18 ديسمبر، 2024 8:45 م

الناقد السياسي بين المنتظم والمتبرم والمنهضم والدكتاتور !

الناقد السياسي بين المنتظم والمتبرم والمنهضم والدكتاتور !

مقدمة
النقد بشكل عام هو نزعة فكرية طبيعية يتصف بها الإنسان العاقل الذي يرى في عمل الآخر عيوبآ تقتضي المراجعة والحاجة الى إعادة تشكيلها بمزيد من اللمسات الخلاقة لتكون اكثر انساجمآ بالعمل المطلوب زجه لخدمة الواقع والحياة والذات الإنسانية , وهو من ناحية أخرى المدخل للتعبير البناء عما يحيط الإنسان من سوء الاحوال السياسية والأجتماعية ومرارة الحياة , ويتقبل الردود الإيجابية , ويعد جوهر الحريات الفكرية التي تدعو الى الإصلاح والإبداع في شتى حقول الحياة .
انواع النقد
وعلى الرغم من ان النقد يتنوع الى نقد يدعو الى تمحيص العمل سواء كان ادبيا او فنيآ أو فكريآ وآخر يدعو الى نقد الذات , إلا اننا سنتناول النوع الأول بعيدآ عن الذات والدعوة الى تقويمها لما لنقد الذات من آثار سلبية على الناقد واولها العزلة والقطيعة عمن يكون موضوعا لها , رغم ان عملية نقد الذات تطوّر الحياة والمجتمعات وتحرر من الدكتاتورية , ولا يشك احد بإرتباط نقد الذات بحبل سري مع نقد العمل السياسي , لذلك لاينبغي لأحد ان يدير له ظهره مهما بلغت معطياته السلبية الهامشية .
خصائص النقد
تتعدد النظرة الى النقد بشكله التقليدي عند تناوله لأي عمل يرتبط بالسياسة , إذ يتصف فورا بالنقد السياسي , فيرتبط نجاحه بوعي الجهة التي ابتدعته أولآ وبالمجتمع المعني به وبظروفه التي يمر بها , ومجرى العصر ثانيآ .
ويختلف النقد السياسي في خصائصة ومظاهره عما هو عليه في النقد الأدبي , فمنه الساخر والمشوق والطريف والمثير في كشف الأسرار والمستفز.. الخ , لعلاقتة بالواقع السياسي والسياسيين والتنظيمات السياسية ذات العلاقة بكل مايجري في الكون بشكل عام وبالمجتمع والبيئة الأجتماعية الحاضنة له وتطورهما بشكل خاص .
لذلك فإن الناقد السياسي يكون دائمآ فريسة للإتهام والأستهداف لممارسته الدور الإرشادي وخاصة في محور الحد من الأنزلاقات التي تختلقها المصالح الشخصية للبعض من السياسيين على حساب مصالح الشعب والمجتمع , وهذا هو جوهر الصراع بين الناقد والقوى السياسية وهو بالطبع صراع اخلاقي توظفه لغة نقدية تعتمد على البيّنة والأدلة والمقتطفات في كثير من الأحيان وبشفافية مطلقة بعيدآ عن كل مايخدش الشخصية أو المساس بهيبة الدولة او المسؤول .
اما النقد الأدبي فيختص بالواقع الأدبي فحسب , كونه يتصف بالنزعة الى الكشف عن التيارات الأدبية الرصينة والأعمال الأدبية الناجمة عن تطورها من خلال دراسة تحليلية تتم ببصيرة وفكر منير , وبمناهج شتى قديمة وحديثة ومخرجات ذات صيغ ادبية بالغة بالضوء والتعبير النقدي وبالتأثير في النفس , وترتكز هذه الدراسه على شرط الثقافة العامة والذائقة الواعية وقلب أبيض لنماذج ادبية متجذرة بحقبة طويلة متميزة امضاها الأديب في العمل الأدبي , للوصول الى قرارة البنى التحتية لها ومدى ارتباطها بحبال المدارس الأدبية ورتب الإبداع سواء بسطح العمل المعروض أو جوهره .
ولا يخلو النقد الادبي من الإشارة الى الحقيقي والمزيف او التصويب للبنية التحتية للعمل الأدبي بمسؤولية وشفافية مجردة من العواطف والأنحياز كما هو معروف , إذ بدون ذلك لا ينتفع احد من حاسة الادب ولا من متعة قراءته .
النقد السياسي
ففي النقد السياسي ذهب فريق من السياسيين للإعتقاد بأن النقد الموجه اليهم إنما يمثل شكلآ من أشكال التعارض ومناهضة للأعمال التي ينهضون بأعبائها نحو الإرتقاء , سواء بالواقع الخدمي او الإنساني او غير ذلك , الى مراتب متطورة تنافس المجتمعات المتقدمة , لذلك يذهبون عنه بتبرم دون أن يعبأوا برأيه سواء كان رصينا او طائشآ , أو يعلموا – على الأقل – ان نور العلم باق والفخر بالحكم والسلطة محض أمد قصير .
أما الفريق الثاني , فقد ذهب ربما بجهل ودون ان يجهد عقله بالقراءة والمعرفة الى توصيف الناقد السياسي بأنه كالناب والمخلب يقرّبان الى العداوة أكثر مما الى تحصين العمل من تدخل الأهواء , فهضمت نفوسهم ومُلئت صدورهم بكل اسف بالغضب والغل الدفين الى حين إما يقتلوا صاحبه وإما يعتذر ويكون لهم نصيرا .
الفريق الثالث يقف الى جانب المتبرمين فيتجاوز عن الناقد الابيض ولا ينجذب الى وده او يلهو بحديثه لأن له من المفكرين ما يكحل بهم عيونه في عتمة الليل ووهج النهار , وفي ناحية اخرى يتجاوز أيضآ عن الناقد الأسود فلا يصغي اليه ولا يعبأ به , فلا ينهضم ولا ينتقم بل يجتنب كل فحشاء ضده .
وهذا ليس انفراد عن بقية الفرقاء بقدر ماهو رغبة في ان يظل هذا الفريق نائيآ مستريبآ وهو ينظر الى مايقدمه الناقد وبصمت .
الفريق الرابع ينفرد بالحس السياسي , فتارة ينتظم له , وتارة يتبين ان ماينشره الناقد السياسي ناجمآ عن مزاج انبثق عن موجة , أي يحاكي بكتاباته آراء آخرين قبله , ويسمى بالعامية ” راكوب ” أسوة بكلمة فسيل النخل الذي يخرج من جذع النخلة وليس من جذورها .
الفريق الخامس يرى أن البعض من النقاد السياسيين قد تضخم الحقد في قلبه على البلاد والعباد جراء إعاقة أو مرض أو ازمة نفسية فيركب باص الطائفية تارة وهو في حقيقة الامر بلا دين او مذهب ولا ينتسب لقومية , بل ويحتقر جميع الأعراف سواء العشائرية منها أو الأجتماعية , لذلك تأتي كتاباته كاشفة عن تلك الخصائص , ويرى الفريق ايضا عند تأمل اعمال هذا الناقد ومتابعتها أنه في تارة اخرى قد لقّن بها من جهات معادية ضليعة بالشأن السياسي وضليعة ايضآ بالعناوين التي يطرحها فينبذوه ولا يقربوا من كتاباته ولايصرفوا دقيقة واحدة على النظر اليها .
والقاريء الحصيف ربما يؤيد ذلك وهو يتنهد على كتابات قرأها بنفسه مرة لهؤلاء المرتزقة ويتسائل عن المكانة التي تليق بهم , هل هي مكانة الهاربين من الصدق الى الكذب والنفاق ؟! أم مكانة الملحدين العملاء الذين لم تؤدبهم نفوسهم منذ الرضاع ؟ لأنهم يكتبون عن بعد وبأسمائهم الحقيقية تارة وعن قرب بأسماء مزورة تارة اخرى مستشفين بتفريغ حقدهم في كتاباتهم .
فأي مكانة يختارها القاريء لهم بين الآخرين ؟ بسبب سعيهم بخطاب الكراهية مجتهدين الى خلق الهياج والخصام والفرقة بين طبقات المجتمع لتعطيل الحياة حتى يتشعّب خيارها الى البديل الفوضوي الذي يأتي بالجزع والهلع ومن ثم القبول بالبدع التي يخترعها أسيادهم ليمتلكوا أمرهذه الطبقات .
الجدير بالذكر ان الناقد السياسي الذي تراه ساميا في احلك الامور التي يمر بها شعبه والناقد الأدبي الذي يحلم بتقديم احسن ظنٍ ومعنى قرأته عيناه في كتابات الأديب , غير معنيان بذات السياسي او ذات الأديب ككائنين من البشر , بل يهتمان بالكشف عن عيوب الاعمال الناجمة عنهما فحسب بتعبير لغوي مؤدب سواء كان على سبيل المقارنة بأعمال أخرى او يستنبطها بفكره النيّر ويعرضها بأقتضاب او بالتفصيل المشوّق وبعناصر الإقناع عبر تلك اللغة , وان ظن السياسي او الاديب ان في اعمالهما من الحسن مالم يبلغه اي عمل آخر بالوصف .
الدكتاتور
من المعروف ان الحاكم الذي يتولى اعلى مراكز القيادة في أي بلد وبولاية مفتوحة على الشعب لابد أن يثقل كاهله وبشكل مطلق بأعباء الأعمال القريبة من أهوائه ليزيد من عليائه وسلطانه ويحط بالتالي من علياء الشعب ولا يسمح لغيره ان يستحوذ على اي قرار يكون فيه شفيعا للمذنبين ولطيفآ للآخرين لكي لايكتسي ببردة المدح والثناء ويعزى اليه البأس او السخاء دون ان يكون هو نفسه الذات التي تستحق ذلك . هذا الحاكم هو بحق الدكتاتور الذي لا انيس له سوى عبارات التبجيل والتسبيح التي يصطفيها له البعض من أصحاب العقول الساذجة والألسن الخرس من افراد ذلك الشعب .
لذلك أي ناقد وإن كان ابو العلاء المعري نفسه , سواء تفوّه في الشرق او الغرب بعبارة ضده او همس بصوت يمس هيبته او ظلال اعماله التي أنبتها بالأرض من جلال عظمته , فإنه يلقى من الهوان مالم يلقاه عبد وحر في سجن الباستيل , وحين يذوب قلبه من الذلّ والأسى والتعب ومن فرقة الأصدقاء وقطع الارحام عنه , فإنه يبلغ مرحلة الإعدام بأحذية الجلادين أو بهراواتهم غير مأسوفٍ عليه .
الخاتمة
ولكي يعرف القاريء الكثير او اليسير عن كنه الدكتاتور لتكون دالته البيّنة في معرفة ما يجري على مسرح السياسة بالعالم , نقول له بعقيرة عالية : أقرأ كتاب ” عنف الدكتاتورية ” للكاتب النمساوي ستيفان زفايج , وأقرأ من الأجانب عن عائلة كيم إيل سونغ و ستالين وهتلر وموسوليني وروبرت موغابي , ومن العرب اقرأ لناكث العهود والقيم , أبي الصفح والمكارم وداني القطوف والنعم لأهله وأتباعه وأصدقائه ومريديه وهو القتيرمع الأشراف والأعيان واهل العقل الرزين والاطفال الرياحين , اقرأ عن قاتل اول شهيد بكى منه دما في حقبته وهو القلم , اقرأ عن الذي بلغ الكهولة في إنضاء شعبه بالحروب والخطوب والمذابح المروعة , فلايجيب او يستجيب لمنطق العقل والرشاد أوالدين الذي أتخذه مركبآ ليعبر به بحر الأهوال التي صنعتها يده , ولم يأسف أويندم من مظالمه وزحفه على الجار بالجيوش والنِقم .
ولا اظن بعد هذه السطور الاخيرة , نحتاج الى رسم صورة تعكس حقيقة العلاقة بين الناقد والدكتاتور بقدر مانحتاج الى أن نسأل بالنهاية : من يصغي الى الناقد فينتظم , ومن له يتبرّم , ومن له ينهضم فينتقم ؟