22 ديسمبر، 2024 5:21 م

النص اﻷدبي بين السرقة والإقتباس

النص اﻷدبي بين السرقة والإقتباس

كظاهرة، لا يظن البعض بأنها منتشرة على نطاق واسع والى الحد الذي يدفع للقلق، لذا لا يجدون أصحاب هذا الرأي ما يستدعي التصدي لها، بل حتى ذهبوا الى أبعد من ذلك، فعلى ما يعتقدون بأنهاستأفل كما أفلَتْ من قبلها الكثير من الظواهر السلبية، والحديث هنا يدور عن سيرة اﻷدب وما رافقه من عثرات وتجاوزات طيلة مسيرته عبر التأريخ. وعلى الطرف الآخر هناك مَنْ يراها بعين مغايرة تماما وراح قائلا: لقد باتت حقا تشكل خطورة، وستستفحل إذا ما تُرك الحبل غاربا أو إذا ما تعاملنا معها بتجاهل وخفة.
بصرف النظر عن الحالتين وما يحملان من رأي، فما يمكن قوله وما يمكن الإتفاق عليه، بأنها ليست بالظاهرة الجديدة على اﻷدب العربي والعالمي بشكل عام. وإذا ما عدنا بالتأريخ الى الوراء، فسينبأنا وعلى سبيل المثال، بأن أكبر شاعرين عربيين كانا قد رميا بها، الا وهما المتنبي وأبو تمام، على الرغم من إنهما عاشا بزمنين مختلفين والفارق بينهما زاد على المائة عام، ولا أقصد هنا بأنَّ أحدهما نحل من اﻵخر، كما قد يذهب الظن بالبعض، وإنما ما أدعته فئة صغيرة، ظلَّت طريقها، وراحت تحلّقُ خارج السرب مرة ومرة تحفر في الخبايا، علَّها تعثر على مثلبة، تروّج لها لتستطيب.
في عصرنا الحديث ومع مطلع القرن الماضي وكي نعطي مثالا أقرب للقارئ، كنا قدشهدنا العديد من السجالات اﻷدبية، منها ما تعذَّرَ تدوينه وﻷسباب كثيرة لسنا بصددها وضاعت نسيا منسيا، ومنها ما تمَّ رصده. ومن بين ما توفَّر لدينا من معلومات وتستدعي التوقف عندها، هي تلك الواقعة التي دارت رحاها سنة 1916وإنتشرت في حينها على نطاق واسع، بين الشاعرين عبدالرحمن شكري من جهة وابراهيم المازني من جهة أخرى. ففي كتابه الموسوم (المذاهب اﻷدبية)، يتحدث الدكتور عبدالله خضر حمد، عما دار بين الشاعرين من سجالٍ وتدافعٍ حتى بلغا مرحلة، تقذافا فيها ما يمكن إعتباره أرخص التهم، وبما لا تتسق ومكانتهما، (وثارت إثر ذلك الخصومة، فأخذ شكرى يعيب على المازنى انتحاله لبعض الأشعار الإنجليزية بعامة، ومما دون فى “الكنز الذهبى” بخاصة).
ولمزيد من اﻷمثلة عن ظاهرة السرقات اﻷدبية التي نتحدث عنها، فسيتوقف الصحفي المصري، عاصم زكريا عند إحداها، كاشفا عنها وبقدر كبير من الصراحة والتفصيل، وبتقرير كان قد نشره في مجلة المصور القاهرية في شهر آب لسنة 1993، توقف فيها عند مسرحية (العريس) والتي تُعَدٌ باكورة أعمال الكاتب الكبير توفيق الحكيم، فهي باﻷساس والكلام للصحفي( مسرحية فرنسية مجهولة). وقد عزز هذا الرأي ناقدا مسرحيا آخر، حيث ذهب الى ما هو أبعد حين كتب: وقفت من المسرحية موقفاً جامداً؛ لأنها نُقلتْ من الفرنسية إلى العربية، فقط مع تغيير الأسماء. اﻷنكى من ذلك، فإن أحد أهم اﻷعمال الروائية للكاتب توفيق الحكيم، والتي ستكون سببا في شهرته وشيوع إسمه على صعيد اﻷدب في ما بعد، الا وهي (حمار الحكيم)، حيث سيرمى بإنتحالها هي اﻷخرى أو لنقل بإقتباسها تخفيفا لوطئة المفردة وما تحمل من معنى، بإدعاء إنَّ كاتبها اﻷصلي هو خوان رامون خيمينيث، الإسباني الجنسية والتي حملت عنوانا أنا وحماري، علما أن هذا الكاتب سيمنح جائزة نوبل للآداب عام 1956عن روايته هذه وعن مجمل أعماله.
وعن ذات الموضوع وبمثال أقرب وأكثر معاصرة، فقد شنَّ الكاتب التونسي كمال العيادي، المقيم في العاصمة المصرية، حملة شعواء على اﻷديبين يوسف زيدان، الحاصل على جائزة البوكر لعام 2009 عن روايته عزازيل كأفضل عمل روائي عربي، وكذلك على علاء اﻷسواني صاحب رواية عمارة يعقوبيان، متهما إياهما بالإنتحال. فعن يوسف زيدان مثلا ونحن هنا لسنا بمسؤولين عن ذلك، وتعزيزا لما ذهب اليه، فقد ادعى بأنه قام( بسرقة عزازيل من رواية إنجليزية قديمة ومهملة لروائي إنجليزي كتبها عام 1853، وترجمها إلى العربية عزت زكي بإسم هابيشيا، والتي تتكون شخصياتها الرئيسة من بطل الرواية، وهو راهب من وادي النطرون). بالمناسبة وعلى ذكر رواية عمارة يعقوبيان، فقد أثيرَ على أثر إصدارها تحفظ ولغط واسعين، وسُمعت أصوات عديدة من قبل سكان العمارة اﻷصليين أو مَنْ تبقى منهم، متهمين كاتبها بحرف الحقائق أو اللعب عليها بطريقة أساءت لساكنيها.
ربما يخال للبعض بأن ظاهرة السرقات اﻷدبية، قد أقتصرت على الناطقين بالعربية فحسب، وهذا رأي يجانب الحقيقة ويبتعد كثيرا عن كشفها. ولكي لا نغوص عميقا ونشتت ذهن القارئ، وإختصارا للأمر، فلا بد من القول بأنَّ اﻷدب العالمي وبكل لغاته الحية والمستجيبة لمتغيرات العصر، قد شهدت وربما على نطاق أوسع مثل هذه الظاهرة، أي السرقات اﻷدبية وتحت عناوين ومسميات عديدة. وإذا أردنا أن نأتي بمثال فسنكتفي بسرد إحدى الوقائع وكما وردت في الكتب التي تتحدث عن تأريخ اﻷدب.
فَتَحْتَ عنوان عجائب وغرائب السرقات اﻷدبية، كان الكاتب محمد الشبرواي قد نشر مقالا في موقع أنطولوجيا اﻷدب العربي، تحدث فيه عن هذه الظاهرة وبلغة بدت أكثر صراحة ووضوحا. وما يلفت الإنتباه في مقاله هذا ويجذب اﻷنظار، هو ذلك العنوان الفرعي الطريف الذي أسماه بالسرقة اﻷدبية تحت تأثير الكحول. كشف فيه عن تلك العلاقة التي جمعت وتحت ظروف خاصة جدا، بين الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير(1821 ـــ 1880)وبين إحدى حسناوات باريس، وإسمها لويز كوليه، حيث إدعت علاقاتها باﻷدب عموما وبالشعر بشكل خاص. وصادف ان كان هناك ولنسميه سباقا للشعر وعلى مستويات عليا، لتصر هذه الحسناء على الإشتراك به وبأي ثمن. (ولأن قريحتها الفنية سقيمة ورديئة؛ فقد آلت على فلوبير إلا أن يكتب لها قصيدة). وكي تُكمل مشوارها وتحقق غايتها فقد(أغلقت عليه وصديقه بويليه الحجرة ورفضت خروجهما إلا بعد أن ينظما القصيدة…وتحت تأثير السُكر تناول أحدهما أحد دواوين لامارتين، وأملى على صديقه بضع أبياتٍ منه، وأنجزا المهمة وخرجا بعد يأس من هذا المأزق). ومن مهازل اﻷقدار أن فازت هذه القصيدة بالجائزة اﻷولى في ذلك السباق ونشرت في أهم الصحف وأوسعها إنتشارا وخاصة الباريسية منها. ولكن في ما بعد إفتضح أمرها وإفتضح أيضا أمر الجهة المنظمة للمسابقة، لجهل اﻷخيرة مرة لشاعر كبير بقامة الفونس دي لامارتين، ولإنحيازها للحسناء مرة أخرى.
بجانب هذه الظاهرة، أي السرقات اﻷدبية، بدأت ترى النور وتتبلور ومع مطلع الستينات بعض المفاهيم والمصطلحات الجديدة في النقد اﻷدبي، لتشق طريقها بروية وراحة، وصولا وفي آخر المطاف الى الإفتراق وقطع الصلة مع ما أسميناه بالسرقات اﻷدبية، لتحدث لاحقا تحولا نوعيا فيما بات يُسمى بالنقد اﻷدبي، وعلى ضوءه سيجري التعامل مع النص على أسس وقواعد مختلفة، إنه ما بات يُعرف بمصطلح التناص. وعن هذا المفهوم فقد تحَّدث الكثيرون عنه وغاصوا في أعماقه وخاصة أدباء فرنسا، المولعين أصلا بفن الكلام واللسانيات. ومن بين أهم اﻷسماء التي كان لها الدور البارز في التوقف طويلا عند هذا المفهوم هي الناقدة اﻷدبية، الفرنسية الجنسية، البلغارية اﻷصل، جوليا كريستيفيا، حيث ستتحدث بشيء من التفصيل والدقة عنه ومع بداية الستينات من القرن المنصرم، ولِتتوجهُ وبنهاية ذلك العقد بواحد من أهم إصداراتها، الا وهو كتابها الموسوم بعلم النص.
وعنها نقول (أي عن الكاتبة) انها واحدة من بين ذلك الرعيل الفرنسي الذي وضع إصبعه بثبات وثقة على هذه الظاهرة، لتفسر لنا مفهوم (التناص) كمصطلح نقدي، مضفية عليه لمسات معاصرة، ولتمنحه أيضا نوعا من الإستقلالية والتميّز عن باقي المفاهيم اﻷدبية كالسرقة والإقتباس والتضمين وأخواتها بطريقة سلسة، وبما يؤشر الى إمكانية التأثير والتأثر وما سيتبعه من تفاعل بين النصوص بعفوية وبراءة مطلقين، سواء على مستوى المعنى أو اللفظ أو الإثنين معا، ووفق حدود وثوابت معروفة وواضحة.
وبذاستكون جوليا كريستيفيا، والتي (تعدُّ واحدة من البنيويين الكبار مثل رولان بارت وتودوروف، عندما كان للبنيوية مكانة هامة بين العلوم) قدشفعت للشاعرين الكبيرين أبو تمام والمتنبي، ما ألصقِ بهما من تهمة النحل، دون دراية منها ودون أن يعترضا أو يرغبا على ما أجزم، فهما سادة القريض وكتبا أجمل ما قيل في فن القصيد، وهما مَنْ فتح الباب واسعا للقادم من اﻷجيال كي يقتفوا خطاهم، فهما وأصحاب المعلقات السبعة أو العشرة مَنْ مَسَكَ وَتَحَكَّمَ بزمام اﻷمر وأوصلنا بناصية الشعر ليضعنا في أعلى مستوياته وأبهى تجلياته، ولهم أيضا قصب السبق في فن إستحضار وتوظيف ماهو أبعد من الخيال وأجمل من الوصف، وإذا كان هناك من شكٍّ فلنسأل اﻷثر فهو الذي يدلنا على المسير.
وإزالة للبس أو الخلط أو ما يقترب منهما، فسنتوقف لبعض الوقت عند مفهوم السرقة اﻷدبية وما يميزه عن مصطلح التناص، وكيف يعرفّه ويراه أحد الكتاب العرب، واظنه كان مصيبا في ما ذهب اليه. معتمدين في صدق شهادته على غنى تجربته، وما له كذلك من مساهمات جليلة في نواح عديدة من أشكال التعبير اﻷدبي، ولقربه أيضا من بيئتنا الثقافية بل هو ابنها، والحديث هنا سيدور عن الأديب والصحفي السوري وصاحب العمود الثابت في صحيفة تشرين الدمشقية، حسن م يوسف، حيث سيلخص مفهوم السرقة اﻷدبية، بصراحة تامة ومطلقة وعلى الشكل اﻵتي:
(أخذ ما للغير خفية، والسرقة الأدبية هي قيام أحد ما بنسخ نص أبدعه شخص آخر وتقديمه على أنه له). وإستطرادا للرأي اﻵنف وفي لحظة تعاطف، أجدها قد مالت نسبيا الى جانب صاحب النص الأصلي، الذي سيتحول حسب ما أرى الى ضحية لِمنْ إلتف وصادر منجزه، فسيستكمل الكاتب وفي ذات المقال رأيه عن هذا الموضوع(من المعروف أن مبادئ حقوق المؤلف لا تحمي الأفكار، وإنما تحمي تعبير المؤلف عنها، إلا أننا نقرأ ما يشي بأن هذا المصطلح اكتسب طبيعة مطاطية؛ لأن كل مستخدم يعطيه ما يناسب وجهة نظره). ربما أراد حسن م يوسف من وراء إستخدامه لهكذا تعبير، هو تحريض المشرع وحثه على سن قواعد نشر أكثر تشددا وإنصافا، تحمي وتدافع عن صاحب النص اﻷصلي، ودونها سيتمكن أي منتحل من التسلل وسرقة أفكاره ويبني عليها ما يشاء من لفظ، ومن غير أن يُعرِّض نفسه للمسائلة .
وبعد السرد اﻵنف عن مفهوم السرقات اﻷدبية وما قاله البعض وما أدلى به من شهادة، فلا بأس من التحدث وإن على عجالة، عن إمكانية الكشف عنها وفضح مَنْ يقف ورائها. ففي عصر كالذي نعيشه وبعد أن بلغت تكنولوجيا المعلومات مرحلة متقدمة جدا،سنرى اﻷبواب والنوافذ قد فُتحت برحابة ورشاقة، لتدلنا على الكثير من الخبايا والخفايا، وستفتح معها ما توفر من وسائل وطرق، لتقودنا الى وضع اليد على الجرح وعلى مَنْ جَنَحَ. فبإشارة وحركةصغيرة من محرك البحث، الحسن السيرة والسمعة، المسمى بـ(الغوغل)،سيقودنا هذا الصديق الوفي الى أصل ومنشأصاحب العلاقة الشرعي بالنص المكتوب، ليكون بذلك قد قطع الطريق على كل منتحل، لا يمت بصلة الى عالم الكتابة وجمالياتها، كان قد إدعى وفي غفلة من الرقيب بما ليس له، دون مواربة أو خجل أو وجل، ولا أعتقد أن بعد ذلك من دليل أنزه وأصدق على كشف الحقائق. لنقل شكرا لك ايها الصديق الوفي (غوغل)، فلقد أوصلتنا مبتغانا، بعد أن قصَّرتَ علينا المسافات وأهديتنا من الوقت والجهد أثمنه.
لكن ورغم ذلك فإن هناك أشكال أخرى من أشكال السرقة اﻷدبية وأظنها ليست بالقليلة، التي لا يمكن الكشف عنها بتلك السهولة. منها مثلا أن يقوم أحدهم بالتسقط من هذا بكلمة ومن ذاك بفكرة ومن آخر بعبارة، ليمضي بها وكيفما إتفق، ظنا منه بأنه قد بلغ مرحلة تؤهله لعبور أصعب اللحظات وأعقدها. وهذا الصنف من المدعين،سيفتضح أمره بلا شك بعد قراءة نصه المنتحل بشيء من الروية والإنتباه، خاصة إذا ما كان منتجه المفترض قد دار في فلك يصعب إختراقه أو دخوله، كعالم اﻷدب، لنكتشف ودون عناء كبير، بأنَّ ما كتبه، لم يكُ الاّصدى لخليط غير متجانس، كانت قد تداخلت فيه العديد من اﻷصوات، وأجزم انها كثيرة لذلك تجدها قد تضاربت فيما بينها وتصادمت.
ملاحظة: هناك الكثير من أشكال الإنتحال والسرقات اﻷدبية، منها المرئية ومنها غير المرئية، لكننا إكتفينا بهذا القدر، آملين أن نكون قد توقفنا عند أبرزها وأشدها وضوحا.