23 ديسمبر، 2024 9:35 ص

الموصل.. نزيف الدم وثلاثية المؤامرة!

الموصل.. نزيف الدم وثلاثية المؤامرة!

كان من الممكن أن تمر دولة مصر بما هو أسوأ مما حدث ويحدث في العراق لتنشطر وتتشظى وتصبح عبئا كارثيا على المنطقة والعالم لولا إلتحام ضمائر أحرار قادتها مع آمال وتطلعات الجماهير، ولولا الاستشعار المبكر لحجم الكارثة واليقين المطلق لمن تصدّى للحسم بعدالة الموقف.. وهو ما ينبغي أن يحدث في العراق اليوم (بطريقة ما) لكي لا تنفجر الأوضاع بشكل يخرج بالأمور عن السيطرة، وخاصة بعد أنتقال الصراع مع الإرهاب من مرحلة تعطيل الأداء الى مرحلة تفكيك الدولة لتحويلها الى كانتونات تحكمها عوائل مسمّاة سلفاً تدين بالولاء لأطراف خارجية سرعان ما تجنح بعد اتمام الهدف المشترك (انهيار الدولة) الى التدافع والتناحر على مناطق النفوذ والثروة ليكون الانسان العراقي القاطن في هذه المقاطعات المتناحرة وقودا لحرب من الصعب تحديد أمدها أو قياس تداعياتها.. تتمثل مقدمات الخطر المحتمل في السقوط المفاجئ والمريع لمدينة الموصل. وتكاد تتفق أراء المراقبين على أن محور (السلاجقة الجدد ) المتمثل في الخط (التركي- القطري)- وعائلة النجيفي (محافظ الموصل و رئيس مجلس النواب) – وكذلك حلفاء أردوغان من القوى الكردية (البارزاني) يقفون بمسافات متباينة كُلّ حسب ما أنيطت به من مهام لإتمام عملية الانهيار المفاجئ. ليس من الصعب ادراك الأدوار القذرة التي أسهم بها كل من أسامة النجيفي للتمهيد لما حدث في الموصل، فقد بدا اثيل النجيفي أكثر جرأة في الإفصاح عن دوره في تعبئة أبناء المدينة واستغلال موقعه الوظيفي في منع من تصل اليه سلطته من الدفاع عن المحافظة وتكرار المطالبة في الإقليم والدعوات المتدرجة في الإستفزاز للسلطة ، وفي المقابل كان الدور المناط بأخيه أسامة النجيفي مختلفا ، ومعنيّا بالدرجة الأساس في إدامة الزخم المعارض للمالكي من قبل القوى الشيعية، والتغطية على تصريحات أثيل النجيفي بتصريحات تبدو مختلفة قليلا لكنها استدراك مقصود لكلام أخيه دون الإشارة له ، لكي تعطي الرسائل الاعلامية ثمارها وتصل الى أصحابها دون أن تثير شكوك الجهات الرسمية والمتابعين أو تلفت الأنظار الى أنها تأسيس مقصود أو إعداد مسبق من أخيه لأحداث لاحقة. وما زاد الأمر تشويشا هو أن التصريحات المناوئة والهدّامة أصبحت سمة مشتركة ما بين الأعداء الفعليين (الإرهابيين) والخصوم السياسيين على حدّ سواء ولم تكن مقتصرة على الثنائي النجيفي فقط، فالنائب بهاء الأعرجي لايعتقد هو الآخر بوجود عقيدة سليمة لدى الجيش الحالي بل نفى وجودها بالمطلق بما يعني أنهم (مرتزقة) وفي المقابل يمتدح الأعرجي علنا العقيدة القتالية للجيش في زمن المقبور صدام، رغم أنها كانت ترتكز على مقولة واحدة هي “اذا قال صدام قال العراق”، تلك العقيدة الفاسدة التي غزا بها الكويت، وأخمد بها إنتفاضة آذار، وجفف بها الأهوار، وقتل فيها ما قتل من أنفس بريئة في حلبجة بالأسلحة المحرمة دوليا، وحارب بها ايران ثمانية أعوام).. فالعقيدة في نظرهم لا تصُح إلا حين تضرّج كل يوم بـ(الدماء) وليست المستندة على حُسن الجوار والتعايش المشترك ومحاربة الإرهاب.. وقد أردف أثيل النجيفي تصريح الأعرجي بماهو أخطر في وصفه لسقوط الموصل في 9/6/2014 عبر قناة البغدادية وبعد أن نعتَ الجيش والصحوات بالمرتزقة قال ما نصّه .. ” أن الذي يحدث الان هو ان الارهاب له قضية- صحيح انها دموية لكنها قضية- واجه بها شعباً لا يحمل قضية ولا يعتز بهويته”.. والنجيفي أثيل لم يكن غافلا عندما قال ذلك، فلديه من الإلمام ما يميز به مفردة (قضية) والمستمدة من كلمة قضاء بما يمثل من صور العدالة الانسانية، فالإقرار بوجود قضية لجهة ما، هو بالضرورة إقرارا بعدالتها وبذلك يكون (الإرهاب عادلا) حسب نظرية النجيفي .. وهو يقصد ما أعلن بدليل  تصريح سبقه بيوم نشر في شفق نيوز 8/6/2014 قال فيه ما نصه : ” رؤيتنا في الإرهاب تنطلق من فهمنا لمذهبنا السني وسياسة المالكي تفتقر للحكمة “.. وقد إستدرك فيما بعد بعبارات غامضة لكنه أوصل رسائل الترحيب بوضوح، وما يعنينا هنا هل هو المالكي المقصود في الحرب الشعواء المنبعثة من أفواه الخصوم كإنبعاث العفن من أجساد الدواب النافقة أم الدولة العراقية؟ ، بلى أن إزاحة المالكي خطوة تمهد لما هو أكبر.. وليس ذلك تكهنّا مني، بل ما قاله أثيل النجيفي في البغدادية لبرنامج الساعة الفاشلة والموجود على صفحاتها أسوة ببقية التصريحات وكان ذلك في 12/5/2014 حيث قال ما نصّه “الخطأ في هيكلية الدولة التي اعطت القيادة العامة للقوات المسلحة بيد شخص واحد، وكذلك عدم استقلال القضاء، لذا ارجوا من العراقيين ان لا يفكروا فقط باستبدال السيد رئيس الوزراء، وانما عليهم التفكير في تفكيك هذه المنظومة التي ادت الى خلق الانفرادية في السلطة”..) .. التصريح على درجة من الوضوح لايحتاج معها الى تفسير، وذلك ما تُريد محاور الشر على اختلاف مشاربها أن تصل اليه. إذن الهدف هو (تفكيك الدولة العراقية) الذي انتقل الساعون لأجله والعاملين عليه، من مرحلة التعطيل الى مرحلة التفكيك الفعلي للدولة العراقية بإسقاطهم أم الربيعين، التي سقطت بسقوطها السريع والمفاجئ هيبة الدولة في نفوس الناس، يحتاج من بغداد فعلاً سريعا ومفاجئاً قبل أن تتكرر المأساة في العاصمة، فما جرى لا يتعدى أن يكون تمريناً لهذا الغرض، ورغم فشله في سامراء ألا أنهم وجدوه في الموصل أسهل بكثير مما كانوا يعتقدون!.. فالمحاور وأن اختلفت تجتمع على هذا الهدف، وعلى سبيل المثال، فالمحور الأموي والمحور السلجوقي يختلفون في جميع الأماكن الأخرى لكنهم متفقين في العراق طالما أنيط بأزلام البعث الصدّامي مهام التنسيق بينهما، وتعبئة المغفّلين لهما. أن القادم أسوأ إن لم تكن القرارات بمستوى اللحظة وبجسامة الحدث، فالتحديات التي تعكسها الوقائع، وبما تشكّل من مخاطر على العراق وشعب العراق، لم يعد تجاهلها أو تأجيل قرار الحسم فيها ممكناً.. فالعدو من القُبح واللؤم والخسة والغدر والقسوة ما يثير حفيظة الضباع إن قارنتها به.. وليس مستبعدا أن يرتكبوا جرائم كبرى للوصول الى مبتغاهم. فكم من الجرائم أرتكبت بحق المواطنين العراقيين من الشبك؟.. وكم من شباب وشيوخ ونساء التركمان أريقت دمائهم؟ .. وهو حال العراقيين جميعا، لكن التركمان الذين ملأت الأفق مناشداتهم!.. وتناثرت في أرض الشتات ودول اللجوء عوائلهم،  كان و مازال التجاهل غير المسؤول لهذه المناشدات الإنسانية هو سيد الموقف، وكانوا وما زالوا يدفعون الفاتورة الكبرى .. منذ عقد والحال هكذا، لكن وعندما تقتضي المصلحة (السلجوقية) ويحين وقت التمهيد لإعلان (ولاية الموصل)، لن يتردد أحد أي من الدواعش من إرتكاب جريمة إبادة جماعية لهم بطرق غير مألوفة لفسح الطريق أمام غزو عسكري تركي بذريعة (حماية التركمان) وبشكل مماثل لما جرى في (جزيرة قبرص) للسير في جنائز ضحاياهم وسلب هذه الشريحة المناضلة من شعب العراق التي شهدت بتضحياتها الجبال والأهوار معاُ، سلبها تاريخها النضالي في العراق وجردها في سجل الممتلكات القومية للباب العالي.. ليس علماً بالغيب، ولا إدعاءا للكهانة عند القول بذلك، لكن المؤشرات والمستجدات على أرض الواقع العراقي ومسار الأحداث قياسا بتاريخ الأطراف الأخرى وما ينطوي عليه من أطماع وبشاعة وتكفير، يؤكد مثل هذه التوقعات ويبقي أبواب الإحتمالات السيئة مفتوحة على مصراعيها.. وغزو (شمال) قبرص لأغراض إقتصادية وأهداف استراتيجية وقائية، مع كونها تحمل عضوية مماثلة لتركيا في حلف شمال الأطلسي هو مثال واضح على ذلك، وإرتكاب القادة الترك للمجازر بحق مواطنيهم الأرمن والآشوريين والسريان هو مثال آخر أكثر وضوحاُ.. ولا تقتصر مثل هذه التوقعات على (محور السلاجقة الجدد)، بل تاريخ و بشاعة محاور الشر الأخرى تشير الى ماهو أبعد من ذلك.. وكما يقول المثل الشائع “المال السائب يُعلّم السرقة”، فالدولة السائبة هي الأخرى تُعلّم جيرانها الغزو، فكيف إن كانت محاور الشر الفاتكة بالعراق اليوم قد ورثوا الولع بالغزو، والغدر بالأخ والصديق اذا ضعُف من السلالات التي انحدروا منها!. فاليوم وبعد استهانة الطبقة السياسية الحالية بالنظام السياسي الجديد والاستخفاف بالتجربة الديمقراطية المتمثل في عدم الاعتراف بما أفرزته الإنتخابات من نتائج لم تكن لصالحهم وخروقاتهم المتكررة للدستور ودعواتهم العلنية للتمرد المقترنة بالمماطلة في اتخاذ القرار النيابي الحاسم بوجه الإرهاب لصيانة حياة الشعب والحفاظ على سيادة وكرامة الدولة، وبعد أن جرّدوا المواقع السياسية العليا في الدولة من قدرتها على الفعل المؤثر، فلم يتبقى في الدولة العراقية من شواهد دالة على السيادة سوى الجيش العراقي وقد بات مستهدفا من قبل السياسيين وقنواتهم الاعلامية لتجريده من قدرة الدفاع حتى عن نفسه، ولم يبقى لعنوان المسؤولية الأول في الدولة العراقية من توصيف قادر على الفعل سوى (القائد العام للقوات المسلّحة) فالمسؤولية التاريخية والإنسانية والوطنية الملقاة على عاتق السيد المالكي اليوم تستدعي قرارات شجاعة وحاسمة تُلزم الجميع بمسؤولياتها، وتُعيد للحياة الدستورية وللتجربة الديمقراطية مضامينها الحقيقية بالإسراع في تشكيل حكومة الأغلبية السياسية القادرة على إسناد المؤسسة العسكرية وتنمية قدراتها و تعزيز معنوياتها، وعدم الاستجابة يؤول الى فقدان الطبقة السياسية لحصانتها وشرعيتها، ففي اللحظات الحرجة التي تُنتهك فيها سيادة الأوطان وتُهدد فيها حياة الشعوب لا يبقى أمام من تصدى بإرادته لتقلد المسؤولية في النُظم الديمقراطية من خيار سوى الأداء الإستثنائي الحاسم والمتلاحم مع رأس السلطة التنفيذية في البلاد، وما عداه فإن الديمقراطية التي وصل من خلالها الى موقع المسؤولية تنتزع منه شرعيته وتتصنفه في خانة الحنث باليمين الدستورية الذي يُعد خيانة عظمى .. ومن جانب آخر فإن الدول التي تعتز بهويتها وتحترم حياة أبنائها تُعلن حالة الطوارئ على أثر كارثة طبيعية أو إطلاقة مدفع من إحدى دول الجوار ، أما سقوط مُدن بأكملها بنسائها ورجالها وأطفالها بيد الإرهابيين فهو أمر غير قابل للجدل.. فحالة الطوارئ مادة دستورية وتعطيلها عندما يكون الوطن بحاجة ماسة لها يعد انتهاكا للدستور وهو ما يصنّف في عداد الخيانة العظمى أيضاً.. فالديمقراطية والدستور نفسه يلزم الآخر بتعطيل العمل به في الظروف الاستثنائية ، وهي بالنتيجة مسؤولية السلطة التنفيذية ومجلس الرئاسة في تقدير حجم المخاطر واستنفار كل عناصر القوة التي تمتلكها الدولة للحفاظ على هيبتها وتماسكها وحياة مواطنيها بما في ذلك تفعيل الشق الأمني من الاتفاقيات الدولية التي يرتبط بها العراق مع الدول الحليفة، وممارسة كل محظور تستدعيه الضرورة، فذلك ما تتفق عليه القوانين الوضعية وقوانين السماء وخاصة عندما يكون الأمر متعلقا بإيقاف نزيف دماء الأبرياء.