23 ديسمبر، 2024 9:15 ص

النخب العراقية في باريس تحاكم السفير العراقي محاكمة أخلاقية

النخب العراقية في باريس تحاكم السفير العراقي محاكمة أخلاقية

لم يكن اعتباطا تجمع نخب العراق المقيمة في باريس أمام السفارة العراقية القابعة في جادة فوش المطل على قوس النصر الفرنسي المشهور, عشرات البنايات المحيطة بالسفارة والمطلة على هذا الشارع الشهير يسكنها كبار الشخصيات الفرنسية والدبلوماسية الأجنبية والعربية إضافة إلى العديد من أمراء الخليج الذين تملكوا بنايات بالكامل, شارع جانبي وتفرعات عديدة تمتاز بالهدوء والسكون معظم الوقت , ليس هذا بيت القصيد, اعتصام عشرات العراقيين أمام السفارة وتحت حماية الشرطة الفرنسية هو بيت القصيد, كسر سكون المكان بهتافات عربية مفهومة للعرب وللفرنسيين أيضا لأنها ممزوجة بشعارات مكتوبة بالفرنسية والانكليزية تزينها الأعلام العراقية , الكل كان يهتف بصوت عالي , أخترق الصوت زجاجات نوافذ البنايات المطلة على الشارع , كسر السكون الممل, دفع الفضول من هم بداخل البنايات للخروج إلى إطلالات البنايات لرؤية ماذا يحدث , البعض خرج إلى الشارع, ربما ليست الأولى أن يتظاهر فرنسيون في هذا الشارع, لكنها الأولى أن تتظاهر مجموعة من الشخصيات العراقية المعروفة لدى الأوساط الفرنسية قبل العراقية , جميعها تهتف ضد سياسة السفارة والسفير, عشرات السيارات خففت من سرعتها لتقرأ اللافتات وتسمع الشعارات, مستطرقين تعمدوا تغيير مساراتهم للسؤال عما يجري, عرب شاركوا في الهتاف والتقاط الصور بعدما فهموا القصة, أفراد من العاملين في السفارة ينظرون عن بعد مرتابين مما يجري, بين تردد وخجل في التقرب من المحتجين, يلتقطون الصور متوهمين أنهم قد يخيفوا المحتجين مثلما كان يفعل النظام السابق, ثأر العراقيون لكرامتهم التي أسيء لها في أكثر من مناسبة, أربع سنوات من إلاهمال المصحوب بالتعالي في التعامل , سب وشتم وإهانات مباشرة وغير مباشرة, لجوء إلى القضاء ضد مواطن عراقي معروف لدى جميع الأوساط العراقية, لم يكن الموضوع شخصي أبدا فالجميع خرج للاحتجاج على الممارسات التعسفية كما شخصها البيان الذي وزع مسبقا, الجميع مستغرب في الوقت ذاته, دعوى قضائية طرفيها عراقيين في بلد أجنبي , موضوعا مثيرا للاستغراب خصوصا لدى أساتذة القانون والعلاقات الدبلوماسية, الأغرب من هذا وذاك أن المدعي دبلوماسي والمدعى عليه مواطن عادي, لم تكن الدعوى جنائية أو على ملك مغتصب أو لإعادة مال مستدان, دعوى تشهير, إجراءاتها لم تكن صحيحة مسبقا, تمت الموافقة من وزارة الخارجية برفع الدعوى, يعلم السفير أم لا يعلم, فالأمر سيان, خرق قانوني, تدخل كبار الشخصيات السياسية والقانونية والإعلامية للتوسط في حل الموضوع بهدوء ,

طلبات تعجيزية وتصريحات غريبة, ربما كان الموضوع ينتهي بفنجان قهوة يجمع فيه السفير طرفي المشكلة وتحل بكل ود, لكن السفير يقف إلى جانب دون أخر, يقف بجانب المدعي, يضيع الفرصة الذهبية التي أعطيت له لحل النزاع, سفير عاش في سويسرا أربعة عقود وعقدين في أمريكا, لكنه من أبوين عراقيين, لم يبدر منه ما يعكس ثقافة الغرب في الاهتمام بالآخرين و عادات العربي في إكرام الآخرين و طبائع العراقي في رعاية الآخرين, قررت الجالية محاكمة السفارة أخلاقيا, محاكمة السفير على ما بدر تجاههم من سلوكيات غير مقبولة, لكنهم لم يلجئوا إلى القضاء مثلما لجأت السفارة, تزامن وقوفهم مع أول جلسة قضائية ضد المدعى عليه, محاميا الطرفين وقفا أمام القاضي لانتظار الحكم, في أسوأ حالاته غرامة مالية قدرها خمسون يورو, لا إعلام ولا جمهور, قاعات المحكمة مغلقة دائما لا يحضرها إلا من يهتم بها, تقابلها وبنفس التوقيت وقفة أخرى لكنها علنية وأمام السفارة وفي الشارع العام, وقفت نخب عراقية لها وقع كبير على الفرنسيين قبل العراقيين,اتفقوا مسبقا وقرروا محاكمة السفارة أخلاقيا, فضحوا ممارساتها تجاه الجالية, الواقعة أشد من الوقوف أمام القاضي في قاعة المحكمة لمن يفهم الأخلاق, محاكمة علنية في الشارع, أجمل ما فيها أنها بطريقة متحضرة , في نفس الوقت فاضحة, الوقوف في الشارع وفضح الممارسات علنا وبطريقة ديمقراطية وبشفافية عالية, الوقع أشد من اللجوء للقضاء , مهنية عالية يتمتعون بها في التعبير عن حقوقهم, نفس النخب تلك وقفت بالأمس القريب ضد النظام الفاشي, مئات الأشخاص رأوا الاحتجاج, الآلاف سوف يرونه على مواقع التواصل الاجتماعي, مئات الآلاف سوف يشاهدوه ويسمعوه ويقرءوه عبر وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمقروءة, محاكمة عادلة وبالعلن, حكما أخلاقيا أقوى بكثير من الأحكام القضائية التقليدية , في روما القديمة كان القضاء يحكم بالموت المدني ولا يعني ذلك سلب حياة الإنسان, ربما لو سلبت لكانت أهون ,فالموت أهون من العار, يلجا القضاء لمثل هذا الحكم لأنه عقاب أخلاقي, المحكوم يحتقر وينبذ اجتماعيا, يكفيه أن ينظر إليه الجميع نظرة ازدراء, ببساطة لأنه سقط أخلاقيا.

عاش العدل , عاشت وقفة العراقيين في باريس وفي كل مكان, كانت رسالة بليغة لمن يهمه الأمر, ستكون سابقة أخلاقية في التعامل مع من يسئ للعراقيين في أي مكان وزمان قبل أن تكون مجرد قضية أمام قضاء أجنبي, ثمة فارق شاسع بين من يميز الجزاء الأخلاقي عن الحكم القضائي….