23 ديسمبر، 2024 6:18 ص

المُتَعُ الجنسيَّةُ والحِسِّيةُ في الجنةِ.. هل هي حرفية أم رمزيةٌ؟ – 3 والاخير  

المُتَعُ الجنسيَّةُ والحِسِّيةُ في الجنةِ.. هل هي حرفية أم رمزيةٌ؟ – 3 والاخير  

وصلنا في الجزء الثاني من هذا المقال الى السؤال التالي
يقولُ النبيُّ ومن معه داعينَ الله أتممْ لنا نورَنا واغفرْ لنا؟ والسؤال الآن إذا دخلَ المؤمنُ الجنةَ هل يحتاجُ إلى إتمامِ نورِهِ وهل يحتاجُ إلى أنْ  يغفر الله لهُ وهل يدخلَ الجنةَ إلَّا منْ غفرَ اللهُ لهُ ؟
هناكَ الكثيرُ من الآياتِ التي تُثبتُ بأنَّ المؤمنَ لا يُعاتَبُ ولا يُذْنِبُ في الجنةِ أبداً, ولكنَّ السؤالَ الأولَ هنا: هل الجنةُ دارٌ للكسلِ أم للعملِ؟ فمن قال بأنَّها دارٌ للكسلِ فقد أخطأ وخالفَ القرآنَ الكريمَ الذي وصف أهلَ الجنةِ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }يس55, إنَّ شغلَ أصحابِ الجنةِ هو عبادةُ الإلهِ والتعرُّفِ عليه وعلى أسمائِهِ الحسنى التي استأثرها في علمِ الغيبِ عندهُ, والتي سنطَّلعُ عليها في الآخرةِ, والتي سنشعرُ بها أنّ نورنا لم يكتملْ, لأنَّنَا بحاجةٍ إلى أن نصلَ إلى الأسماءِ والصفاتِ الأخرى للهِ, فننشغلُ بها وندعوا الله أنْ يتَمِّمَ لنا نورنا فيستجيبُ اللهُ لنا ويُتِمَّ نورنا, فنرى بعده مقاماً إلى اللهِ أقربُ, فندعوا الله تعالى أنْ يغفرَ لنا, وأن يتمِّمَ نورنا, وهكذا الأمرُ سيستمرُّ, لأنَّ أسماءَ اللهِ وصفاته غيرَ محدودَةٍ, وبالتالي فالاصطباغُ بصبغةِ الله تعالى لن يكونَ محدوداً في الآخرةِ, ولكنَّ عبادةَ اللهِ هذهِ تختلفُ اختلافاً جذرياً عن عبادتنا له في هذه الدنيا, فستكونُ في حالةٍ لا يعملها إلا الله, ولكنها بالتأكيدِ تختلفُ عن عبادتنا له في هذه الدنيا بأمرٍ مهمٍ وهو أنَّ عبادةَ المؤمنِ في هذهِ الدنيا تكونُ مصاحبةً لنوعٍ من المجاهدةِ ومخالفةِ النفسِ, وصراعٌ مع وساوسِ الشيطانِ والكسل, بينما ستكونُ في الجنةِ عبادةٌ فيها ملذَّاتٌ روحيةٌ كبيرةٌ جداً, كما يرى الرجالُ و النساءُ المتعةَ في الجنسِ أو في المأكلِ أو في المشربِ أو في شربِ الخمرِ, وسوف نثبتُ ذلكَ منَ القرآنِ الكريمِ نفسهُ.
إنَّ الله تعالى منذ البدايةِ ومنذ خلقِ الإنسانيَّةِ تكفَّلَ بأمرٍ, ألا وهو جعلُ الناسِ تتعرفُ عليهِ وتفهمُ صفاتهُ فهماً صحيحاً, وكلما سَقِمَ فهمُ الناسِ نتيجةً لاختلاطها بالأفكارِ الإنسانيّةِ, أنزَلَ شريعةً لتصحيحِ تلكَ المفاهيمِ, فالغرَضُ من خلق الإنسانِ هو العبادةُ, والعبادةُ هي التعرفُ على الذات الإلهيةِ وصفاتها والتطبع فيها, وبما أنَّ صفاتَ اللهِ غيرُ محدودةٍ ولا نهايةَ لها, فإنَّ التعرفَ على تلكَ الصفاتِ بما أنها وسيلةٌ للتقربِ إلى الذاتِ الإلهيةِ باعتبارها عبادةٌ, ستكون أيضاً لا نهاية لها. إنَّ التحلِّي بالصفات الإلهيةِ يستلزمُ العلمَ بتلكَ الصفاتِ, وإنَّ الله تعالى يوحي لأنبيائِهِ بهذا الأمرِ, وكلُّ الناسِ نالوا هذه النعمةَ, أي نعمةَ التعرفِ على الصفاتِ الإلهيَّةِ بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ, لأنَّ الأنبياءَ والرسلِ كانوا في كلِّ أمَّةٍ, فالله تعالى يقول:  { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }فاطر24,
فالله تعالى لا ينتظر من الإنسان أن يتعرف عليه ويكونُ الإلهُ مديناً للإنسان, بل بالعكسِ, إنَّ الله يبادرُ بتعليمِ صفاته وأسمائهِ إلى عبادهِ, فهو يسعى بِجُودِهِ وفضلهِ ورحمانيتهِ إلى أنْ يتعرَّفَ عليه الإنسان من خلال تعليمهِ الأسماءُ الحسنى, بعد أنْ وضعَ الله تعالى في فطرةِ الإنسانِ, أيُّ إنسانٍ, الرغبةَ في معرفةِ اللهِ تعالى, وعندما يتعلمُ الإنسانُ أسماءَ الله الحسنى ويحاول الاصطباغَ بها فهو سينجذبُ إلى الله تعالى, ويحاول أنْ يعرفه أكثرَ, فيحبه أكثر وينجذب إليه أكثرَ, فتزدادُ معرفتهُ باللهِ وقربهُ من اللهِ, وعندما يزداد الإنسانُ مقربةً من الله تعالى تزدادُ محبتُهُ وتزدادُ طاقةُ الانجذابِ إلى الله تعالى, وهكذا تستمرُّ العمليةُ إلى ما لا نهايةَ, لأنَّ صفاتَ اله  غير محدودةٍ ولا نهايةَ لها, ومن المستحيل لأي إنسانٍ أنْ يصل إلى نهايتها أو ذروتها.
إنَّ أي معرفةٍ تؤدي إلى حبٍّ, تؤدي إلى انجذابٍ, فتؤدي إلى معرفةٍ أكثر, وتؤدي إلى حبٍ أكثرَ وإلى انجذابٍ أكثرَ وقد وضعَ اللهُ تعالى في فطرةِ الإنسانِ الرغبةَ في معرفةِ الله تعالى فيقول في كتابه الحكيم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172.
ولسوف تظلُّ الرغبةُ في الإنسانِ لمعرفةِ الهِّ تعالى مستمرةٌ حتى في الدارِ الآخرةِ, فمن جاهدَ نفسهُ ليتقربَ إلى الله تعالى في الدنيا, سوفَ يستمرُّ أيضاً في هذه الرغبةِ في الآخرة, ويظلُّ مستمراً في محاولةِ التقربِ إلى اللهِ تعالى, أما الذينَ لم يعبدُوا الله ولم يُجهدُوا أنفسهم في التعرُّفِ إلى اللهِ, فأعمى الله بصرهم وسدَّ آذانهم, فإنهم يذهبون إلى جهنمَ دارِ التعذيبِ للعلاجِ من هذه الأمراضِ التي اكتسبوها جرَّاء أفعالِهم حتى يتطَّهروا من أدناسهم والأغلالِ التي وضعوها على أنفسهم من أجل أنْ يكونوا مهيئيَّن إلى التنعمِ بأفضالِ الله تعالى والتقرب إليه, ونأتي لنؤكدَ أنَّ محاولةَ التعرفِ إلى اللهِ تعالى لا تتم إلا من خلال تفضِّلِ الإلهِ على عبادهِ, فالإنسانُ تُزرعُ في فطرتهِ الرغبةُ في التعرَّفِ على الإلهِ, وإذا ما أراد الإنسانُ التعرفَ على اللهِ أكثرَ, فإنَّ الله يُنعمُ عليهِ ويتفضلُ عليهِ, بأنْ يكشفَ له من العلمِ بربهِ ما لم يكشفهُ له من قبلُ, فتؤدي هذهِ المعرفةُ إلى محبةٍ وإلى رغبةٍ في التقربِ إلى اللهِ, و تبدأ هذه الدورةُ التي لا تنتهي أبداً.
فمقامُ الإنسانُ في الجنةِ يتناسبُ مع المكانةِ التي تَوصلَّ إليها أيُّ إنسانٍ في رحلتهِ للتعرفِ على الإلهِ فمنْ أفنى نفسهُ في الله كالأنبياءِ الذين يعرفونَ ربهم أكثرَ يكونونَ أكثرُ قرباً, وبعدهم من هو أدنى مرتبة منهم وهكذا, وإن صاحب أعلى مقامٍ في الجنة هو صاحب المقام المحمود النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وستستمر مسيرة الانسان في التعرف على الله في الدار الآخرة كما في الحياة الدنيا, ولكن تلك المسيرة في الجنة كما قلنا تختلف, فهي لا تتعرض إلى الصعود أو الهبوط بينما مسعى الإنسان في الآخرة للتعرف إلى الإله سيكون مضطرداً وفي تقدمٍ مستمرٍ, كما أنَّ سعيه بالجنة لن يكون بنصبٍ وتعبٍ كما كان حاله في الدنيا, لأنَّ الجنة لا تعب فيها ولا نصب, حيث يقول الله تعالى في سورة فاطر: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ{33} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ{34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ{35}.
وهنا يؤكد الله تعالى على لسان أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى أن أذهب عنهم الحَزَنَ ولا يمسهم النصب ولا اللغوب, وهنا لاحظ أنَّ في هذه الآية أكبر دليلٍ على أنَّ العبد سيستمر في العبادة, فالحمد هنا هو عبادة أهل الجنة, وكلنا يعلم أنَّ الحمد هو من العبادة, ولكنها عبادةٌ في دار المقامة بدون لغو ولا نصب ولا حزن عكس حال العبادة في الدنيا.
إنَّ عبادة الله بدون نصبٍ أو وصبٍ تكون في الدنيا لبعضٍ من خلقه, وهم من توصلوا إلى مقام العبودية, هؤلاء الذين يعبدون الإله ويزدادون منه قرباً رغم ما يعانون من آلامٍ أو سهرٍ أو ترك الفراش أو الطعام, غير أنهم لا يشعرون بكل تلك الآلام وبكل تلك المشاقِّ, لأنهم نالوا من نعيم القرب الإلهي وذاقوا من خمرةِ الحب الإلهية التي أبعدت عنهم كل نصبٍ وكل وصبٍ في الدنيا, هؤلاء يشربون الآن في هذه الدنيا كأساً صغيرةً, ولكنها تتحول في الجنة إلى عينٍ دافقةٍ يفجِّرونها تفجيراً, فتتفجر في قلوبهم وتفيض بماءِ الوصالِ, ويجري مزاجها وخليط شرابها في أفئدتهم جري الغدير المنحدر, فيشربون من ماءها حتى ترتوي نفوسهم وتمتلئ أوصالهم بماء الوصال, فيكتسبون منه قوة عجيبة تعينهم على عبادة ربهم, وتمنحهم القدرة على التقرب إلى الله تعالى, وتضيء أنوار معرفته في أفئدتهم فتشتعلُ نيران المحبة في قلوبهم وهذا ما وصفه الله تعالى في كتابهِ الكريمِ بالقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً }الإنسان5, أي أنَّ الأبرار يشربون الآنَ من كأسٍ صغيرٍ مزاجه كافور في هده الحياة الدنيا, أي أنَّ الأبرار يشربون من كأس القرب من الإله, وجعل من الكأس رمزاً للوصال معه, ومزاجها كافورُ معرفةُ الإله ومحبتهِ, فلماذا أسماه كافورا؟ لأنَّ الكافور من ميزاته قتل كافة الجراثيم والسموم التي تؤذي جسم الإنسان, فمعرفة الله ومحبته تقضي كالكافور على بقايا الإثم وتأثيراته في الإنسان وروحه.
فهنا الإله رَمَزَ بالكأس, كأس القرب من الإله والشراب شراب محبته ومعرفته وهذه المعرفة والمحبة قلنا عنها سابقاً أنها غير منتهيةٍ, فتمتلئ الكأس وتصبحُ أكبر كلما سعى الإنسان في معرفةِ الإله والازدياد من قربه حتى تكبر الكأس رويداً رويداً, فتصبح عيناً يفجِّرها عباد الله بأفعالهم فتفيض عليهم ما تفيض في هذه الدنيا لا في الآخرة, فيقول الله تعالى : إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً{5} عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً{6}, فهؤلاء الذين شربوا من رحيق المحبة الإلهية يفجِّرون تلك العيون الخالدة في الدنيا, فيوفون بالنذر ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً, ويخافون يوم العرض على الإله فيقول الله تعالى : إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً{5} عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً{6} يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً{7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً{9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً{10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً{11} سورة الانسان.
والآن يظهر لنا سؤالٌ: ما هو اليوم الدي يخاف منه هؤلاء الأبرار الذي كان شرُّهُ مستطيراً؟ هل هو يوم وفاتهم ؟ الجوابُ: كلا, لأنَّ الله تعالى يقول عن يوم وفاتهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }النحل32, هل هو يوم الحساب إذاً؟ الجواب: كلا أيضاً, لأنَّ الله تعالى يقول: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ{50} مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ{51} وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ{52} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ{53} سورة ص, أي أنَّ يوم حساب الأبرار يوم يجدون فيها أبواب الجنة مفتَّحةً لهم, فلا يمكن أن يكون هذا اليوم شراً لهم, فلا يوجد لهم يوم شرٍ في الآخرة, فما هو هذا اليوم؟  إنَّ هذا اليوم هو من أيام الدنيا, اليوم الذي تصدر فيه منهم بادرةٌ أو هفوةٌ تبعدهم عن محبوبهم, ولو لاحظت الآيات في السياق لرأينا أنَّها أفعال دنيا, وليست أفعال في الآخرة, راجع سورة الإنسان وسترى السياق يتكلم عن الدنيا, فهو يقول: إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً{5} عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً{6} يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً{7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً{9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً{10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً{11} سورة الانسان, وهذا اليوم ليس يوم الحساب, فإنَّ الفزع الأكبر لا يطالهم, ولن يصيبهم شر هذا اليوم أبداً, إذ يقول الله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }الأنبياء103, فهم لا ينالهم فزعٌ ولا خوفٌ ولا شرٌ من شرورِ يوم القيامةِ, لأن شرَّ القيامة لا يكون إلا على من كفرَ بالله وكذب بآياته, وليس مع الأبرار الذين تتوفاهم الملائكة بالبشرى وتؤمنهم من الفزع الأكبر, فلا يخافون يومه أبداً وهم عن هذا الشر مبعدون, بل إنَّ ما يخافونه يوماً لا يعبدون الله حق عبادته كما ينبغي, فهم لا يتصورون أن يعيشوا لحظةً من حياتهم في هذه الدنيا من دون رضا محبوبهم, ويتمنون ألا تشرق عليهم شمس اليوم الذي يعبسُ الله في وجوههم, فهم لا يريدون شيئاً من هذه الدنيا إلا ابتغاءَ وصال الله ومحبته وطاعته ورضاه, فالله تعالى يقول:  إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً{9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً{10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً{11} وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً{12{, فجنة الأبرار هي في الدنيا, فهم في لذةٍ لو عرف بها ملوك الأرض لنازعوهم عليها بسيوفهم, وأيضا لهم جنة الخلد في الآخرة فما هو الحرير إذاً؟ هل هو اللباس أو القماش؟ والسؤال هل الحرير غالٍ إلى هذه الدرجةِ؟ فهل يكون هذا الحريرُ جزاء للإنسانِ المؤمنِ بعد أن يصل إلى مقامِ الأبرار؟ وكان نساء المؤمنين يلبسنهُ في الدنيا مع نساء الدنيا ؟
إنَّ الحرير الذي يتمتع بالنعومة هو رمزٌ لحياتهم في الدنيا والآخرة فتصبح عبادتهم وسلوكهم إلى الله في الدنيا والآخرة ناعماً سهلاً ميسراً لا يمسهم فيه اللغو ولا النَصَبُ, فالأبرارُ لهم في الدنيا جنة وفي الآخرة جنة, لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }الرحمن46, ولكن أهل الدنيا محجوبون عن رؤية جنة الأبرار الدنيوية, كما أنَّ أهل جهنم الأخروية محجوبون عن رؤية جنة الأبرار في الآخرة, وهؤلاء الأبرار عندما ينتقلون من جنة الدنيا إلى الآخرة يرون فيها نعيماً كانوا يرونه في السابق, وكانوا متمتعين به فيقول الله تعالى في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة25.
فعندما يرزقهم الله من ثمار جنة الدنيا فإنهم يتعرفون عليها لأنَّ الله رزقهم من أمثالها في جنة الدنيا, فيقولون هذا ما رُزِقْنَا به من قبل, فما هي هذه الثمار هل هي ثمار الدنيا من الفواكه وغيرها؟ وهي الثمار التي يأكل منها البر والفاجر والكافر وحتى الحيوان ؟!
 إنَّ أشجار الجنة ترمز إلى أعمال عبيد الله من الأبرار وطاعتهم لله وهي التي تحمل الثمار, أي ثمار الإيمان الصحيح, إنَّ الله تعالى لن يضيع إيمان المؤمنين الصالحين, لأن الله تعالى يقول: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }البقرة143
, ويقول أيضاً: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }آل عمران195.
وهده الآية الأخيرة لا تشمل كل البشر, إنما تشمل الأبرار فقط, فلو رجعت إلى الآيات التي قبلها من سورة آل عمران لرأيت أنَّ بعض الناس دعا الله تعالى فقال : رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ{193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ{194, فدعا هؤلاء الناس أن يتوفاهم الله مع الأبرار, عندها استجاب الله ربهم لهم وقال: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{195}.
ولما كان إيمان هؤلاء إيماناً صحيحاً فإنَّ أعمالهم لن تضيع هباءً, وأما الذين لا تقوم أعمالهم على إيمانٍ صحيحٍ فإنها تضيع كالهباء المنثور, فيقول الله تعالى بأنَّ أعمالهم وإن كانت كالجبال ولكنها ما دامت لم تصدر من إيمان صحيح, فإنَّ الله يضيعها كما وصفها بتلك الآية الكريمة: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ }إبراهيم18, وقال أيضاً: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }الرعد14, هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين الأعمال الصالحة والإيمان, فأشجار الإيمان تذبلُ إنْ لم تسقها أنهار الأعمال, وأنهار الأعمال تجف ما لم تسقها ينابيع الإيمان الصحيح, فذلك أنَّ جنة كل مؤمن تمتلئ بأشجار الإيمان التي ترتوي من أنهار أعماله فتثمر ثماراً يجنيها المؤمن كلما شاء.
فأشجار إيمان المؤمن بالجنة ستظل ترويها أنهار أعماله في الآخرة, وستثمر له ثماراً قطوفها دانية, وهذه الثمار ستكون محببةً إليهم لأنها ستقربهم من الله تعالى, وقد شبَّه الله تعالى الإيمان بالشجر, لأنَّهُ قد يفنى إنْ لم يرتوي بماء الأعمال الحسنة والصالحة, لذلك فإنَّ الأعمال الحسنة هي المياه التي تجري من تحت أشجار الجنة الإيمانية, وقد ورد مصداق لهذا الأمر في الحديث الشريف الذي أورده البخاري في أنَّ هناك شجرة يسير في ظلها الراكب مائة عام, فما هي تلك الشجرة التي يستظل بها الراكب مئة عام؟ لابد أن تكون لأحد المؤمنين الأبرار الذي نال حظاً كبيراً من الإيمان بالله تعالى, وهو سيدنا محمد, فهذه الشجرة الكبيرة التي تثمر أعلى مرتبةٍ إيمانيةٍ تحتاج إلى نهرٍ كبيرٍ من الأعمال كي يرويها فما هو هذا النهر؟  إنهُ نهرُ الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه, قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ }الكوثر1.
وبما أن أعمال النبي شملت كل المؤمنين في الدنيا فإنَّ أعمال النبي ستكون في الآخرة كنهر يشرب منه المؤمن في الآخرة كما شرب من نهر عمله في الدنيا وهي الحياة الروحية في الدنيا وبالتالي كل المؤمنين سيَرِدُونَ حوض النبي ليشربوا منه شربةً لا يعطشوا بعدها أبداً.

أمانة علمية : ان ما ورد بهذه المقالة في اقسامها الثانية والثالثة كان مقتبسا مما اورده الاستاد مصطفى ثابت رحمه اله تعالى في برنامجه سؤال جريء واجوبة في الصميم الذي عرضته قناة mta3 للرد على قناة الحياة بشأن النعيم في الجنة حسب المفهوم القراني مع بعض الإضافات والزيادة التي تدعم الرأي وتعضده .