بعد غربة ثانية طال فيها الزمهرير، على حدّ تعبير الشاعر مظفر النواب، عدت إلى العراق، واحتفت بي النجف بعد احتفاء الجامعة المستنصرية، ودُعيت لإلقاء محاضرة فيها يوم 3 تموز / يوليو 2003. وفي أصبوحة ذلك اليوم الشديد الحرارة، بدأت مشواري في البحث عن قبر والدي الذي “اختفى”، بعد “إعادة تنظيم مقبرة الغري”، إثر انتفاضة العام 1991، حيث أُعيد رسم خرائط جديدة بفتح شوارع وتجريف قبور، دون أي اعتبار أو مراعاة لمعتقدات الناس ومقدّساتهم .
تساءلت مع نفسي وأنا أتأمل المقبرة، وكيف اتّسعت خلال العقود الستّة ونيّف المنصرمة على زيارتي لها آخر مرّة: هل يمكن أن تتحوّل تلك القبور إلى زهور وأشجار؟ واستذكرت قول جاك دريدا عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حين قال: “من أين يقطف كانط تلك الورود التي يقدّمها لعاشقاته؟ هل من حديقة أم من مقبرة الميتافيزيقيا؟”، وهو سؤال طالما راودني عن تلك المخيّلة الساخرة التي يتحلّى بها النجفيون بشأن الحياة والموت، خصوصًا لكثرة ما رأوا من جنائز تأتيهم من كلّ أنحاء العالم لدرجة أنهم تعايشوا مع الموت. وردّدت مع نفسي قولًا أثيرًا للفيلسوف الصوفي النفري “إنما أحادثك لترى، فإن رأيت فلا حديث”.
والنجف مدينة للأحياء مثلما هي مدينة للأموات أيضًا، لاستيعابها الملايين الذين يُدفنون في ثراها تبركًا بالإمام علي وتقربًا إليه، وكما يقول أبو عبد الله الحسين بن حجاج:
يا صاحب القبّة البيضاء في النجف / من زار قبرك واستشفى لديك شفي
وبقدر ما تستقبل النجف من جنائز، فهي مركز لتأهيل دارسي الدين الذين بعد انتهاء دراستهم في الحوزة يتوزّعون على بلاد المسلمين، وهو ما دعا الشاعر أحمد الصافي النجفي ليقول:
فصادرات بلدتي عمائم / وواردات بلدتي جنائز
يومها قفلت خائبًا وحزينًا، فقلت مع نفسي: حتى الأموات لم يسلموا من العسف، فالذاكرة هي الأخرى كانت مستهدفة، ورويت ما قاله لي أحد “الدفانين” من آل اصيبع بشأن قبر والدي: لا تتعب نفسك، فأنا من دفنه، وهو موجود في هذا المكان، وحدد لي مسافة بحدود 20 مترًا. ثم خاطبني قائلًا: اقرأ الفاتحة هنا على روحه الطاهرة وعلى روح عمتك أمينة التي دفنت بقربه، وأضاف: كانت مقبرتكم الخاصة في صحن الإمام علي، وجدّك الشيخ جابر مدفون عند باب الذهب في “طارمة” (مدخل) حضرة الإمام علي، فحفّز ذاكرتي، حيث استعدت من دُفن فيها من أعمامي وأجدادي وخالي والعديد من أفراد الأسرة، ولم ينل والدي “بركة” الدفن بجوار الإمام علي بسبب قرار حكومي صدر في العام 1983، وكان والدي قد توفاه الله العام 1985.
عطر الورد
تُعتبر النجف من الحواضر العربية، على الرغم من البيئة الصحراوية، شبه البدوية، شبه الريفية، المحافظة والرافضة في الآن، لكن ثمة تطلّع إلى المدنية والحداثة والتغيير، حيث ظلّ التنوير يعتمل في داخلها، وأحيانًا في رحم المؤسسات التقليدية الدينية ومن خارجها وبالتضاد معها. وظلّت الكلمة لها مكانة خاصة لدى النجفيين، ولا أخصّ الشعراء والأدباء والفنانين والدارسين في الحوزة فحسب، بل بعض الناس العاديين الذين كنّا نعرفهم.
نعم للكلمة عطر الوردة، وهذا العطر يتحوّل إلى مفاهيم وآراء وأفكار وجمال، هدفه الحقيقة والإنسان إذا أُحسن استخدامه، حيث سيكون تأثيره كبيرًا، والعكس صحيح أيضًا، فالكلمة يمكن أن تتحول إلى مدفعية ثقيلة بالضدّ من الإنسان إذا أُسيء استخدامها، حيث ستتحوّل إلى عامل هدم وكراهية، بدلًا من أن تكون عامل بناء ومحبة.
“في البدء كان الكلمة…” كما جاء على لسان السيد المسيح، وفي النجف للكلمة معان ومواقف وأدوار وشرف. هنا يكمن سرّ النجف وهو سر الأسرار، خصوصًا حين يكون التفكير بالمعنى بحساسيته الشديدة جديرًا بالوجود، وهو ما يُعطي للأشياء روحًا مختلفة، أكثر أنسنة وألق وألفة.
مدينة الحدث
تلك هي النجف مدينة الحدث، ودائمًا كان الحدث ثابتًا في حياتها، وإن تغيّرت الظروف، وهي مدينة التحريض، بل إن التحريض على التفكير والجدل والسجال من مكوناتها، ومنذ أن وعينا كنّا نستمع إلى الجدل بين المشروطة (الحكم المقيّد بدستور) والمستبدّة (الحكم المطلق)، ثم انتقل الجدل إلى اليسار واليمين والدولة واللّادولة.
يعتقد البعض أن النجف هي مدينة الماضي، في حين أنها مدينة المستقبل، أو هكذا ترى نفسها مدينة ديناميكية حيوية تمتاز بالعقلانية، بقدر ما هي مدينة استاتيكية إيمانية، ولكي يكون الإيمان سليمًا وصحيحًا، لا بدّ أن يكون عقليًا، فالعقل ضرورة من ضرورات الإيمان، وذلك ما يوفّره الجدل الذي هو زاد المدينة اليومي.
والنجف مدينة قويّة على الرغم من إهمالها في فترات عديدة ومحاولة تهميشها، إلّا أنها ظلّت تختزن الأمل ضدّ اليأس، وحتى وإن كانت متشائمة، لكنها ليست يائسة، بل كانت تقاوم اليأس والاستسلام والخنوع، ولديها القدرة على تجديد مصادر قوتها باستمرار ودون انقطاع، تضيف وتحذف وتراكم وتتقدّم، بل هي تمنح أبناءها الفرصة على تجديد مصادر قوتهم وإبائهم وكبريائهم.
النجف مدينة مفتوحة على عكس التصوّر السائد من خارجها، وذلك لأنها مركز الفرات الأوسط، وهي على حافة الريف والبادية وفي قلب الحَضر، وهي مزار عالمي يأتيها الزوار من شتّى أقطار العالم الإسلامي، وفيها الدارسون من إيران وأفغانستان والهند والباكستان وتركيا وآسيا الوسطى والصين والبلاد العربية، وتختلط فيها اللغات واللهجات والأقوام والأجناس، واعتادت التعامل مع الغرباء، لذلك فإن الروح الإنسانية والإحساس بالمساواة تعمّقت فيها.
وحسب الإمام علي فالناس صنفان، إمّا أخ لك في الدين وأما نظير لك في الخلق، كما جاء في رسالته التوجيهية إلى عامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي. وتلك الحكمة مثّلت فلسفة الحكم والتعامل مع البشر بغضّ النظر عن اختلافاتهم الدينية أو العرقية أو الإثنية أو اللغوية أو السلالية أو الاجتماعية أو أي نوع آخر من أنواع الاختلاف، أي الإنسان أخ الإنسان، خارج دوائر تصنيفه، وهو من خلقه الله واستخلفه على هذه الأرض.
تفاسير خاطئة
ثمة تفاسير خاطئة بشأن النجف، فهناك من يعتقد أنها مدينة للشيعة، أي مدينة أحادية بمعنى ساكنة ورتيبة لا تقبل التعدّدية أو التنوّع، وهي مدينة دينية محافظة، بل هناك من ينسب التطرّف إليها بسبب من تعصّبها، والمقصود اعتزازها بنفسها، والبعض يعتبرونها مدينة أجانب، لكثرة الدارسين الأجانب فيها، مثلما هناك من يعتقد أنها مدينة عشائرية، وآخرون يعتقدون أنها مدينة للشيوعية. كلّ هذه الاختلافات جعلت من النجف مدينة حيوية، وأطّرتها في هارموني متجانس بجوار الأضداد وتعايش المتناقضات.
وفي النجف يتجاور الشعر والفلسفة والتاريخ والزهد والكفاح والمعنى والجمال في ترابط عضوي وعفوي، وكأن ثمة قانون خفي تسير عليه. فالتاريخ يمشي معك في النجف، فهذا مرقد الإمام علي، وذلك قصر الإمارة مقر الخلافة، وتلك مدرسة الكوفة الشهيرة، حيث يعيش الزهد بين الكتب ويتجوّل في الأسواق، وهنا مرقد الأنبياء هود وصالح ونوح وآدم.
كل شيء في النجف يلامس القلب والعقل والروح، وهو إحساس ظلّ يعيش معي على الرغم من أنني أقمت في بلدان عديدة، وعشت حيوات متنوّعة، لكنّ النجف ظلّت معي تأتيني مثل غيمة فضيّة أو ريح خفيفة منعشة، تلك التي تسبق المطر، أو ملاك يفرش جناحيه بحبور وبهجة للقاء صديق عتيق وعزيز.
النجف مدينة حرون تآخت مع التمرّد فمثلت الحقيقة المخالفة للمألوف، الشديدة التناقض والشديدة التسامح والشديدة الانسجام، وتلك إحدى مصادر قوتّها وعزّها.