لم تشهد مدينة عراقية، ما شهدته الموصل من دمار شامل في العصر الحديث، عدا مدينتي النجف وكربلاء، اللتان تعرضتا الى تدمير جزئي، في أحداث عام ١٩٩١. لسنا بصددهما، لإختلاف الظرف. مدينة الموصل تعرضت الى مجريات أحداث عسكرية بدأت في اليوم السابع عشر من شهر تشرين أول عام ٢٠١٦، أي ما يقارب من تسعة أشهر من العمليات العسكرية. لا يخفى، إن هذه الحروب، أي الحرب الشاملة على الإرهاب، لم يشهدها العالم من قبل. فهي حرب حديثة بكل تفاصيلها، وبكل معطياتها، وهي ليست حرب شوارع بين أجهزة أمنية، ومتمردين، ولا مع عصابات مسلحة. كما هي ليست حرب نظامية بين دولتين، أو أكثر. هي حرب بين دولة ومنظمة إرهابية، أخذت شكل الدولة، بمقاييس الدول، من حيث الدعم، والتأييد. سواء بشكل علني، أو خفي. وهذه الحرب، كانت ساحتها المدن. والموصل هي أكبر مدينة في العراق، بعد العاصمة بغداد، من حيث الإمتداد، ومن حيث السكان. فمالذي حدث لهذه المدينة التأريخية من الداخل. يذكر إن قاضياً عراقياً سأل مخمناً للأثار، عن ثمن قطعة الأثار، التي حاول تهريبها المتهم، لتضمينه ثمنها، فعجز المخمن، وأجاب أنها قطعة لا تقدر بثمن. وكذا حال الموصل، أنها قطعة أثرية، كل جامع، وكل تكية، وكل بيت، وكل زقاق، وكل شارع في الموصل القديمة، قطعة أثرية لا يمكن تخمينها، ولا تقدر بثمن. عندما يساق مثل هذا المثال، حتى يعي الجميع حجم الخسارة التي لحقت بالعراق. خسارة لا تقدر أبداً بثمن.
الآن، والمهمة العسكرية توشك على الإنتهاء. وتعود الموصل الى حضن الوطن، بعد فترة إغتراب قسرية. لم تكن الموصل، ولا أهلها، طرفاً فيها. وإنما أطراف بعينهم، سيتم مقاضاتهم على هذه الفعلة، وإنزال القصاص بهم، طال بهم الزمن، أم قصر. هذه هي فلسفة العدالة، وما سوف يتم، هو حكم القضاء. ولكن، التساؤل الذي لا يمكن تجاهله، ماذا بعد تحرير الموصل. وما هي خطط الدولة، حصراً، لإعادة أعمار أم الربيعين. وما هو حجم المبالغ التي سوف ترصد لإعمارها. ومن سيقوم بالإعمار. أنها أسئلة مشروعة بحاجة الى أجوبة.
الأمر الآخر، أن قضية الموصل لا يجب أن يسدل عليها الستار، بحجة إن التحرير يجُّب ما قبله. هذا موضوع في غاية الخطورة. وعدم طرح قضية الموصل للحوار، هو، تدليس لقضية قد تتجدد، سواءاً في الموصل، ذاتها، أو في المدن المحررة من داعش، أو في مدن عراقية أخرى، للأسباب التي لم يبذل جهد لدراستها، والتي أدت الى سقوط تلك المدن، أو لأسباب أخرى، سوف يفرزها المستقبل، بعد تجربة داعش. لأن التستر على المشاكل السابقة، من سوء الإدارة، والمبالغة في الإجراءات الأمنية، التي وصلت حدودها القصوى، والفساد الذي إستشرى في مفاصل، كان يجب أن لا يصل اليها، وخاصة المؤسستين، الأمنية، والعسكرية. والجرائم الأخلاقية التي سادت بعض القطاعات، وكانت تتناقلها الأوساط الإجتماعية، دون أن يوضع لها حلول، إن كانت حقيقية، أو دون أن تردع بحزم، وبقوة، إن كانت تدخل في باب الدعاية المضادة الصفراء. وقد تكون هناك قضايا، ومشاكل، لا نعرفها، تعرفها الجهات المختصة، ذات العلاقة المباشرة بها. لقد كانت حقاً التجربة السابقة مريرة بكل المقاييس. وأظهرت لصانع القرار العراقي خطل السياسات السابقة. وقد آن الأوان لإيجاد خرائط طريق، تُستنبط من تجربة داعش، ومآسيها، على العراق، وعلى العراقيين، بكل أطيافهم.
لربما يعتقد بعض السياسيين أن الأوضاع بعد طرد داعش تعود الى سابق عهدها. وكأن العراق لم يستفد منها شيئاً. هذا خطأ أكثر من إستراتيجي. وإن سلك السياسيين هذا المنحى، فإنهم يسلكون طريق الهلاك، ليس لمستقبلهم، فقط، بل لمستقبل العراق. والقول على السياسيين، لا يعني الذين الآن على سدة الحكم، فحسب، بل حتى الذي سيأتون في الإنتخابات المقبلة، والذين سوف تفرضهم مرحلة ما بعد داعش. أي إن الحقيقة تقول، لصناع القرار، بأن العراق لن يستطيع تحمل تجربة سياسية فاشلة. كما لم يعد العراقيون يتحملون المزيد من ضياع الفرص. ولهذا، فإن تجربة إعادة إعمار الموصل، والمدن المحررة الأخرى، ستكون هي المعيار الذي يقاس به صلاحية أو فشل طاقم
…