22 ديسمبر، 2024 7:52 م

النحو العربي : قواعد مصنوعة وكبار النحاة كانوا يلحنون

النحو العربي : قواعد مصنوعة وكبار النحاة كانوا يلحنون

ان وجود المشاكل المستعصية في التراث والثقافة والدين وانتقالها عبر الاجيال يثير الفضول في نفوس بعض الباحثين ويدفعهم نحو البحث عن حلول وطرح الاجوبة عن الاسئلة الاشكالية. وبصرف النظر عن النتائج الصادمة التي قد يتفاجأ بها المتخصصون وغيرهم فان مهمة الباحث يجب ان تتواصل بدعم نتائجه بالادلة والبراهين. وغالبا ما تواجه هذه النتائج رفضا ومحاربة من لدن الناس الذين لا يودون ان تتزعزع قناعاتهم التي اصبحت جزءا من هويتهم وقيمهم الثقافية والسلوكية والدينية. الرفض الاني غير المبرر وغير المقنع لن يجدي نفعا في مواجهة تلك التساؤلات المشروعة وفي تفنيد البحوث ونتائجها وانما سيسهم – في انجع المحاولات – الى كبحها انيا والتكتم عليها وترحيلها الى اجل غيرمسمى.

ان الافكار البناءة التي تناقش المشكلات المستعصية لا تموت وانما تدخل في عالم السبات. ومع توفر المناخ والظروف المناسبة لها سرعان ما تدب الحياة فيها لتعود الى السطح وبقوة اكبر. ولنأخذ مثالا واحدا على تلك المشاكل المستعصية المتمثل بالنحو العربي وقواعده لكي نستطيع تركيز الموضوع وضرب الادلة على ضرورة اعادة النظر بالمشاكل وايجاد حلول لها.

فمنذ المراحل الاولى لنشأة النحو العربي وتاسيس قواعده ظهرت تساؤلات عن اهمية تلك القواعد ومدى انطباقها على متحدثي اللغة العربية من ابنائها من عدمه ، على الرغم من ان الدافع الرئيس لوضع النحو كان بحجة تقويم لسان الاعاجم الذين دخلوا الى الاسلام حديثا. وبتعبير اخر، ان نشأة النحو كانت ضرورة لتعليم قواعد العربية لغير الناطقين بها ولكن الامر الغريب حقا هو تحول هذه القواعد الى قيود صارمة تفرض على افصح الناطقين بالعربية وهم الشعراء ، ابناء تلك اللغة.

بدأت المشكلة مع الفرزدق (الشاعر الأعرابي التميمي) وعبد الله بن ابي اسحاق الحضرمي (النحوي المولى الفارسي) عندما راح الاخير يتتبع سقطات وهفوات الشاعر التي تخالف قواعد النحو التي وضعها. وقلما يخلو كتاب في النحو واللغة من ذكر تلك المناكفات بين الشاعر والنحوي. ولم تنته تلك المشكلة بموت الاثنين وانما بقي السؤال مطروحا بعدهما : مافائدة تلك القواعد وما الجدوى الحقيقية المبتغاة منها؟ وها هو سلف الحضرمي عيسى بن عمر يواجه واحدا من العرب الاقحاح فيسأله عن الذي وضعه من قواعد فقال: (اخبرني عن هذا الذي وضعت، يدخل فيه كلام العرب كله؟ قال: لا، قلت: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به، أتراه مخطئا؟ قال: لا. قلت فما ينفع كتابك؟) (أخبار النحويين، 82)

ومع تنامي هذه القواعد وتعقيدها ودخول علمي الكلام والمنطق الى ميدانها اصبحت القواعد نوعا من الاحاجي والطلاسم واخذ النحاة انفسهم يخطَئون بعضهم البعض ، ويتهم كل منهم الاخر باللحن. ينقل الزبيدي في طبقاته رواية عن سلمة قال: أنشد الكسائي الرشيد بحضرة الأصمعي:

أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به —— رئمانَ أنفٍ اذا ما ضن باللبن

قال الاصمعي مخطئا الكسائي: رئمانُ أنفٍ ، فرد الكسائي: اسكت ، هذا ليس من صنعتك.

وهناك عشرات الأمثلة والروايات التي تؤكد ان كبار النحاة مثل سيبويه والكسائي والاخفش والفراء والمبرد وغيرهم كانوا يلحنون اذا تكلموا. هذه الروايات يرويها النحاة انفسهم. ليس هذا فحسب وانما كان الخلفاء والامراء يلحنون أيضا (الحجاج والرشيد والمأمون والمتوكل والواثق وغيرهم كثير) . ولم يسلم كبار الشعراء في الجاهلية والإسلام من اتهام النحاة لهم باللحن. ويحضرني النابغة والفرزدق ولكن هناك أسماء كثيرة متهمة. والاغرب من ذلك كله ان أحد النحاة كان يقول : ان في القران الكريم لحنا.

انقل لكم هذه الرواية من مصدر تم تحقيقه تحقيقا علميا والتي تؤكد لحن الفراء:

وحدث محمد بن الجهم ، قال: حدثني ابن المستنير قطرب قال: دخل الفراء (وهو زعيم المدرسة الكوفية يومها) على هارون الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه مرات ( الرجاء التركيز على تكلم ولحن فيه مرات). فقال جعفر بن يحيى البرمكي: انه يلحن يا أمير المؤمنين ! فقال الرشيد للفراء : أ تلحن ؟ قال الفراء: يا أمير المؤمنين ان طباع أهل البدو الاعراب ، وطباع أهل الحضر اللًحن. فاذا تحفًظتُ لم ألحن ، واذا رجعت الى الطبع لحنت.

وختاما نقول: الصنعة بوصفها مهنة ليست عيبا او انتقاصا وانما في ميداني النحو واللغة تعد تزييفا للواقع وتشويها له. النحو وقواعده لا يصنعان للناس ثم يؤمروا بالتحدث على وفق القواعد وانما يشتقان من الاستعمال اليومي ( تحدثا وكتابة).