22 ديسمبر، 2024 10:15 ص

النص والنص المخبوء.. في (أراجيح الياسمين) للروائي زيد عمران

النص والنص المخبوء.. في (أراجيح الياسمين) للروائي زيد عمران

2-1ِ
يمتلك الروائي زيد عمران قدرات عالية الجودة، في مشغله الروائي المتنوع وهذا يؤكد على إصراره في مواصلة المنتوج الروائي المميّز، فهو يشتغلُ على موضوعات ساخنة، وبأسلوب روائي مشوّق: لمستُ ذلك في روايته (دكة مكة) والروايات الثلاث الصادرة عن دار المكتبة الأهلية في البصرة (أراجيح الياسمين) (عمى ألوان) (خريف البرتقال) ولمست ذلك أيضا في الروايتين الصادرتين عن دار الحلاج: (57) و(الأخرس).. أقول ذلك خلال تكرار قراءتي للروايات ضمن مخطوطتي النقدية عن الأعمال الروائية للروائي زيد عمران. وهو لا يعوّل فقط على الموضوعات الصادمة، بل يمتلك مهارة في توظيف الهندسة الروائية الموائمة لنصوصه الروائية.. و جغرافية رواياته لا تتقيد بمكان واحد، أو زمان واحد.
(*)
مغزل نسيج (أراجيح الياسمين): يتشكل من تناول الحياة صوفياً، ويكون ذلك بالمحبة المصفاة، المتجسدة في الصفحة الأولى من الرواية، في تمازج التاو الصيني والوصايا العشر التوراتية . تبدأ التعاليم بالحلول الصوفي
(الحُب إله خالد، يختبئ في الغيم. في المطر. في التراب. على حوافّ الإسفلت. في ثقوب أقفال الأبواب. بين أشجار التفاح. في المشاحيف الجنوبية. بين القصب الذي سيصير نايات. في المحطات. في المطارات. تحت الجسور. في الجامعات.)
تلاحظ قراءتي: أن الحب كامن في الأشياء، أعني كمونهُ متأهب للتجسد في الذات الإنسانية، فالتجسيد وحده يستولد للحب رئتين وقلباً، وهذا يعلنه السارد الحيادي في قوله (يختبئ وينتظر حتى يجدك ليستقر في قلبك) والسارد الحيادي يوّظف نفسه واعظا في النص ويعد القارئ (..فلا تيأس إن لم تكن قد صادفته من قبل) ثم يتذرع بنظرية الاحتمال (ربما كان وعاؤك مليئاً) ثم يدفع هذا السارد الحيادي نسقا ثلاثيا، وبالنسقية ينتقل من المحتمل الافتراضي إلى المحاولة :

(حاول أن تغفر. أن تسامح. أن تنسى)
(حاول أن تكنس قلبك من غبار اليأس، كي تُغري الحب ليدخل إليه)
(فقط حاول، وستحصل على الحُب في النهاية)
(*)
يحق لقراءتي أن تعتبر ثلثيّ الصفحة الأولى من الرواية: عتبة نصية بوظيفة (مقدمة) تخاطب القارئ أن (أراجيح الياسمين) من الروايات العاطفية، وسيبتهج القارئ العادي وتندفع شهوته وشهيته للقراءة. وسرعان ما يتوقف هذا القارئ العادي، فهو لم يحصل على حلويات السرد ليلتهمها !! فالرواية لا تشتغل أفقيا وليست من طبقة سردية واحدة، وخيوط السرد الروائي في (أراجيح الياسمين): تتجاور وتتوازى وتتقاطع ومن خلال هذه الهندسة الروائية يكتمل النسيج المبهر للرواية
(*)
في الصفحة الأولى نفسها بعد، المقدمة الروائية غير المعنونة، ينتقل السرد من الخارج / العام.. إلى الداخل / الخاص .
(لليوم الثالث على التوالي يحضر الرجل العجوز إلى المستشفى ويجلس قرب صديقه، الغائب عن الوعي، ويقرأ له مِن مفكرته) والمقروء لا يصل إلينا كقراء، وللمقروء وظيفة تجسير بين الفكر/ التفكر والمدونة ومن خلال هذا التفكر يحاول الصديق إسعاف ذاكرة صديقه الغائب عن الوعي. ثم ينتقل تواصل الرجل العجوز من قراءة المسطور في المدونة، إلى التهامس الشفاهي: (أغلق المفكرة. قرّب كرسيه أكثر. وضع يديه على السرير و أنحنى قريبا جداً من رأسه ووضع أذنه على فمه) ثم ينتقل السارد من الخاص إلى حميمية الذاتي، هنا يتحدث الزائر عن نفسه ليواصل الحديث مع صديقه، ويحل ضمير المتكلم (عدتُ من اسبانيا../8- 9) وقراءتي تكون إصغاء، فالقارئ ليس هو المخَاطب بل المصغي. في نهاية الفصل الثالث/ الأخير، وتحت العنوان الفرعي (البداية /207) نكون مع صوت أنثوي يخاطب العجوز الراقد في المستشفى، ومن خلالهما يعرف القارئ: إنها ممرضة اسمها كاترينا…) وينتهي بثها عند منتصف الصفحة ليخبرنا السارد الحيادي: أن المريض يرقد في فوق سطح المدينة، جوار نافذة زجاجية كبيرة يتأمل السكون المثلج الرابض على المدينة، ثم يتأمل المعدات الطبية التي تطوقه في الغرفة، ثم تعود كاترينا ويعرف منها أنه في المشفى منذ أربعة أيام، وهذه الأيام هي الزمن الأفقي في الرواية، ومن خلال هذه الايام تندلع الأزمة والأمكنة في الرواية. ويكون السرد الوجيز للكثرتين: الأزمنة والأمكنة من خلال سرد نافذة الغرفة التي يرقد فيها، وهنا يتجسد (تكتيف السرد) كالتالي:
(أشياء كثيرة مرَّت على نافذته. كل الشرق مرّ من هناك. ملوك النوبة على أفيالهم، تتعثرُ أرجلها بحبال غليظة ٍ تسحب حجارة الجنوب إلى الشمال. الفراعنة مرُّوا كذلك تجرهم أهراماتهم تارة، وتارة ً يجرونها. تنانين حمراء طويلة وملتوية، راحت تزدحم على النافذة، لكنها ابتعدت مع تقدم قوارب السومريين القصبية. شيئا فشيئا تحول لون القصب إلى الذهب. تجمعت القوارب الذهبية بكثرة، حتى غطّت الشمس كل ذرات النافذة ../ 209)
(*)
حين أقول (النص المخبوء) فأن قراءتي ترى تلاقحا مشروعا يستثمره منتج النص مع النصوص التي سبقته، ويعمل على اجتراح جهوية جديدة للموضوعة ذاتها، واستثمار النصوص الأخرى بالطبع يكون جزئيا، أو كليا كما فعل جيمس جويس في روايته (يوليسيز) فهي تستثمر شخصية يوليسيز في الياذة هوميروس بطريقة مبتكرة جديدة، أو كما فعل باولو في رواية (الخيميائي) التي اشتغلت على نص من ألف ليلة وليلة، وكذلك نجيب محفوظ في (أولاد حارتنا) وهاني الراهب في (ألف ليلة وليلتان).. بالنسبة للروائي زيد عمران يأخذ جزيئات من نصوص سبقته، ويقوم بتدويرها سرديا ، لتشغل مجالا حيويا في عمله الروائي، ومن المؤكد أن القارئ الذي لم يطلع على هذه النصوص المخبوءة، فأن عدم إطلاعه عليها لا تجعل قراءته مبتورة ً
(*)
مفتاح رواية (أراجيح الياسمين):
أقول مفتاح الرواية وليس مفتاح الاجابات على سُؤلات الشخوص الماورائية، وهذا المفتاح لا يفتح ولا يغلق السؤلات، بل يُعلقها: (هنالك َ أمورٌ لا يمكن للعقل أنّ يُبت ّ فيها، وهنالك أشياءٌ تجعلُ العقل َ يتوقف عن العمل/ 78).. نلاحظ أن الأمر مرتهن بالعقل فهو مرة ٌ: محدود الحركة، ومرة عاطل عديم الحركة. لكن النائب عنه هو القلب على وفق التذوق الصوفي.

(*)
لم يعد الإنسان أثمن رأسمال في الوجود، وهذه الحقيقية هي: من فضائل/ فضائح الدولة ومفترض العنكبوت: (إبقاء البشر عند مرحلة الحيوانية الغريزية الأولى، وحين يحاولون الخروج من هذه الشروط، فهي تثبتهم فيها أو تنزلهم إلى ماهو أحط من الحيوانات من خلال القسر../ 211/ ممدوح عدوان/ حيونة الإنسان).. في مثل هذا التردي المعولم، كيف لي أن اجترح للياسمين أرجوحة ً !! وهذا السؤال المعرفي يحاور عنوان الرواية قبل التنزه الورقي فيها. يحاور/ لا يحاكم الرواية.. وحين تواصل نزهتي إمتاعها ومؤانستها ستكون الرواية بكل تفاصيلها هي تدريب الإنسان على الياسمين.
(*)
كقارئ : هذا سابع ياسمين في حيازتي
الأول : (طوق الياسمين) رواية واسيني الأعرج
الثاني (غربة الياسمين) الدكتورة خولة حمدي
الثالث (أراجيح الياسمين) زيد عمران
الرابع (بانتظار الياسمين) مسلسل سوري، تم ترشيحه لجائزة إيمي العالمية
الخامس (أنس المقربين وأزهار الياسمين في التعريف بالنبي الأمين)
السادس (سوار الياسمين) للشاعر اللبناني الكبير فؤاد الخشن
السابع (بساتين البصرة) للروائية منصورة عزالدين
السؤال : ما هو السر المكنون في زهرة الياسمين ؟ قد نجد الجواب في كتاب تفسير الأحلام) المنسوب للإمام محمد بن سيرين.
(*)
في (غربة الياسمين) للروائية التونسية خولة حمدي، تخبر الأم بنتها عن سبب تسميتها: ياسمين (لأن الياسمين يتصف بالكفاية والقناعة ويحتاجُ عناية ًقليلة ً، ومسمدة ً واحدة ً في كل ربيع وتنعشه التربة الرطبة؟! ولماذا في الروايات الثلاث يتطقس الفضاء الروائي بالروحنة؟

 

(*)
رواية (أراجيح الياسمين) تغذيتها السردية من زمنين رئيسين:
زمن أفقي يتشكل من فصلين: الفصل الأول، ويتحدد بالعنوان الفرعي (الاستفاقة) والفصل الثالث والعنوان الفرعي الأخير (البداية )
زمن يحتوي عدة أزمنة تتحرك في أمكنة غير متقاربة
(*)
تقوم قراءتي هنا بحراثة الطبقات النصية لرواية (أراجيح الياسمين) لتوضيح التعالق النصي بين الرواية وروايات أخرى :
(1)
النص المخبوء لفريد العطار (منطق الطير) يتمظهر في الرواية، بتسمية أخرى (مدن العشق السبعة/ 56) وهذه المدن، الملفوظ البديل عن الوديان السبعة في (منطق الطير)
مدن العشق في(أراجيح الياسمين ) هي كالتالي :
مدينة الحب
مدينة المودة
مدينة الهوى
مدينة الصبابة
مدينة العشق
مدينة الوله
المدينة الأخيرة : مدينة الهيام

العارفة وانتظارها للرجل، وعبورها بين العوالم تعيدني إلى رواية (جبل الزمرد) منصورة عز الدين، وقد تناولت ذلك في مقالة لي عن الرواية منشورة في المواقع الثقافية، وتجسد رواية ( أراجيح الياسمين) العبور نفسه في الصفحات التالية :24/ 27/65/ 66/ 77
(3) هذا المشهد في (أراجيح الياسمين) المثبّت في ص56 حول الصياد الذي يعيد السمكة التي يصطادها، لأنها أكبر من حاجته، يعيدني هذا المشهد إلى رواية: (صراخ النوارس) مهدي عيسى الصقر. ونشرت ُ عنها مقالة في مجلة الأقلام/ ع7/ 1998(غواية الماء في صراخ النوارس) والمقالة موجودة في كتابي (الأذن العصية واللسان المفقود/ دار الينابيع/ دمشق/ 2009)
(4) البحيرة التي تظهر ليلا وتختفي في النهار.. في رواية (أراجيح الياسمين ) تعيدني إلى البحيرة التي تظهر ليلا وتختفي في النهار( شجر المسرات) محمد الأسعد
(5)
(خطرت في باله فكرة: ماذا لو أن دراجته الهوائية كانت أسرع قليلاً؟ بسرعة الأرض؟ هل بإمكانه اللحاق بالأمس إن سار هو عكس حركة الأرض؟ ماذا لو أستطاع الحفاظ على سرعتها ثابتة مع سرعة دوران الأرض، هل سيبقى خالداً في لحظة الغروب الأبدي؟/ 13) هنا المتكلم يغترف من مفاهيم الفيلسوف زينون الأيلي
(6)
فراشة شوانج تسو: حكيم صيني و هو أحد مؤسسي التاوية. يقول تسو(ذات مرة حلمتُ بأنني كنت فراشة وكنت سعيداً باعتباري فراشة وكنت أعي أنني مسرور تماماً، ولكنني لم أعرف أنني تسو وفجأة استيقظتُ وهناك عرفت بجلاء أنني تسو. ولم أدر إذا كان تسو يحلم بأنه فراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تسو).. في ص28 من رواية أراجيح الياسمين نقرأ التالي :
(هذه المرّة رأى العالم بعين فراشة .لقد توحد مع الفراشة حتى شعر ببرد قدميها، وهي تقف على رمش الوردة البيضاء المبللة بالندى. سمع دقات قلبها الصغير، تلهث بلذة ٍ سماوية بعيدة عن خيال الحالمين. ومنال الواصفين. أحس بالريح تقبل إبطيها وهي ترفرف بأجنحتها بغنج امرأة ٍ تضرب براحة كفها على يد حبيبها وهو يحاول التحرش بنهديها)
(*)
سرديات السرد
يتنقل السرد بين الواقعي والحلمي والأسطوري والتاريخ، وتضفي هذه التنقلات سعة للفضاء الروائي. وإذا كان السرد من النوافذ، فهو في (أراجيح الياسمين) أكبر من النافذة الكبيرة في الغرفة التي يرقد فيها الرجل المريض في ص211 ومثل هذه النافذة ستكون ذاكرة الرجل المريض (إنها تنزُ مثل أرض سبخة مع كل صباح يولد مِن صفعة قيصرية على خاصرة الليل )
(*)
يتنوع السرد وتتشارك أصوات في السرد: العجوز الذي يزور المريض في المستشفى/ وهناك السارد الحيادي/ وسرد المريض عن زوجته وحياته المنشغلة بمكتبها، سرد الابن وسرد العجوز أريدو، والممرضة كاترينا
وتتناول الرواية العلاقة بين الله والمعرفة – هذه العلاقة متوفرة في كافة رواياته وقد خصصتُ مفصلا ً خاصا بها –