لقد اختلف الناس في تفسيراتهم للديمقراطية ، فتضاربت تصوراتهم حولها ، إلى حد أنْ صار كلُّ فريق منهم يؤمن بنوع معين من تلك التفسيرات ، وكل فئة تدعو إلى تطوّر خاص من تلك التصورات التي أفتوا بها للديمقراطية .
فالديمقراطية في أصل لفظها كلمة يونانية مركَّبة من كلمتين (ديموس) وتعني الشعب و(كروتوس) وتعني السلطة أي ” سلطة الشعب ” أو ” حكم الشعب ”
المفهوم التقليدي للديمقراطية ؛ كان خاصاً بطبقة النبلاء فقط ، دون باقي الناس ، وبالتالي انشغل القياصرة بالحكم واستبدوا به ، لكن الوضع تطور ، وتطوّرت معه الديمقراطية بفعل عوامل هي :
ــ ظهور المسيحية
ــ الثورة الصناعية
ــ الصراع المذهبي في أوربا بين الملوك والبابوات
ــ ظهور الثورتين الفرنكوا أمريكية وظهور نظرية سيادة الشعب .
أما مفهوم الديمقراطية في الفكر الليبرالي ؛ فقد أعتبرها ديمقراطية سياسية فقط ، لا توجد لها الأبعاد الأخرى ، خاصة الاقتصادية منها ، أي قيامها على مبادئ أساسية تتمثل في :
ـ سيادة الأمّة
ـ الانتخابات البرلمانية
ـ استقلالية القضاء
ـ الحريات العامة
ـ وضع دساتير مكتوبة
ـ الفصل بين السلطات والمساواة أمام القانون
وهي مبادئ تسمح للمواطنين من التمتع بنوع من الاستقلالية وامتلاك وسائل للتأثير على الحكومة .
يقول عالم السياسة الفرنسي )مارسيل بريلو)) (*) : ((إنَّ جوهر الديمقراطية ليس مذهبا معينا ، ولكن مجموعة إجراءات بفضلـها تتمكن أغلبية السكان من التعبير عن إرادتها وتحديد الاختيارات الاجتماعية)) .
والحالة هذه ؛
فيبدو أنَّ بعض المرشحين العراقيين أساءوا فهم جميع المفاهيم الديمقراطية، عندما خاضوا بمأساة العملية الإنتخابية بأنانية وعنجهية مقيتة وغبيّة جداً ، إنعكست سلباً عليهم .
ويبدو أنَّ هنالك حمّى ترشيحات إنتخابية تفشّت فايروسياً بين الجماهيرفي العراق الجديد ، بحيث ظنَّ البعضُ أنَّ الوصول إلى المقاعد الإنتخابية تشبه الإنتماءات الحزبية المتعددة المشارب والمذاهب ، حتى ما عادت هنالك أية قطرة حياء على جبين بعض المرشحين ، الذين لا يعرفون حجومهم الإعتبارية في المجتمع ، بحيث ركبوا الموجة الإنتخابية مع الراكبين .. فهبّوا ودبّوا بعمى تام نحو الترشيحات النيابية ، دون خجل من أنفسهم ، ودون خوف على سمعتهم وتاريخهم ، من الناحيتين الوطنية والعرفية .
ما يخجل حقاً ؛ ظهور النتائج الإنتخابية ، بحيث لم يحصل المرشح إلا على ثلاثة أصوات .. ((صوته + صوت أمّه + صوت أبيه)) ، وهذا إنْ دلَّ على شيء ؛ فإنّما يدلُّ على الفقر المدقع والقفر المجدب في رصيده الجماهيري ورصيده المناطقي ورصيده الإنتمائي ورصيده في العمل ورصيده في أسرته .. الوحدة الأولى في المجتمع العراقي ، فكيف يمثل هكذا شخص جماهيرَ الشعب العراقي ، وهل سيتجرّأ ثانية على خوض الميادين التي لا مكانة ولا مكان له فيها إطلاقاً ، فكيف يتوقع أن له مقعد برلمان !!!؟
فلان ــ 5 أصوات !!!؟
فلانه ــ 4 أصوات !!!؟
هؤلاءِ أناسٌ مغرورون حتى نخاع العظم .. هؤلاءِ حالمون ، لا مرشحون ، إنّهم ((يخوطون بصف الإستكان)) (كما في المثل العراقي الدارج) !!!
وهذه الحال تنطبق على غيرهم من الأسماء التي كانت بالأمس القريب أسماءا في البرلمان العراقي ، فاستبعدتهم الجماهير . ظنّوا أنهم عندما يرشحون في محافظات غير محافظاتهم سيفوزون .هؤلاءِ أيضاً أصيبوا بحمّى الغرور ، وكأنهم توهموا أو أوهموا . فالعراقيُّ ذكيُّ ؛ يعرف كي ينتقي ، ومن ينتقي ، على الأعم الأغلب ، كما يبدو من نتائج الإنتخابات البرلمانية هذا العام2014 ؛ إنه لم يلدغ من جُحْرٍ مرّتين !
من هنا ؛ يتحتم على الفائزين في الوصول إلى المقاعد الإنتخابية ، أن يعرفوا قدْرَهم لدى الجماهير ، بحالة معاكسة للحالة السالفة الذكر ، إنطلاقاً من مبدأ ((رحم الله امرئ عرف قدْرَ نفسه)).
فالجماهير الواعية بأرجحية هذا دون ذاك .. صوّتت لهذا وأستقصت ذاك ، هي جماهير ليست غافلة الخيارات هذه المرّة . وعلى من ينعت العراقيين بأنهم ينعقون مع كل ناعق ، أن يعيد حساباته وتقييمه ونظرته في العراقيين . فلم يعد المواطن العراقي ذلك المواطن العراقي الرازح تحت نير ديماغوجية (صدام حسين) بإكراهه على منهج البعث الصدامي ((إذا قال صدام .. قال العراق)) .
لقد أكّدت المفوضية المستقلة العليا للإنتخابات العراقية ، وبمراقبة دولية قانونية ؛ إنَّ الإقتراع كان نزيهاً ، وما حدث من خلل هنا وهناك ، لم يكن ذا بال البتة .
ومهما يكن من أمر ؛ فالنتائج الإنتخابية حسمت لصالح الفائزين ، مثلما حسمت بخسارة المستبعدين ، فما على العراقيين اليوم ؛ إلا أن يطالبوا بالإسراع في عقد الجلسة البرلمانية الأولى العاجلة ، ولتحمل الجلسة عنوان ((الجلسة الدستورية)) تعلن عن تشكيل هيئة برلمانية متخصصة في القانون الدستوري وبمساعدة دولية ومحلية أكاديمية ودينية ، تأخذ على عاتقها حسم كتابة الدستور العراقي ، ومعالجة مواضع الخلل فيه بأسرع وقت ممكن ، وإعلان العراق ((دولة مدنيّة ديمقراطية متديّنة)) .. غير دينية .. غير علمانية .. غير إشتراكية .. غير رأسمالية . وذلك لكي يتمتع العراقيّون كافة بدستور دائم للبلاد والعباد تحت راية الله أكبر .
والله من وراء القصد ؛؛؛
(*) كتاب «علم السياسة» للكاتب الفرنسي «مارسيل بريلو» من ترجمة أحمد حسيب عباس، ومراجعة الدكتور علي سليمان.