18 ديسمبر، 2024 9:33 م

الفعل الأخلاقي الحُر هو مجرد فكرة جميلة لا وُجود لها على أرض الواقع.
– في الفلسفة: الحرية المعنية هي مفهوم الحرية بصفة عامة، أي كمفهوم بغض النظر عن هذه الوضعية التاريخية الاجتماعية أو تلك، وبهذا المعنى يقول أندري لالاند: “إن فكرة الحرية المطلقة التي يمكن أن ننعتها بالميتافيزيقية، وخاصة في تعارضها مع الطبيعة تقتضي وجود فعل إنساني محرر من جميع العلل” نستنتج من هذا التعريف: أنه يعاني العالم في أغلب مجالاته من أزمة أخلاقية حادّة، وبالخصوص مسألة العدالة في ظل السياسة والعولمة، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الشعب الأمريكي ينتخب سياسياً لإدارة شؤونه والعالم في حين لم ينتخب العالم هذا السياسي!
بمعنى ان الشعب الأمريكي أكثر وزناً من الشعوب الأخرى، فهو ينتخب سياسياً لإدارة العالم في حين لم يكن لشعوب العالم أدنى اختيار بالموضوع!
وما ذلك إلا بفعل قوتها المادية التي تسيطر بها على العالم بشكل وآخر.
نزعج البعض من سماع كلمة “قيم أخلاقية في المجتمع” تعارض –مثلاً- انتشار صور لنساء شبه عاريات على واجهات المحال التجارية، أو تحذر من قنوات فضائية ومواقع انترنت تتعمد إثارة الغريزة الجنسية، أو إقامة المهرجانات والاحتفالات الصاخبة لجذب اكبر عدد من الفتيات والفتيان في مكان واحد، وحتى ظهور بعض النساء في الاماكن العامة وهنّ يبدين أجزاء من أجسادهنّ بشكل عفوي أو غيره، فكان الرد بدايةً؛ “لا عليكم! بالإمكان غضّ البصر”، أما القنوات الفضائية ومواقع الانترنت؛ “في يدك الكونترول، او عدم التحرّش بالمواقع المثيرة بالنسبة لكم”!
وفي مرحلة لاحقة جاء ردّ جديد –وربما قديم- بأننا نعيش في ظل تعددية فكرية وثقافية، وحرية فردية يكفلها النمط الديمقراطي في الحكم، وعليه؛ فنحن نعيش “حرية أخلاقية” الى جانب الحريات المعروفة رسمياً، مثل حرية الرأي والتعبير، وحرية العمل، وحرية المشاركة السياسية، فالحرية في هذا المجال تتيح لكل انسان أن يفسّر قيمة أخلاقية معينة كما يشاء، مثلاً؛ العلاقة بين الجيران، ففي بلد او مجتمع تكون هذه العلاقة متينة الى درجة العلاقة الأخوية، ملؤها التعاون والتكافل والتسامح، فلا يمرّ يوماً إلا ويكون ثمة تبادل التحايا والسلام فيما بين الرجال، وفيما بين النساء، وتبادل المشاكل والقضايا المشتركة في المنطقة السكنية الواحدة، بينما نرى هذه العلاقة في مجتمع آخر على العكس تماماً؛ مائعة الى حد الانفصال، حيث تمضي فترات طويلة لا يرى فيها صاحب هذا الدار جاره، ولا حتى يسلم عليه، ويسأل عن أحواله، نفس الأمر ينطبق على المثيرات الجنسية على نطاق عام.
حيث يقول أصحاب “الحرية الاخلاقية” المفترضة أن “الأخلاق هي موضوع نسبي بين شخص وآخر، وطبقة وأخرى، وحتى بين أسرة وأخرى، فلا توجد قيم ولا أخلاق موحدة، يتفق عليها الجميع”، كما يذهب البعض الى أبعد من هذا بانتقاد تحميل النساء مسؤولية حماية أخلاق المجتمع بسلوكهنّ الشخصي!
طوال القرون الماضية لم تواجه المجتمعات الاسلامية، من شرق الأرض الى غربها، مشكلة تسمى “المشكلة الاخلاقية”، بل مشكلتها كانت على طول الخط –وما تزال- مع السياسة والحكم، وايضاً؛ مشكلتها في العقيدة وتفسير النصوص الدينية، أما الأخلاق، كمفهوم، ومنظومة قيم يؤمن بها المجتمع، فأنها ليس فقط لم تكن مشكلة، بل وكانت تمثل القاعدة الرصينة التي يرتكز عليها استقرار المجتمع نفسياً وروحياً، فقد كان الحكام يوغلون في ظلمهم وقمعهم للأحرار والمعارضين، ويوسعون مساحات السجون والمطامير المظلمة، ويقطعون الرؤوس بلا هوادة، كانت قيم الأخلاق والفضيلة تزداد عمقاً في الثقافة الاجتماعية، بفضل جهود العلماء والفقهاء، وما جاد يراعهم بمؤلفات قيّمة بينوا فيها للأمة النظام الاسلامي بشكل متكامل.
هذا على صعيد الداخل؛ أما الخارج فقد كانت مساحات البلاد الاسلامية تتسع شرقاً وغرباً حتى وصلت اقاصي اندونيسيا والمغرب وافريقيا ليس بفضل الغزوات ومنطق السيف والقوة، وإنما بمنطق الأخلاق، وما كان يراه الناس هناك، من قيم الأخلاق الحسنة لدى التجار والمسافرين مثل؛ التواضع، والتسامح، والعفو، والأمانة، والصدق، بما يحقق لهم الحياة المثالية التي يبحثون عنها، حتى جاءت اللحظة التاريخية الحاسمة في المعركة الحضارية بين الشرق والغرب، فبدأت تتسرب الثقافة الغربية الى البلاد الاسلامية خلال مراحل زمنية، وفي ظروف مختلفة لسنا بوارد الخوض فيها، بقدر ما يهمنا تسليط الضوء على القراءة الأخرى، غير الاسلامية للأخلاق، والتي نرى البعض في بلادنا يردد هذه القراءة بغير قليل من الاعجاب.
بما أن الأخلاق بمنظومته القيمية يرتبط عضوياً بالعقيدة والدين، فقد كان للإيمان التأثير المباشر على طريقة تفسير الأخلاق، كمفهوم وسلوك عملي، فالإسلام يرى أن الانسان مكوّن من روح ومادة، وأن المشاعر والنوازع والغرائز تؤثر على سلوكه بشكل مباشر، في الوقت نفسه؛ يمتلك الإرادة والعقل والإيمان للجم أي اندفاع نحو الخطأ والرذيلة، ثم توظيف المشاعر والغرائز بأحسن صورة ممكنة.
بالمقابل نرى إصرار الغرب على أن سلوك الانسان محكومٌ بالضرورة بالدوافع المادية وحسب، وأي تفسير لسلوكه يستند الى حالة “ميكانزيم” ثابتة، فهو كائن مادي تحركه الغرائز والمشاعر؛ يعمل، ويكسب المال، ثم يشبع حاجته من الأكل والجنس، ثم يموت وينتهي كل شيء، ولا دخل للأخلاق في حياته الشخصية ولا الاجتماعية، وبقت هذه الرؤية في إطارها النظري لفترة طويلة حتى جاء من يسددها بتجربة عملية أبهرت الجميع من طبيب روسي يُدعى؛ ايفان بافلوف، وبينما كان يواصل تجاربه في دور اللعاب في أداء الجهاز الهضمي، لاحظ كلباً له يتغير سلوكه كلما كرر حركة دالة الى الطعام، كأن يطرق على الطاولة الخشبية، او يرن الجرس فيأتيه على الفور لتناول الطعام، فوضع يده على ما يصفونه اليوم بفتح كبير في منهج التربية والتعليم، ليس للكلاب والحيوانات، بل وللإنسان ايضاً!
فتوصل هذا الطبيب الروسي الى حالتين للأفعال المنعكسة التي تصدر من الانسان: الاولى: المنعكسة طبيعياً، كاستثارة الغدد اللعابية عند دخول الطعام الى الفم وإفرازاها للسائل اللعابي، والثانية: -وهي مدار البحث- الافعال المنعكسة شرطيةً، وهي الافعال التي تصدر من الجسم الحيواني والانساني بسبب الشرط المقترن بالمثير الطبيعي، كما لو اقترن صوت الجرس مع تقديم الطعام وتكرر مع تقديم الطعام لمرات عديدة فان الجسم البشري سيستجيب لصوت الجرس ويفرز اللعاب بمجرد سماعه لصوت الجرس.
وتثميناً لهذه الكشف العلمي تم منحه جائز نوبل في الطب عام 1904، ثم تحول هذا الكشف في مجال الجهاز الهضمي الى نظرية في علم النفس، بل والتقطته النظرية الماركسية على الفور وجعلته من أعمدة بنائها الفكري القائم على إلغاء الروح وتأصيل المادة في وجود الانسان، وهو المشترك الوحيد بينهم وبين بافلوف، علماً أن الاخير لم يكن ماركسياً قط، بيد أن تفسيره للسلوك البشري بطريقة آلية حولته من طبيب في الجهاز الهضمي الى أحد منظّري المدرسة المادية –ربما من حيث لا يريد- عندما فضّل “كلمة المنعكس الشرطي لا نها تعطينا فكرة أوضح عن الحتمية، وتكشف بصورة اكثر جلاء عن علاقة المنبّه بالاستجابة والعلّة والمعلول”.
وفي هذا السياق أجدني ملزماً بالإشارة الى المنطلقات الفكرية والظروف الموضوعية للبلاد المؤمنة بالمذهب المادي، سواءً؛ في الشرق أو في الغرب، لأن تنحو هذا المنحى من التفكير، فهي تفتقد للرؤية العَقدية الأصيلة كما هو لدى المسلمين، وكل ما انتجه المفكرون والفلاسفة في اوربا في القرون الماضية، كان يمثل محاولة لملء فراغ الكنيسة وما تركته من آثار سيئة في النفوس بسبب أحكامها وقوانينها المناقضة للفطرة الانسانية –في كثير من الحالات-، مما يمكننا القول معه بأن المناهج التربوية والتعليمية، والمنهج الفكري المادي إنما جاء استجابة لحاجة المجتمعات في تلك البلاد، بغض النظر عن صحّة او سقم هذه المناهج بالنسبة لنا.
أما في المدرسة الاسلامية فان الأخلاق والسلوك ليس همّاً فردياً، بقدر ما هو شعور جماعي بالمسؤولية، فاذا عرف العالم القيم الاخلاقية في الصدق، والأمانة، والاخلاص، والوفاء بالعهد، فان ثمة مفهوم أوسع يعطي الانسان قيمة كبرى في وجوده بالحياة عندما تكون “الأخلاق بالمعنى الأعمّ عبارة عن؛ المقدرة التامة في التحكم بالقوى العقلية والغضبية والشهوية، وبعبارة أخرى؛ هي كيفية التعامل مع الذات ومع الحياة ومع الآخرين”. (من محاضرات للفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي)، ويعضد سماحة الفقيد الشيرازي –طاب ثراه- كلامه برواية عن الامام الصادق، عليه السلام: “لا عيش أهنأ من حسن الخلق”، والعيش هنا ليس للإنسان بمفرده قطعاً؛ إنما يتعلق الأمر بجميع افراد المجتمع والأمة.
وهذا لا ينفي بأي حال من الاحوال وجود المحفزّات الطبيعية والواقعية لدفع الانسان نحو الخطأ، بيد أن الذي يغيب في كثير من الاحيان “قوة العوامل الحضارية والواقعية ايضاً؛ فالعصبية الى جانب الايثار، والشهوة الى جانب التعفف، والرياء الى جانب الاخلاص، وهي أمور واقعية معترف بها”، هذا القول مع أقوال أخرى لعلماء ومفكرين يؤكد مبدأ الثنائية في كفاح الانسان بالحياة، فهو ليس شرٌ كله، ولا خيرٌ مطلق، إنما صراع مستمر بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الفضيلة والرذيلة، وهو ما يشير اليه القرآن الكريم في عديد آياته الكريمة مقدماً رؤية سديدة لعلم النفس “مذكراً بالثنائيات في الكائنات، فمن حيث ذاتها الاصلية تحدد بالعدم والعجز والجهل، ومن ناحية المواهب والعطايا الإلهية تتمتع بالوجود، والقدرة والمعرفة، وحين تنعكس هذه الحقيقة الكبرى على صعيد النفس وتهبط الى مستوى التوجيه، نرى الاخلاق الفاضلة تتمثل في الشخصية التي تعكس حقيقة النفي والاثبات في الكائنات وتعمل بوحي هذه الحقيقة”.
هنا نكون أمام حقيقة ناصعة؛ لا وجود لمصطلح “حرية الأخلاق والسلوك” في القاموس الحضاري، بل نجد المعطيات على الأرض تؤشر الى عمليات قتل العقل والإرادة عندما يكون الانسان أسيراً مطاعاً للغرائز والرغبات الشخصية، مما يؤدي الى اضرار بالفرد ثم المجتمع والأمة بأجمعها، والشواهد واضحة لا تُعد أمام القراء الكرام.
إن وجود الضوابط والأحكام لكل ما يتعلق بأخلاقنا وسلوكنا له مردود ايجابي مباشر في حياتنا، على صعيد الحاضر والمستقبل ايضاً، نذكر منها:
أولاً: الاهتداء الى طريق العلم والمعرفة بإعطاء العقل الأهمية الكبرى على سواه مما يحمله الانسان من رغبات وشهوات ومشاعر، “فالأخلاق تمثل أصل وقاعدة ومنطلق العلم”، وفي رواية عن رسول الله، صلى الله عليه وآلة: “من طلب العلم لله لم يصب منه باباً إلا ازداد في نفسه ذُلاً، وفي الناس تواضعاً، ولله خوفاً، وفي الدين اجتهاداً، وذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلمه”.
ثانياً: تحقيق التماسك الاجتماعي المؤثر مباشرة في تحقيق السلم والاستقرار، من خلال تكريس مفاهيم الثقة، والامانة، والتكافل، وتفعيل الشعور بالمسؤولية الجماعية، ثم مكافحة كل فيروسات التمزق والتباعد بسبب الاهتمامات الشخصية بما تمليه الغرائز والنزعات النفسية، فبالقدر الذي يكون فيه الفرد آمناً في داره على أمواله وعرضه من السطو، والتلصص من النوافذ، كما يكون آمناً في السوق والشارع والجامعة من كل مظاهر الغشّ، والخداع، والخيانة، كان أقرب الى حل مشاكله وأزماته مهما كانت من منطلق الرؤية المشتركة الى الحل، والقائمة على قيم ومبادئ ثابتة.
ثالثاً: أجمع العلماء والمفكرون والمصلحون على محورية الأخلاق في تنمية الشعوب وتقدم الأمم والحضارات، وتجارب التاريخ تدلنا على أن انهيار الحضارات كان بعامل داخلي قبل ان يكون بعامل خارجي، فالشعب الذي يلهث شبابه نحو المثيرات الجنسية، يبحث طوال حياته عن اللذة العابرة، ومتقوقعاً على ذاته، ينفق الآلاف والملايين على مظهره ورغباته، لن يجد فرصة النهوض والخلاص من أزماته، فضلاً عن التفكير بالتطور والتقدم.
إذن، الأخلاق وبما أنها أمرٌ يتعلق بالصلة مع الآخرين، إذا تجاهلنا الحيوانات الأُخرى، هي شيء مثل الحُرية لا توجد إلا على مستوى اجتماعي، أي أنها لا تُوجد مجردة. فليس هناك شيء مجرد اسمه حُرية موجود في الإنسان الفرد المعزول، وكذلك ليس هُناك فعلٌ فردي أخلاقي حُر. وإنما هُناك فعلٌ فردي إنساني صادرٌ عن عقل، وهذا العقل أيضاً بما أنه ليس شيئاً مجرداً، ليس شيئاً فوق الاجتماع والتاريخ، فهو يتحرك ويشتغل من خلال لغة أفكار ومفاهيم ومشاعر محددة بواسطة الاجتماع والتاريخ. ولذلك فإن الفعل الأخلاقي الحُر هو مجرد فكرة جميلة لا وُجود لها على أرض الواقع.