23 ديسمبر، 2024 1:50 ص

النازحون من والى الوطن ..

النازحون من والى الوطن ..

أول واكبر جريمة في تاريخ الدولة العراقية منذ نشوءها قبل التاريخ ,أحلام بددها تحفي الخطى وخوف من ليل بلا آخر ,عوائل بلا مأوى واخرى تركت بلا حفار للقبور .
كأنها بوابة جهنم , ليالي  شعارها الموت والنار , سقوف تهاوت واشلاء تناثرت , وموت ليس له بوابة محددة , اخترق الضمير الانساني فأطاح به , لحى تنكرت بلون الدين احمر كانه الدم , تعددت اللغات والاشكال وآليات الهمجية , جمعتها صبغة القهر للحياة والجمال , ورحلة هي اطول من عمر الكابوس , آلاف من الاحلام اكتنفتها طرقات الليل خوفا من البطش , رحلة الحدباء الى المجهول , آباء خلفها ابناء في تيه الرعب , واطفال تنصلت عنها اثدية قطعتها شظايا الحمق , مسيرة لمئات الاميال بلا هدف او أمل على مرمى بصر , لم يتبقى من صوت احمد الموصلي سوى صدى , يفتش عن صورة حبيبته لمياء في هذيان ليل مجنون لا يعلم عن الحب معنى , رحلة  ليس لها أثر أو ذكر في كراريس مريم الدراسية عن العصور المتحجرة , لا صوت مزمار ولا بزك , انه الموت يحفر سقف السماء ويرفش الارض , انبياء بلا حرمة سقف , قباب سافر عنها لونها الذهبي تحت اقبية الدخان , شرعنة الغاب لفض بكارة الشرف , احاديث كثيرة هي كما الاسطورة اللعينة للفناء البشري , ابتداناها في مخيم النازحين من والى الوطن .
أبو رضا قاطن في احد مجمعات النزوح التي تعددت مواقعها في وطن الذبح ,  يروي لنا ليلة القيامة الحديثة , لغة امتزجت فيها الدموع وصوت هو اقرب الى النحيب , ابتدات رحلتنا بعد ان اشتد القصف من كل جانب , السماء تمطر موت , الهواء موت , والارض موت , خروج ليس له وجهة , مسقط الرأس لم القي عليه نظرة وداع , بعد بضعة اميال تفقدنا احدنا الآخر فأكتشفنا بان احد اولادنا لم يكن ضمن قافلة المجهول , اي رعب هذا الذي ينسي الانسان  اولاده , واية مأساة هذه التي تدور , حفرت قدماي الارض طريق العودة مرة اخرى , تعثرت بجسده ملقى على حافة الموت , كلمة واحدة بيني وبينه , ابي انني عطشان , بعدها انتهى كل شيء , لم تمنحه المأساة أن استخرج له شهادة وفاة كباقي الاولاد , ابتل ورقي بالدمع , فسالت دمعة منه الى مجرى دموعي على ورق التاريخ .
في الزاوية المجاورة امام المجمع , جلس جليل يمتطي قلمه , يسطر فيه مفردات صعب استجماعها , انها رسالة الى اخيه في مجمع لايعلم عنوانه , ساعي بريده الامل , وعنوانه المجمع المقابل لعمود الكهرباء رقم 201 , اي عنوان بديل هذا لباحة الدار الفسيح وسهول الموصل الخضراء ؟ , استوقفتني خلجاتي عن الاستمرار , شعرت بان الانسانية تساقطت عن ورديتها , وهو يروي لي مجلس عزاء والدته في مجمع النزوح , حيث لا ابنة ترثي , ولا ولد يقبل اليدين , ليس سوى دموع اكبر من حدقات العيون , واناس تقرا الفاتحة على نفسها قبل قراءتها على المتوفية , وابو جورج وزوجته كانا واقفان في زاوية العراء , يسترجيان العذراء , الا امنحيها رحمتك , وتغمديها بروح يسوع , هكذا يودع الاحبة , غرباء في وطن نزحو منه اليه .
عمر مرعي طفل في العاشرة من العمر , لم ينفك عن السؤال طيلة الجلسة عن مدرسته , ومتى يبدا عامه الدراسي الجديد , انه يحلم بباحة المدرسة واللعب , يعشق كرة القدم ونيمار , تحدث عن مهاراته في اللعب , ويحلم ان يكون ممثلا لنادي الموصل , ومنتخب العراق , سألته عن الموصل واي الاماكن احب اليه فيها , وصف لي محيطه ببراءة كبيرة , الملعب الشعبي وصور المقاهي , ومنارة النبي يونس ومتنزهات العيد , ايقظ مواجعي بالسؤال عن موعد العودة اليها , اجبته بدمعتين لم يستطيعين الرمشين من اخفاءهما .
محطتي مع مريم كانت الاصعب , فهي تبحث عن كنيسة تذهب اليها صباح الاحد , عينان يحملان براءة الكون , وشعر مجدلي يدغدغ الكتفين بطفولة , خجل وقور وابتسامة كانها الامل , وسؤال مكرر عن سجى , هي رفيقة الطاولة المدرسية , فرقتهما ليالي مجمعات النزوح وبطش الدهر الاغبر , في وطن لا يعي قادته متطلبات الطفولة واحلامها البسيطة , الحدباء تلك المدينة المعطرة بالأخاء والمختومة بالربيع , انهارت مآذنها وقبابها وجدران كنائسها , فما عاد فيها محراب تلوذ به من بطش الغدر والجهل والهمجية .
وانا اتنقل بين المجمع تعثرت عيناي اكثر من مرة بعيني عبوسي , طفل الربيعين ونصف , عرفت ما عندهما , ليس عندي جواب يا حبيبي , أنا اقرأ عينيك , لكني لا اعلم اي مصير واجها ابيك وامك , اقسى درجات التيتم , واعنف مصير تواجهه الطفولة في زمن العنف الأرعن , ابن المجمع المقابل لعمود الكهرباء المرقم  201 , يبحث في المارة عن ابوين فرقتهما عنه هوجاء الهجمة البربرية الممتطية عنوة وكذبا لمفهوم الدين
على بوابة الرحيل تجمع اطفال لا اعلم مذهبياتهم ودياناتهم , وهم لا يعلمون عني ايضا , ولأني احمل كاميرة وقلم , استنطقوني , هل سنعود ؟ لم تسترني رموشي هذه المرة ولم تسعفني نفسي.

*[email protected]