لم يكد المواطن العراقي يفيق من كابوس الدكتاتورية البشعة التي امتدت عقودا تنخر في جسده و تمتهن كرامته و تصادر حريته حتى وجد نفسه يغوص في مستنقعات موحلة من الفساد لاحدود لها و لا ضوابط استشرت في مؤسسات الدولة كما الخلايا السرطانية في جسم المريض. و الحقيقة المرّة انّ الفترة التي فصلت بين استفاقته من ذلك الكابوس و وقوعه في وحل الفساد لم تكن كافية لالتقاط انفاسه و استعادة وعيه الانساني كاملا و بلورة شخصيّته السياسيّة الراشدة بما يؤهله لاتخاذ قراراته بصورة مستقلة دون الخضوع للمؤثرات السمعيّة و البصريّة التي يحاول ان يخدعه بها الآخرون.
من هنا و حين خفقت رايات الدعايات الانتخابيّة للدورة البرلمانيّة الاولى, وجد الناخب العراقي نفسه محكوما بالاستقطاب الطائفي فأسلس قياده لاصحاب القوائم المغلقة دون قيد او شرط. و افاق هذه المرّة من حمّى الانتخابات على مشهد افتتاح مجلس النوّاب على وجوه لا يعرفها, بل لا يستطيع التعرف حتى على قائمته المغلقة بينها و هي على حدّ علمي – مهزلة ديمقراطيّة من الطراز الاول. و الانكى من ذلك انّ نوّاب الشعب هؤلاء حوّلوا البرلمان الى حلبة ملاكمة يحاول كل فريق منهم ان يهزم خصمه بالضربة القاضية فان لم يستطع فبالنقاط على اقل تقدير.
و مع الدورة الثانية ادرك السياسيّون انهم لن يستطيعوا ان يوقعوا الناخب هذه المرّة في ( الفخاخ المغلقة ) فعمدوا الى حيلة اخرى وهي نظام القوائم المفتوحة. و حاول بعض الناخبين ان يحافظ على يقظته هذه المرّة لئلا تنطلي عليه الحيل فصوّت لمن رآه كفؤا, و لكن هذه اليقظة لم تجد نفعا مع الحيلة الجديدة التي لم يفلت منها الا (سوبرمان) كربلاء الذي حطّم الرقم القياسي بعدد الاصوات التي فاز بها كمترشّح مستقل و لم ينج من مصيدة القوائم احد غيره على حدّ علمي. اذ كيف يستطيع المترشح – مهما كان مخلصا و شريفا و كفوءا- ان يفوز اذا ترشح بصورة مستقلة او تحت لواء قائمة غير كبيرة ما دام مبدأ (( افيضوا علينا مما رزقكم الله ))فعّالا في نظام القوائم. فمع هذا المبدأ تستطيع احدى المترشحات ان تفوز في بغداد ذات الكثافة السكانية الهائلة بمجموع 650 صوتا لانها تنتمي الى قائمة رئيسية بينما يخسر مترشح في ميسان مع حصوله على سبعة آلاف صوت لان احدا لم يفض عليه مما رزقه الله. و هي على ما اظن مهزلة سياسية لا تقلّ عن سابقتها.
و لكي نوقف سلسلة المهازل هذه و نبدأ الخطوات الجديّة الاولى في تجفيف مستنقع الفساد الموحل لابد ان يتغيّر النظام الانتخابي. ولا اتحدّث هنا عن مجالس المحافظات فقد فات الاوان لهذه الدورة, و انما اتحدّث عن الانتخابات البرلمانيّة و اطرح بديلا هو نظام الدوائر الانتخابيّة الشائع في اكثر البلدان التي تحترم نفسها و تحترم عقول مواطنيها. فعلى سبيل المثال بدلا ان تكون بغداد دائرة انتخابيّة واحدة تتقسم الى عشر دوائر او عشرين دائرة او اكثر او اقل حسب التعداد السكاني التقريبي, و اقول التقريبي لئلا يتذرّع البعض بعدم وجود احصاء سكّاني دقيق. و هكذا الحال في جميع المحافظات الاخرى اذ ليس من المعقول ان تكون المحافظة على سعتها دائرة انتخابيّة واحدة و فيها اقضية متباعدة و نواحي عديدة. و حينئذ تتحول الانتخابات الى سباق حقيقي بدلا من الضحك على الذقون و حينئذ فقط يصبح بامكان الدائرة الانتخابيّة الواحدة ان تتعرف على المترشحين فيها و تختار الاصلح منهم.و هنا لا اتوقع من المواطن العادي ان يخوض في تفاصيل هذا النظام الانتخابي لانّه لم يسبق به في العراق و لان ذوي النفس الوصولي من ساسة العراق لا يتحدثون عنه باعتباره يتقاطع مع مصالحهم. و انما اعوّل على القانون و الشريحة المثقفة من المجتمع ان تسلط الضوء عليه بقوة و تكشف اهميته و تحوله الى مطلب شعبي لا بديل عنه. ففي اعتقادي – ولا اظن ان احدا يختلف معي في ذلك – ان الفساد المستشري في العراق كله انما يطفح من تحت قبّة البرلمان. و ما الحكومة الا بعض افرازات البرلمان بحكم النظام البرلماني, و ما لم نبدأ بتطهير البرلمان فاننا سنغوص اكثر فاكثر في مستنقع الفساد و نتحول الى شعب يلعن بعضه بعضا, و يتسلّق بعضه على اكتاف بعض لينجو كلّ منا بنفسه دون الاكتراث بغيره بدلا من ان نستعيد شعورنا الانساني الذي لا تستقيم حياة الشعوب بغيره, و بدلا من ان نتحوّل الى يد تبني و لا تهدم, تعطي و لا تسرق, تنتشل الاخرين من الحرمان و لا تغرقهم واذا ارادت ان تغرق احدا فلا تغرق الا الفاسدين.
[email protected]