل يوماً الى قبره وهو يجهل تماما ان هنالك حزمة كبيرة من المتع ومباهج الحياة الحسية والفكرية قد فاتت عليه وانه استهلك عمره مشاهداً الحياة بالتلفزيون الأسود والابيض الكئيب من غير ان يتيح لنفسه فرصة التمتع بالتلفزيون الملون الذي يبهر العين جمالا وبهجةً .   
بين حين وآخر أتعمد مشاهدة بعض القنوات التلفزيونية العراقية التي تبث مشاهد من حياة الناس اليومية في شوارع وأسواق مدن العراق فأصاب بأحباط مؤلم حين استمع الى ما يقوله الناس هناك… لقد غرقوا في لجة متطلبات الحياة اليومية الاساسية ثم تاهوا بين جيوش من سياسيين فاسدين ورجال دين ممن يلوثون نهرا عريضا بمجرد ان يمدوا إصبعهم فيه…. الاستنتاج الوحيد الذي اخرج به ان شعبنا المسكين هناك لم تتح له مشاهدة التلفزيون الأسود والابيض بعد… انهم لا يزالون في عصر السينما الصامتة.

 [email protected]