18 ديسمبر، 2024 7:07 م

الميل الطبيعي للسَّلْمِ والسلام

الميل الطبيعي للسَّلْمِ والسلام

الميل للسَّلْم والسلام هو ميل طبيعي بيولوجي لدى الإنسان وكل الكائنات الحية، وهي البنى الحيوية التي ليس من أهدافها العضوية من وجودها البيولوجي الاحتراب فيما بينها لكونه مكلف من الناحية البيولوجية، إذ قد يؤدي ذلك إلى فناء العضوية نفسها في حال انخراطها في حال حرب مستمرة قد تعيقها عن واجبها الأساسي والأول من وجودها البيولوجي ألا وهو حفظ نوعها ونقل مورثاتها إلى الأجيال اللاحقة.
وبشكل واقعي ملموس لا يستطيع أي ناظر مدقق في صيرورة تاريخ الحضارة البشرية على امتداد تاريخها المكتوب الذي يبدأ من حوالي الألف الثالث قبل الميلاد إلى أي حرب لم تجلب الويل والخراب والمآسي على مجتمعاتها، وخاصة الفئات المستضعفة فيها من الفقراء والمهمشين والمعاقين، ولم يستفد منها فعلياً سوى قلة قليلة من النخب التي تحصد دماء المتقاتلين أرباحاً سياسية أو اقتصادية أو غيرها، دون أن يغنم المتقاتلون شيئاً سوى الوهم بانتصارهم في الكثير من الأحيان على أبناء جلدتهم وعمومتهم، هذا عدا عن الحقيقة الدامغة بأن جميع بني البشر يشتركون بتطابق مورثي فيما بينهم بنسبة 99.5% تعيد كل البشر الراهنين إلى مجموعة بشرية صغيرة لم يتجاوز عدد أعضائها 500 شخصاً من جنس البشر الحاليين هومو سابينس هم الناجون من عسف شروط الحياة في العصر الجليدي الأخير الذي لم ينقض إلا منذ حوالي 12000 سنة وكان سائداً قبلها لحوالي 100000 عام، و هو ما يجعل بني البشر الراهنين جميعهم أخلاف عائلة واحدة موسعة وأبناء عمومة حميمين من الناحية المورثية كحد أدنى، لا يستقيم تقتيل بعضهم بعضاً من الناحية الأخلاقية في وجدان كل عاقل متعقل منهم يستطيع استبطان المعنى المعنوي لمدلول تلك الحقيقة العلمية المرهفة.
وبشكل أكثر واقعية فإن معظم حروب البشر فيما بينهم تعود لرغبة جامحة لدى النخب المتحكمة بمصائر مجتمعاتها بالحصول على «كل الكعكة وأكلها كلها»، وعدم ترك نافذة للحلول الوسطى التي هي جزء عضوي من آلية تفكير الدماغ البشري، وضالة أساسية في كل حركات الإنسان ككائن اجتماعي بامتياز يميل بشكل بيولوجي إلى المضاهاة Reciprocity، والتي تعني عملياً الرد بسلوك إيجابي على السلوك الإيجابي الذي يبديه الطرف الآخر، وهو نموذج التآزر البيولوجي المبتنى عضوياً في دارات أدمغة كل بني البشر، والذي لولاه لكانوا انقضوا واندثروا كجنس حيواني من مملكة الحيوانات، حيث لم يكن سوى تعاونهم وتبادلهم للمساعدة والميل لإيجاد الحلول الوسطى فيما بينهم أداة لحفظ نوعهم من الانقراض، وهم جنس حيواني دون فراء كثة تحميهم جور العصر الجليدي الأخير، أو أنياب ومخالب فتاكة تقيهم شر الضواري الأخرى في البرية.
وبشكل أكثر معاصرة، فإن الاستمرار في الاتكاء على العنف وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية بدل الحوار المتعقل والتفاوض لا يمكن أن يستمر في ضوء تعقد قدرات القتل والفتك للأسلحة المعاصرة، إذا كان يراد للمجتمعات البشرية الاستمرار في وجودها على كوكب الأرض بشكل مجتمعات حقيقية وليس بقايا من البشر الهائمين على وجوههم ساعين للبقاء على قيد الحياة مع الخنافس والصراصير التي يحتمل أن تكون الجنس الحيواني الوحيد القادر على البقاء عقب مواجهة نووية محتملة بين أي من القوى النووية العالمية سواء عن سبق إصرار وترصد، أو عن طريق الخطأ وهو ما كان محتملاً حدوثه في عدة حوادث مهولة لم تتطرق لها وسائل الإعلام المتسيدة المرتبطة مصالحها بمصالح الفئات التي تعتقد بأن قدراتها العسكرية الفائقة هي أهم ورقة تفاوضية تحملها في وجه أفرقائها، وهي الحوادث المتكررة التي قامت بتوثيقها مجموعة من الباحثين والعلماء المرموقين في مشروع «ساعة يوم القيامة» والتي تدعى باللغة الإنجليزية «Doomsday Clock» والتي توثق الحوادث المريعة التي كان يحتمل تحولها إلى كوارث أو حروب نووية مفتوحة بالخطأ، وتقدر مدى اقتراب البشرية من تخليق يوم القيامة وحساب البشر الخطائين بأيديهم وأسلحتهم النووية.
ولذلك أعتقد بأن الركون إلى استخدام القوة لم يعد متسقاً مع حاجات المجتمعات المعاصرة، وأن أجيالاً جديدة تتعلم من الحوار والتفاوض والحلول الوسطى وتتقن فن استخدامها هي الأمل الوحيد في بقاء بني البشر وحيواتهم على كوكب الأرض.