اكتبُ اليوم عنه وكأنّي أجلسُ اليه .
في مساء الثامن والعشرين مايو من هذا العام كنتُ هناك ، زوجي وأنا نجلسُ على بُعد نصف متر من يسراه . ننظرُ في وجهه ونُصغي . كريمٌ مثله تُخجلنا ثقافته من ان نقول شيئاً أو نُقاطعه . . سنواتُ عمرٍ طويلة أمضاها فوق الجبال مُطارداً مطلوباً . رفاقُه معه ، لم يأخذوا معهم غير ادوات الحلاقة وبنادقهم ودفاترهم . لم يكونوا في نزهة . هم في مهمة نضالية دائمة . لكن مُطارديهم ظلّوا ينطحون الجبل فلم ينالوا منه ومنهم . خشي المقاومون لا على انفسهم ، بل على سيرورة نضالهم وهم على القمم العالية من الجبل الذي لا يهتزُّ ولا يتراجع على الرغم من كلّ اساليب العنف التي مارسوها ليُهينوا كرامة عنفوانه .
في عام 1975 بعد الاتفاق المُجحف/ بين الشاه وصدام / شدّوا الرحال الى ايران . وظلّت السنون تتعاقب والنضالُ لا يهدأ . هناك واضب الرجلُ الكبير على التعمّق في اللغة الفارسية . تحدّث بها وكتب . اضافها الى لغات اخرى يُتقنها .وظلّ مناضلاً كورديّاً ومثقفاً يجمع بين الفكر والقلم حتى حدثُ التغيير في الوطن بعد 2003 فعاد الى بغداد واعاد اصدار جريدة التآخي . اُعطِي له مبنى اتحاد النساء الذي لم يكن بقدر طموحه . فرمّم واصلح وغيّر حتى غدا ملائما لاصدار الجريدة . كان العاملون فيه من الشباب فظهرت بحلة شبابية . وحين سئل كيف استطاع ان يُلبسها تلك الحلة الشبابية . اجاب بالتصميم وبالعمل وبجهد العاملين فيها .
يومئذ دخلت عليه احداهن وعرّفت نفسها .. كانت تعمل في اتحاد النساء وبيتها قريب من مبنى الجريدة . زوجها مريضٌ عاطل عن العمل جاءته تطلبُ عملاً ولديها خبرة صحفيىة . سأل العاملين معه عنها ، فاطمأن الى رأيهم فاسند اليها وظيفة . وكأنّي به يقول : اسيادُها مَنْ اساءوا الينا فما ذنبُها هي ؟ وكادت دموعٌ تملأ عينيّ فسارعتُ الى مسحها قبل ان يلحظها مضيّفنا . ليس ضعفاً مني ، بل هذه الرحمة ُ الآنسانية التي تعمرُ قلوب أمثاله هي ما سمحت لدمعي ان يسيل .
وحين اختير وزيراً للثقافة في اقليم كردستان حدّثنا عن مُعاناته في اداء واجبه الذي يُعامل الجميع على قدم المساواة من دون الانحياز الى الحزبيين الذين يرومون انجاز اعمالهم وحسب . فللمعاناة التي ظلّ يعيشها ثمنٌ . انهكتُه ، فطلب اعفاءه من الوزارة . تشبثوا به أكثر من مرّة . وبعد لأي ٍ قُبلتْ احالته على التقاعد ، كان قدّم الكثير على حساب صحته .
يُخيّلُ اليّ انّي ما زلتُ استمعُ اليه وهو يُحدّثنا عن بناته ، فهو مُحبٌّ لهنَ كونهن بعيدات عمّا يتجشمه الأبناء من الصعوبات كالخدمة الالزامية ومغامرات الحياة الصعبة التي يضطلعُ بها الرجلُ . لذا قال لتلك الاعلامية التي جاءته تطلبُ وظيفة وهي حاملً : اذا انجبتَ بنتاً فلك اجازة ٌ طويلة ، وهذا ما حصل . وقد استغرقنا جميعاً في الضحك .
بيتُه البسيط في مصيف صلاح الدين وبما يحويه من أثاث ينمّ عن تواضع الرجل المثقف الذي اغنته كتبُه الكثيرة ونضالاتُه الطويلة عن التشبث بما هو زائل وجامد لا يُغني الآخرين . وخلال جلستنا الطويلة قدّم لنا تسعة من كتبه ، وطلب الينا أن نختار كتاباً لكلّ منا ، يكتب اهداءه عليه . فاخترتُ روايته الاولى بالعربية / بطاقة يانصيب 1967/ واختار زوجي كتاب / احتفالاً بالوجود / وارانا بعضَ كتبه باللغة الكوردية . كما طلب الينا ان نزوّده بكتبنا المطبوعة . وحين عودتنا الى ستوكهولم بعثنا اليه بيد صديق عزيز عشرة كتب .
هذه القامة الابداعية الشامخة التي قدّمت الكثير وتحدّثت بلغات عدة وكتبت بها مع سجلٍ نضالي طويل جديرة ٌباعتلاء منصب وزير الثقافة . بين صدور كتابه الأول وكتابه الأخير/ لمَنْ تتفتحُ الأزهار 2012 / اربعة عقود ونصف . ناهيك عن مئات من المقالات والانطباعات التي نشرها واذاعها . واذ نحن نجلسُ اليه كان يُحدّنا عن مشاريعه الكتابية المستقبلية . هذا هو المُثقفُ المُتواضع الذي استقبلنا وودّعنا بنفسه برغم تعبه الجسدي وانهمار المطر الذي لم يعبأ به . حدّثتنا اخته أنها تستجيبُ لكلّ ما يطلب، وانشأت له مُتحفاً عن سيرورة حياته في الطبقة العليا من البيت ، كم اسفتُ حين ما استطعتُ ارتقاء السلم الى حيثُ المتحف وأنا اعاني من مفصل ركبتي . جاراني زوجي فلم ينعم برؤيته . وعجبتُ كيف لوزير مثله لا يضمُّ بيتُه مَنْ يقوم باعمال البيت .هذا هو تواضعُ الرجل المثقف حقاً . وكنا رأيناه مُتعباً ومع ذلك كان متحدّثاً حاذقاً ، مُتوهجَ الذاكرة.
لم ازر قبلاً وزيراً في بيته ، ولا تناولتُ طعاماً معه على مائدته . تُرى أتُنجبُ الأيامُ مثل هذا الألمعي المثقف المناضل المتواضع الرقيق ؟ خسارة ٌ أن نفقده وهو في اوج عطائه .