أول واكبر جريمة في تاريخ الدولة العراقية منذ نشوءها قبل التاريخ ,أحلام بددها تحفي الخطى وخوف من ليل بلا آخر ,عوائل بلا مأوى واخرى تركت بلا حفار للقبور .
كأنها بوابة جهنم , ليالي شعارها الموت والنار , سقوف تهاوت واشلاء تناثرت , وموت ليس له بوابة محددة , اخترق الضمير الانساني فأطاح به , لحى تنكرت بلون الدين احمر كانه الدم , تعددت اللغات والاشكال وآليات الهمجية , جمعتها صبغة القهر للحياة والجمال , ورحلة هي اطول من عمر الكابوس , آلاف من الاحلام اكتنفتها طرقات الليل خوفا من البطش , رحلة الحدباء الى المجهول , آباء خلفها ابناء في تيه الرعب , واطفال تنصلت عنها اثدية قطعتها شظايا الحمق , مسيرة لمئات الاميال بلا هدف او أمل على مرمى بصر , لم يتبقى من صوت احمد الموصلي سوى صدى , يفتش عن صورة حبيبته لمياء في هذيان ليل مجنون لا يعلم عن الحب معنى , رحلة ليس لها أثر أو ذكر في كراريس مريم الدراسية عن العصور المتحجرة , لا صوت مزمار ولا بزك , انه الموت يحفر سقف السماء ويرفش الارض , انبياء بلا حرمة سقف , قباب سافر عنها لونها الذهبي تحت اقبية الدخان , شرعنة الغاب لفض بكارة الشرف , احاديث كثيرة هي كما الاسطورة اللعينة للفناء البشري , ابتداناها في مخيم النازحين من والى الوطن .
أبو رضا قاطن في احد مجمعات النزوح التي تعددت مواقعها في وطن الذبح , يروي لنا ليلة القيامة الحديثة , لغة امتزجت فيها الدموع وصوت هو اقرب الى النحيب , ابتدات رحلتنا بعد ان اشتد القصف من كل جانب , السماء تمطر موت , الهواء موت , والارض موت , خروج ليس له وجهة , مسقط الرأس لم القي عليه نظرة وداع , بعد بضعة اميال تفقدنا احدنا الآخر فأكتشفنا بان احد اولادنا لم يكن ضمن قافلة المجهول , اي رعب هذا الذي ينسي الانسان اولاده , واية مأساة هذه التي تدور , حفرت قدماي الارض طريق العودة مرة اخرى , تعثرت بجسده ملقى على حافة الموت , كلمة واحدة بيني وبينه , ابي انني عطشان , بعدها انتهى كل شيء , لم تمنحه المأساة أن استخرج له شهادة وفاة كباقي الاولاد , ابتل ورقي بالدمع , فسالت دمعة منه الى مجرى دموعي على ورق التاريخ .
في الزاوية المجاورة امام المجمع , جلس جليل يمتطي قلمه , يسطر فيه مفردات صعب استجماعها , انها رسالة الى اخيه في مجمع لايعلم عنوانه , ساعي بريده الامل , وعنوانه المجمع المقابل لعمود الكهرباء رقم 201 , اي عنوان بديل هذا لباحة الدار الفسيح وسهول الموصل الخضراء ؟ , استوقفتني خلجاتي عن الاستمرار , شعرت بان الانسانية تساقطت عن ورديتها , وهو يروي لي مجلس عزاء والدته في مجمع النزوح , حيث لا ابنة ترثي , ولا ولد يقبل اليدين , ليس سوى دموع اكبر من حدقات العيون , واناس تقرا الفاتحة على نفسها قبل قراءتها على المتوفية , وابو جورج وزوجته كانا واقفان في زاوية العراء , يسترجيان العذراء , الا امنحيها رحمتك , وتغمديها بروح يسوع , هكذا يودع الاحبة , غرباء في وطن نزحو منه اليه .
عمر مرعي طفل في العاشرة من العمر , لم ينفك عن السؤال طيلة الجلسة عن مدرسته , ومتى يبدا عامه الدراسي الجديد , انه يحلم بباحة المدرسة واللعب , يعشق كرة القدم ونيمار , تحدث عن مهاراته في اللعب , ويحلم ان يكون ممثلا لنادي الموصل , ومنتخب العراق , سألته عن الموصل واي الاماكن احب اليه فيها , وصف لي محيطه ببراءة كبيرة , الملعب الشعبي وصور المقاهي , ومنارة النبي يونس ومتنزهات العيد , ايقظ مواجعي بالسؤال عن موعد العودة اليها , اجبته بدمعتين لم يستطيعين الرمشين من اخفاءهما .
محطتي مع مريم كانت الاصعب , فهي تبحث عن كنيسة تذهب اليها صباح الاحد , عينان يحملان براءة الكون , وشعر مجدلي يدغدغ الكتفين بطفولة , خجل وقور وابتسامة كانها الامل , وسؤال مكرر عن سجى , هي رفيقة الطاولة المدرسية , فرقتهما ليالي مجمعات النزوح وبطش الدهر الاغبر , في وطن لا يعي قادته متطلبات الطفولة واحلامها البسيطة , الحدباء تلك المدينة المعطرة بالأخاء والمختومة بالربيع , انهارت مآذنها وقبابها وجدران كنائسها , فما عاد فيها محراب تلوذ به من بطش الغدر والجهل والهمجية .
وانا اتنقل بين المجمع تعثرت عيناي اكثر من مرة بعيني عبوسي , طفل الربيعين ونصف , عرفت ما عندهما , ليس عندي جواب يا حبيبي , أنا اقرأ عينيك , لكني لا اعلم اي مصير واجها ابيك وامك , اقسى درجات التيتم , واعنف مصير تواجهه الطفولة في زمن العنف الأرعن , ابن المجمع المقابل لعمود الكهرباء المرقم 201 , يبحث في المارة عن ابوين فرقتهما عنه هوجاء الهجمة البربرية الممتطية عنوة وكذبا لمفهوم الدين
على بوابة الرحيل تجمع اطفال لا اعلم مذهبياتهم ودياناتهم , وهم لا يعلمون عني ايضا , ولأني احمل كاميرة وقلم , استنطقوني , هل سنعود ؟ لم تسترني رموشي هذه المرة ولم تسعفني نفسي.